“أوراق السجن: من أروقة الكنيست إلى سجون الاحتلال”

 

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ضمن “سلسلة ذاكرة فلسطين” كتاب أوراق السجن: من أروقة الكنيست إلى سجون الاحتلال لباسل غطّاس. يقع الكتاب في 319 صفحة، ويشتمل على فهرس عام.

يروي باسل غطّاس يومياته في سجون إسرائيلية عدة تنقّل بينها خلال فترة 23 شهرًا، في إثر اتهامه واعتقاله على خلفية قضية تهريب هواتف نقّالة للأسرى الفلسطينيين، ويتناول تفاصيل حياة الأسرى الفلسطينيين وقضاياهم السياسية والإنسانية في مختلف جوانبها، ساردًا ذلك كلّه من موقع الأسير خلف القضبان.

وفيما يلي أبرز محطات الاعتقال التي مر بها باسل غطاس في سجون الاحتلال الإسرائيلي

سجن الجلبوع، الخميس، 6/ 7/ 2017

حياتنا الحقيقية في القسم تكون في ساحته الداخلية، المعروفة بالفورة، نخرج إليها السابعة صباحًا ونعود إلى الغرف متى نشاء خلال النهار، باستثناء فترتين قصيرتين بين العاشرة والحادية عشرة صباحًا، والثالثة والرابعة عصرًا، حين تُقفَل الفورة ويعود الأسرى إلى غرفهم. وفي هاتين الفترتين يجري عدّنا، وكذلك تفتيش الغرف، ما نسمّيه الدقّ على الشبابيك أو دقّ الشبابيك. تُقفَل الفورة نهائيًا السابعة مساءً، ندخل إلى غرفنا وتُغْلَق أبوابها الحديدية علينا حتّى السابعة صباحًا.

خلال الصباح الباكر، وحتّى الظهيرة، الرياضة هي النشاط الرئيس، وتشمل العدو والمشي السريع ومختلف التمارين الرياضية، وبعد الاستراحة الأولى، يأتي دور طاولة التنس وألعاب التسلية الأخرى، مثل طاولة الزهر والشطرنج والدومينو.

بدأت منذ اليوم الأوّل ممارسة الرياضة الصباحية؛ مشي سريع وتمارين على الأرض من أجل ليونة الجسم، حتّى الثامنة أو الثامنة والنصف، ثم أعود إلى الغرفة لحمّام سريع، ثم أخرج إلى الفورة مجددًا مع كتاب، أتّخذ موقعًا بالقرب من إحدى المراوح الكبيرة المعلّقة على جدرانها، وهي أربع مراوح، علمت من الأسرى أنّها جديدة، أُحضِرَت وعُلّقَت قبل أسابيع، أي بعد الإضراب عن الطعام، وهي تُسهم فعلًا في تحسين الجوّ خلال أيام القيظ الصعبة الذي أدّى إلى أن يلغي الأسرى لعبة كرة الطائرة أمس.

الفورة على شكل مستطيل بطول ثلاثين مترًا وعرض خمسة عشر مترًا تقريبًا، وهي تفصل بين صفّين من غرف الأسرى التي تفتح أبوابها إلى الساحة مباشرة. خطر في بالي اليوم خلال الرياضة أن أعدّ الأسرى الموجودين؛ وجدتهم أكثر من أربعين بقليل، ولاحظت أنّ الفورة مكتظّة. فكّرت كيف سيكون الحال إذا خرج جميع الأسرى، وعددُنا مئة وعشرون، مرّة واحدة إلى الفورة. عدد من الأسرى، من خمسة عشر إلى عشرين، يمارسون رياضة العدو، ينتظمون في طابور، والطابور له حقّ الأولوية، على الآخرين ألّا يسيروا في مساره الدائري وألّا يعطّلوا سيره. من قواعد الطابور التاريخية أنّه بمرور ربع ساعة بالضبط يصفّق قائده، فيغيّر اتّجاه العدو للجهة المعاكسة. أمير مخّول مثلًا نشيط جدًا، يمارس رياضته الصباحية بانتظام، يمشي مشيًا، لكن بسرعة تتلاءم وسرعة الطابور، وبعد ذلك يقوم بمختلف التمارين، يحافظ بذلك على لياقة بدنية عالية أغبطه عليها.

اهتممت اليوم بشكل خاص بزيادة المشي وسرعته، ليس فقط خلال الرياضة الصباحية، وإنّما خلال فترات إضافية من اليوم، وخاصة بعد تناول العشاء، إذ إنّ للمشي أهمية خاصة في الهضم وحرق السعرات الحرارية.

للفورة شاويش، هو أحد الأسرى، ومعه طاقم عاملين من الأسرى يدعَوْن المَرْدَوانات. الشاويش مسؤول عن الفورة بكلّ تفاصيلها. سألته جادًا ماذا سيحدث لو خرج كلّ الأسرى، أي المئة وعشرون، مرّةً واحدة، إلى الساحة، فأجابني بالجدية نفسها أنّ جرس الإنذار يُضْرَب وتُعْلَن حالة الطوارئ. فهمت منه أنّ أنظمة السجن تمنع أن يكون في الساحة في الوقت نفسه أكثر من ستّين أسيرًا، وأنّ هذا في معظم الوقت يحدث من تلقاء نفسه، من دون حاجة إلى أيّ تدبير.

مدينة السجن الجامعية: الدراسة الأكاديمية، الخميس، 27/ 7/ 2017

استمررت في لقاءاتي مع قيادات الفصائل الفلسطينية كافة بخصوص ضرورة إعداد دورة تعليمية وتدريبية للشباب صغار السنّ في القسم، دورة أوّلية ووطنية شاملة، تكون خارج نشاط الفصائل الداخلية في التعبئة ورفع الوعي، وهذه الأخيرة بالكاد موجودة! اتّفقنا على تشكيل لجنة خاصة من كلّ الفصائل من أجل التخطيط والتنفيذ. آمل أن نجتمع قريبًا لبدء العمل. أبلغت الجميع أنّ دوري سيقتصر على الاستشارة في التخطيط.

في حديثي مع أحد الشباب استمرارًا في استطلاع مستوى المعرفة عند الأسرى الصغار، سألته:

-هل تعرف الجليل؟

-لا.

-هل تعرف النقب؟

-نعم.

-كيف تعرف ما هو النقب ولا تعرف ما هو الجليل؟

-النقب هو سجن النقب.

يا للهول! أيّ مأساة هذه التي نعيش؟! هؤلاء الشباب الذين يدفعون سنوات من عمرهم في السجن بسبب انضمامهم فطريًا إلى مقاومة الاستعمار بالتظاهر وبرمي الحجارة والمولوتوف على قوّاته والعراك مع الشرطة، أغلبيتهم متسرّبون من المدارس ولا يعرفون جغرافيا الوطن الذي يضحّون من أجله، إلا من خلال السجون.

أنت حرّ! اليوم الأخير في السجن

مرّ اليوم الأخير في السجن، 26 أيار/ مايو 2019، بشكل عادي، مع هواجس ومشاعر لا تخلو من التفكير فيمَن سأتركهم ورائي غدًا في السجن، في مصير الشباب الذين يملؤون أقسامه وهم لا يزالون ينتظرون محاكماتهم؛ هل سأرى أحدًا منهم مجدّدًا؟ الانقطاع عنهم يجعلك عاجزًا عن معرفة أو متابعة أبسط الأشياء.

قضيت آخر ساعات النهار في الفورة أسير مع مختلف المجموعات التي تسير ذهابًا وإيابًا في الساحة؛ لتبادل الأحاديث الوداعية نوعًا ما. حوالى الخامسة، أي ساعة قبل انتهاء الفورة، رتّبت لجنة الجبهة الشعبية في القسم احتفالًا وداعيًا قُدّمت فيه التضييفات الخفيفة، ودُعِيَ إليه موجّه فتح ومنسّق القسم، وحضر كلّ الرفاق من الشعبية. تبادلنا الكلمات التقديرية وشكرت الجميع على حفاوة استقبالهم لي خلال الشهرين اللذين قضيتهما معهم في مجيدّو. قبل أن ننهي اللقاء، تحدّثت إلى المسؤولين عن تخوّفاتي ممّا قد تفعله سلطة السجون، وهو الشيء الأخير الذي بوسعهم أن يفعلوه؛ …

في ساعات المساء رتّبت ما تبقّى من حاجياتي، وقد أهديت جزءًا منها لبعض الرفاق، وتركت الباقي للتنظيم حتى يقرّر في كيفية توزيعه، وأبقيت فقط على ملابس الإفراج وبعض الحاجيات الضرورية للاستحمام صباح الغد، وذهبت للنوم باكرًا، كما اعتدت في الأسابيع الأخيرة.

… ذهب الضابط، وبعد قليل حضر ضابطان أعلى رتبة منه، وكان الاثنان عربيّين، وفي نوع من المزاح والجدّ أخبراني أنّ ساعة أكثر من اللازم، وأنّ الأوامر تقضي بخروجي بأسرع ما يمكن. قلت لهما إنّني أنا أيضًا أحبّ الخروج للحرّية بأسرع ما يمكن، لكنّني سأخرج بطريقتي بعد أن أهيّئ نفسي كما يجب، وبدل أن نقف نتجادل حول الوقت، طلبت أن يفتحا الباب لكي أخرج للاستحمام والحلاقة، وبعدها سنرى كيف تتقدّم الأمور. وهكذا كان، لكنّ الاثنين وقفا خارج الحمّام في انتظاري، مع حثّ دائم بنبرة لطيفة أن أستعجل.

بعد خمس وأربعين دقيقة كنت جاهزًا. ودّعت رفاقي في الغرفة وأخذت ما تبقّى من أغراض، وهي بالأساس رسائلي ووثائقي الطبية، وضعتها كلّها في كيس واحد وخرجت.

بعد خروجي بأقلّ من دقيقة، أُخِذتُ في ممرّ جانبي، في وسطه بوابة أُخرِجتُ منها، وهناك وجدت ثلاثة ضبّاط ينتظرونني في شارع داخلي بجانب سيارة من سيارات السجن. كان الضبّاط يحملون ملفّات عليها أوراق للتوقيع.

كلّ شيء كان جاهزًا خلال أقلّ من دقيقة. تبيّن أنّ السيارة بوسطة، من النوع الصغير، مقاعدها عادية لا معدنية، لكن من دون شبابيك. جلس إلى جانبي أحد السجّانين، وهو أيضًا عربي. أوّل توقّع كان لديّ أنّهم سيأخذونني إلى بوّابة السجن الرئيسة، أو بوابة جانبية، ثمّ يطلقون سراحي هناك، لكن بعد أكثر من خمس دقائق من السياقة، استنتجت أنّ الهدف أبعد من ذلك. استفسرت من السجّان الذي بجانبي، في البداية تملّص من الجواب، ولكن بعدها كشف لي أنّهم يأخذونني إلى مدينة العفّولة، حيث سيُطلق سراحي هناك، في محطّة الباصات المركزيّة. المسافة من السجن إلى مدينة العفّولة لا تحتاج أكثر من ربع ساعة أو عشرين دقيقة. فكّرت خلال الوقت القصير في ما عليّ فعله وكيف لي أن أتصرّف، خاصة أنّني لا أحمل أيّ نقود. بقي عندي حساب في الكانتينا، أكثر من ثلاثمئة شيكل، لكن اعتبرت أنّ إعادة المبلغ إليّ ستتطلّب أسابيع، وربّما أشهرًا، وسيكون ذلك بشيك رسمي، شأن الدوائر الحكومية. وصلنا، توقّفت السيّارة، فتح الباب ضابط من أبو سنان، كان هو مسؤول هذه المهمّة، قال لي: “أنت حرٌّ”.

ترجّلت من السيارة، أخرج الضابط كيسًا وبدأ يعدّ نقودًا: مئة، مائتان، ثلاثمائة وخمسون شيكلًا. قلت في نفسي إنّهم على الأقلّ في هذا الموضوع تصرّفوا بعقل. خاطبت الضابط وأنا أضحك بملء فم يستنشق أوّل مرّة هواء الحرّية منذ سنتين: “هل حقًّا أنّ جهازًا كبيرًا ومخيفًا مثل إدارة السجون، يخطّط وينفّذ عملية كاملة كهذه، فقط ليحرمني من رؤية ومعانقة عائلتي عند بوّابة السجن بوجود وسائل الإعلام؟”، وسرت خطواتي الأولى في طريق الحرية.

سياسة ممنهجة

توضّح يوميات ” أوراق في السجن” لباسل غطاس السياسة الممنهجة للنظام الإسرائيلي الاستعماري في التعامل مع الأسرى في سجونه، فتكون أبسط الحقوق الإنسانية، مثل زيارة طبيب أو قريب، أو حتى الأمور الإجرائية الاعتيادية، مثل التنقل إلى محكمة أو سجن آخر، جحيمًا يعيشه الأسير الفلسطيني كل لحظة. وهو ما يتطلب أن تتصدر قضية الأسرى الفلسطينيين جدول العمل الوطني على الصعيدين الرسمي والشعبي، جراء ما يعانونه من إجراءات وتدابير من قبل سلطات السجون والمعتقلات الإسرائيلية.

اترك رد