جميل الدويهي: الشاعر ليس فيلسوفاً

 

ليس من شاعر فيلسوف في شعره، مهما اجتهد بعض الناس في تدوير الزوايا، وذرّ الرماد في العيون، لسبب بسيط هو أنّ الشعر لا يحتمل الفلسفة.

عندما نتحدّث عن الفلسفة، نتحدث عن مذاهب الأرسطية والأفلاطونية والأبيقورية والنتشوية والديكارتية والماركسية… والاتجاهات المختلفة المرتبطة بأسماء كبيرة في التاريخ، لم تشتغل في الشعر إطلاقاً. وقد يكون أحد الفلاسفة، مرّة أو مرتين في الزمان كلّه، كتب قصيدة، لكنّ القصيدة نفسها رغم ذلك، ليست فلسفة.

الذين يحمّلون الشاعر صفة فيلسوف هم كمن يحمّلون شاعر الزجل صفة أديب. وقد باتت الترقيات في كلّ مجال تُعطى مجاناً، وهناك أناس متخصصون في هذه الترقيات، وجيء بهم لوظيفة معيّنة هي ترفيع الصفوف وتحقيق المساواة بأي ثمن، ولو عن طريق التعمية والسفطائيّة.

ولو كان النقّاد الفاهمون والدارسون وحدهم هم الذين يحكمون في الإبداع لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه، من الفوضى واختلاق النظريّات الغريبة التي لا تركب في أيّ علم. حتّى أصبح المبدع في كلّ مجال يتمنّى أن يكون له مقعد في جوقة محدودي الإبداع.

إنّ فاقد الشيء لا يعطيه، والأصل في من يكتب النقد، 1-أن يكون ناقداً متخصّصاً، 2- وإذا لم يكن كذلك يجب أن يكون أديباً، يعرف أسرار الرواية والفكر والقصّة القصيرة… 3- أو أن يكون شاعراً يتقن كتابة الشعر ليحكم في الشعر. وإذا كان المرء ليس من هؤلاء الثلاثة، فهو طارئ، وقد يثير الفوضى بسبب قلّة فهمه، كما يثير الفوضى والدمار مَن لا يعرف الهندسة ويريد بناء مدينة.

لو استعرضنا أسماء الشعراء منذ فجر التاريخ إلى اليوم، فمَن منهم أُطلق عليه لقب فيلسوف؟… زهير بن أبي سلمى، عنترة، بشار بن برد، المتنبي، لامرتين، فيكتور هيجو،  إدغار ألن بو، أحمد شوقي، سعيد عقل، نزار قباني، محمود درويش، زغلول الدامور، موسى زغيب… فرجاء  يا أهل العِلم اعطوني اسماً واحداً من هؤلاء العظماء كان فيلسوفاً، أو اعطوني اسم فيلسوف واحد نشر فلسفته عن طريق الشعر… فلعلّ ثقافتي محدودة وأستفيد من معرفتكم.

وقعتُ في التاريخ العربي كلّه على بضع قصائد تنطوي على أفكار عميقة ولا ترقى إلى الفلسفة: قصيدة اين سينا عن النفس البشريّة، وقصيدة “المواكب” لجبران، وقصيدة “الطلاسم” لإيليّا أبي ماضي. ورغم اجتهاد أبي ماضي، وتضمينه القصيدة لمحات فلسفيّة جديرة بالاهتمام، فلا نعرف نهجه، ولا تبنّى موقفاً فلسفيّاً يذكر، ولا هو صاحب مدرسة. وتأثّر أبي ماضي بالرابطة القلمية في أميركا الشماليّة وبصديقيه الأقربين جبران ونعيمه اللذين حمّلا النثر فلسفة لم يقدر الشعر على حملها، فالنثر هو الرافعة الوحيدة التي ترتفع بها الفلسفة، ومهما بلغ نبوغ هوميروس في الشعر والتأريخ واختلاق الأساطير والمرويّات، ومثله شكسبير والمتنبي، فليس من شاعر فيلسوف في شعره.

ولا أزال أتمنّى كلّ يوم أن يٌترك النقد لأهله. ونحن نخشى أن تكتب نقداً صحيحاً، بسبب اتّهامنا بالشخصيّ. وأصبحت هذه بدعة البدع، وعمل قمعيّ موصوف لكمّ الأفواه، ومنعنا من إبداء الرأي، وإخراجنا من الساحة، ليحلّ محلّنا مَن يمدحون ويطبّلون بدون معرفة.

***

*جميل الدويهي – مشروع أفكار اغترابية للأدب الراقي

النهضة الاغترابية الثانية – تعدد الأنواع

اترك رد