إقرأ عن أوّل رواية في تاريخ أستراليا إعداد د. جميل الدويهي

 

 

 

“Quintus Servinton” أوّل رواية في تاريخ أستراليا- رواية مبنيّة على وقائع حقيقيّة

كتبها هنري سافري عام 1830

* زوجته أغرمت على متن سفينة، بالقاضي الذي سيحكم عليه فيما بعد…

*نجا من الإعدام قبل 24 ساعة فقط من تنفيذ الحكم…

* حاول الفرار إلى أميركا، فطاردته الشرطة في البحر وألقى بنفسه إلى الماء…

*أقدم على الانتحار بقطع شرايين رقبته في تسمانيا…

 

تعدّ النسخة الأصلية من رواية Quintus Servinton نادرة، فحسب علمنا، ليس هناك سوى ثلاث نسخ فقط منها، كان يحتفظ بها الطبيب ويليام كروثر، ومكتبة ميتشيل، والمكتبة العامّة في تسمانيا.

جاء في مقدمة الرواية أنها ليست عملاً خيالياً أو تصوريّاً. سواء في شخصياتها أو أحداثها… ولكنّها سيرة ذاتيّة، صحيحة في ملامحها العامّة، وفي تصويرها للأفراد.

فمن هو كاتبها؟

ولد هنري سافري (1791-1842)، وهو رجل أعمال ومزوّر مدان، في 4 آب 1791 في لندن، وهو الابن السادس لجون سافري، مصرفيّ من مدينة بريستول، وربما تلقى تعليمه في مدرسة أوسويستري غرامر. وخدم في تدريب مهنيّ في بريستول، حيث عمل في تكرير السكّر، وأفلس.

في 14 تشرين الأول 1815 تزوج إليزا إليوت، من لندن.

وبسبب إفلاسه في صناعة تكرير  السكّر، اضطرّ إلى توقيع فواتير وهمية، وطارده شريكه في المشروع، وتم القبض عليه، فأقرّ بأنّه مذنب، وحُكم عليه بالإعدام في 4 نيسان 1825، ولكن في اليوم السابق لإعدامه، خُفّفت عقوبته إلى النفي مدى الحياة. ولأنّ أستراليا كانت المنفى الرئيس للمحكومين والمدانين بجرائم خطيرة، فقد نُقل هنري إليها، ووصل إلى هوبارت، عاصمة تاسمانيا حاليّاَ، في  أوائل كانون الأول 1825، وعمل كاتبًا في مكتب الأمين العامّ المستوطنات البريطانية، ثمّ في الخزانة. وفي عام 1827 عيّن في مكتب النقيب المشرف على مؤسسة أراضي”فان ديمن”-  تسمانيا حاليّاً.

في أوائل عام 1828، أبحرت زوجته  إليزا إلى هوبارت، لتجد أنّ  زوجها ما زال ملاحقاً بسبب سندات، ومهدّداً بأمر قضائيّ  للديون. وزادت محنته بعد ذلك  بسبب الشكوك حول العلاقة بين زوجته وألجيرنون مونتاجو، المدّعي العامّ. وحاول هنري سافري الانتحار بقطع حلقه، ونجا باهتمام من الدكتور ويليام كروثر.

وبعد أن سُجن هنري بسبب الديون، غادرت زوجته إليزا مدينة هوبارت في منتصف شباط1829، ولم تعد.

أثناء وجوده في السجن ، وضع  هنري نصوصاً ورسومات تخطيطيّة للحياة في هوبارت لصالح صحيفة “كولونيال تايمز”،مستخدماً الاسم المستعار سايمون ستاكلي. وبعد إطلاق سراحه من السجن، ظهرت  روايته الأولى، والأولى أيضاً في التاريخ الأسترالي، Quintus Servinton. ونشرت في ثلاثة مجلدات في هوبارت في 1830-1831.

في حزيران 1832 حصل هنري سافري على بطاقة إخلاء، تسمح له بحرّيّة التنقّل، لكنّها ألغيت في  عام 1833 بسبب دعوى قضائية كان فيها هذه المرّة ضحيّة بريئة. في تلك الأثناء عمل في الزراعة، وحصل على عفو مشروط في أوائل عام 1838. ومرّة أخرى وقع تحت مطرقة الديون، فأقدم على تزوير الفواتير، واعتُقل.  وفي تشرين الأول 1840 أدين من  قبل المدّعي العامّ ألجيرنون مونتاجو. وأرسِل إلى سجن بورت أرثر الرهيب، حيث توفّى، ربّما من سكتة دماغيّة، في 6  شباط 1842.

القصّة الأولى في تاريخ أستراليا وأهمّيّتها

لعنوان القصّة “كوينتوس سرفنتون” دلالتان، فلفظة كوينتوس تعني العدد 5، وسيرفنتون هو اسم الأسرة القديم للكاتب: “سرفنغتون”، مع إضافة حرف “غ”  في الوسط. فأسرة سافري متحدّرة من سرفينغتون. وهنري يعتبر نفسه الولد الخامس في أسرته. وكان والده جون سافري قد أنجب ستّة أولاد آخرهم هنري، وبما أنّ الولد الثاني، الذي كان اسمه سرفينغتون، قد توفى بعد يومين من ولادته، فقد اعتبر هنري أنّه الخامس.

ويبدو جليّاً أنّ الكاتب يركّز على هذه النقطة ويعيرها حيّزاً من الاهتمام، فعائلة سرفنغتون تعود إلى عائلة أقدم من النبلاء. وكأنّي بالكاتب يريد العودة إلى الجذور كتعويض نفسيّ عمّا حدث له من معاناة وملاحقات قضائيّة متعدّدة، فهل هو يعكس الصورة الحقيقيّة لأصوله؟ أم يذكّر بتلك الأصول لكي يبعد شبح الذنوب عن نفسه، فيتحدّث بجرأة عن فخر الولادة “Pride of Birth”؟

والقصّة ذات أهمّيّة تاريخيّة أكثر ممّا هي ذات أهمّيّة أدبيّة، لكنها في الوقت ذاته تحمل معلومات مهمّة ومفصّلة عن حياة كاتبها، فكأنّها مذكّرات. ونفهم منها أنّه لم يكن شخصاً جاذباً، طوله خمس أقدام وثمانية إنشات، له شعر بنّيّ وعينان عسليّتان، ولم يكن مألوف المزاج. وتعطي القصّة التي رسمها هنري سافري انطباعاً حقيقيّاً عن عصره، في بدايات الاستيطان، وبدء تنظيم القانون والسجون في البلاد الجديدة، كما أنّها تركّز عليه كثيراً من حيث طبيعته وأعماله وتصرّفاته.

ولا يمكننا تصنيف الرواية ضمن أيّ إطار أو مدرسة، فكاتبها ليس مثقّفاً على مستوى عال، وقد تكون معرفته بالقصّة العالميّة مقتصرة على أعمال الكتّاب البريطانيين السابقين. لكن أن نقول إنّه يكمل طريقهم، فهذا مبالغ فيه، لأنّ القصّة شخصيّة الطابع، وفيها  تذكير بتلك الأيام، النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولذلك ليس غريباً أن يحمل الكتاب عنوانًا فرعيًا آخر تحت العنوان العريض:  “حكاية بنيت على أحداث حقيقية”  “A tale, founded on incidents of real occurrence”. ومن الممكن أن نلاحظ فيها اعترافات هنري نفسه، كأنّه الابن الضالّ في القصّة الإنجيليّة.

ولعلّ أهمّ نقطة يمكن أن تدهشنا في القصّة بأكلها، هو أّنّها كتبت في هوبارت – تاسمانيا عام 1930 – 1931، أي بينما كان في السجن. فقد كانت السلطات كما نستنتج، متساهلة في موضوع الكتابة. ونحن نعلم على نطاق واسع أن السجون في بداية عهد الاستيطان الأبيض في أستراليا، كانت من أكثر السجون قسوة وفظاعة، ويتذكّرها الأستراليّون برهبة حتّى الآن، وتُكتب قصص عن المعاناة فيها تصل إلى حدّ الخيال. فكيف استطاع هنري أن يدوّن أفكاره بحرّيّة؟ وهل كان الضبّاط يغضّون الطرف عنه؟

إنّ هذا يدعونا إلى إعادة النظر في المفاهيم المحيطة بطريقة إنفاذ القانون في البلاد الجديدة، وكذلك طبيعة التصرفات التي كانت تعتمدها السلطة تجاه المنفيين والمحكومين.

والملاحظة الثانية المهمّة أيضاً هي أنّ القصّة كتبت لكي تحوّل إلى لندن، “transmission to England”,  مع قليل من النسخات التي ستكون في المستعمرة – أستراليا.

وأعيدت طباعة القصّة عدة مرات، ففي عام 1962، ظهرت عبر “جاكاراندا برس”، مع مقدمة من سيسيل هادجرافت.

وفي عام 1984، أعيد طبعها من قبل جامعة نيو ساوث ويلز برس، ومن قبل جامعة سيدني عام 2003، التي اعتمدت على طبعة “جاكاراندا برس” السابقة، وفيها مقدمة هادجكرافت كما هي.

ومهما يكن من أمر، فإن القصّة بحسب أغلب النقاد الأستراليين، تقع تحت تصنيف جيّد، ولكن ليست كثيرة الأهمية، وقد يتفاجأ القارئ لها بتوقعات غير صحيحة. فمثلاً لا نجد ملامح الحياة الخاصّة بالكاتب إلاّ في الجزء الثالث والأخير منها، أما الجزءان الأوّلان فمكرسان، بتفصيل مملّ، لتبرير الكاتب فعلته التي أدت إلى النفي من بريطانيا، فهو واثق تماماً أن “مخالفة واحدة” كانت السبب وراء ترحيله. ولسنا ندري لماذا يجعل الكاتب من بطله “كوينتوس” يعيش في نيو ساوث ويلز، بينما كان هو في تسمانيا. وهذا التضليل المتعمد أبعدنا كثيراً عن فهم طبيعة ما يحيط به هناك، أي في الجزيرة البعيدة، وحياته بالتفصيل فيها. ويمكننا أن نستنتج هنا أنّ الكاتب قد تعمّد إبعادنا عن كثير من جوانب الحياة المحيطة به، أو أنّه فقد البوصلة الروائيّة الجيّدة والتركيز على الحدث الدرامي، فجاء مبتوراً وأعوج.

ومن يطّّلع على الوثائق المحفوظة في سجلات السلطات وإدارة السجون في تسمانيا، يجد أنها شبه مطابقة لما ذكره عن حياته السجنيّة، فما هو الفرق بين الواقع الجامد والحدث الروائي الذي يجب أن يتحرر منه وينطلق في أبعاد خيالية تتخطى الواقع؟

ولعلّ من الكذب بمكان أن يدّعي الكاتب أنّه ضحية الظروف والعوامل الخارجية. وقد يكون صحيحاً أن زوجته كانت عشيقة للمدعي العام مونتاجو، ولهذا نُفّذ عليه حكم صارم ذات مرة، ولكن، ماذا عن الجنايات الأخرى المتعددة في حياته؟ وماذا عن المخالفة التي أوصلته إلى أستراليا منفياً؟

في الحقيقة، لقد جلب المصاعب على نفسه. ولذلك تقول هادجكرافت: “ليس من الصعب جدًا الإشارة إلى أنه، وبصرف النظر عن البراعة الرائعة، وممارسة الشجاعة، فقد كانت لديه العديد من مؤهلات الرجل الثقة.” وبعد أن تفند هادجكرافت مجموع المخالفات المالية والتزويرية لهنري سافري في إنكلترا، تلفت إلى أنّ والده، جان سافري، أنقذ ابنه من مخالفات أخرى للقانون أقلّ خطورة. ولكنه أخيراً لم يتمكن من فعل أيّ  شيء لإنقاذ ابنه المتورط في العديد من أعمال التزييف،.وفي عام 1824، أصدر حوالة مزورة بقيمة 500 جنيه استرليني من غير علم شريكه في العمل. وعندما ألقي القبض عليه خاف أن يكون مصيره الإعدام، كم حصل للمصرفي الشهير هنري فونتلروي، الذي عاش في زمانه. فحاول أن يفرّ من البلاد، وعندما ألقي القبض عليه على متن سفينة مغادرة، قفز منها إلى البحر وكاد يغرق… لقد كان محظوظاً فعلاً بأن نجا من الإعدام في آخر لحظة، ونفي إلى أستراليا.

فهل مثل هذه التجاوزات التي ذكرناها هي صنع القدر الأحمق والظروف الخارجة عن إرادته؟

ولا يبدو في القصّة أن سافري قد تعلم من الأخطاء الماضية، على الرغم من “نضجه” الأدبي، وإضاعة جزء من حياته وراء القضبان. وهو يعترف بأن أخطاء حصلت،  لكنه يعزوها إلى الغيرة، الربح الماديّ، والحظّ السيّئ، واستقطاب الهجوم الشرس من مجموعة من الناس. وكانت النتيجة الاستقامة وعدمها في آن واحد.

وهذا الوضع المرتبك بين الاستقامة وعدمها، يجعلنا تتصور كوينتوس كرجل ضائع بين حقيقته ونفيه لتلك الحقيقة. وهذا عنصر نفسيّ طاغ على الرواية. وقد حاول هنري سافري مرات ومرات أن يتحدث عن النقطة نفسها، من خلال حوادث وقعت معه، وهي ليست ضرورية، فكأنه يريد أن يملأ الصفحات بأمور ثانوية، وخصوصاً عندما يخبرنا عن أيامه في المدرسة، وحبّه للعجول. ولا نقرأ إلا في الفصل الثاني عن عمليات التزوير.  وهنا فقط تبدأ الرواية بالارتفاع صعوداً.

ويتعمد الكاتب الإشارة إلى بطله كوينتوس، من خلال حادثة وقعت لشاب لم يذكر اسمه، أصيب بجُرح بينما كان يسير في ديفونشاير، وأُخذ إلى منزل زوجين عجوزين، تبدو عليهما علامات من زمن قاس وصعب. وعندما كان الشاب على وشك المغادرة، روى عليه الزوج العجوز قصّة حياته، كإنذار له…

والرواية نفسها تبدأ في العام 1772عندما ولد كوينتوس، وتنبأت عرّافة غجرية بأنه سيحوز على غبطة كبيرة وحزن كبير أيضاً في حياته، وحذرته بأن سنوات عمره بين الثلاثين والأربعين ستبدأ بأعوام من الكوارث. وتخبر بداية القصّة أيضاً عن السيدة سيرفنتون، حيث يكون كوينتوس الابن الحادي عشر لها، وتتنبّأ لها العرافة بأنها ستنجب سبعة آخرين. وينقل الكاتب عن أمه قولها: “إن حياتي مريرة، فلا يكاد ولد يمشي، حتّى يكون الآخر بين ذراعيّ. أنا على ثقة من رجائي بأن بناتي لن يتزوجن إطلاقاً. فهنّ يعرفن قليلاً عما يمكن أن يواجهنه. لدينا ولد آخر. وكنت أعتقد أن أربعة أبناء يكفون، ولا أعرف ماذا علينا أن نفعل مع ولد آخر”…

ويتحدث والد هنري، جون سرفينتون، عن “إعفاءات العناية الإلهية”، لكن يتبين لنا أنه لا يستطيع التوقف عن الإنجاب. بيد أن الأولاد الكبار يخيبون آماله، من خلال أفكار أكبر بكثير من قدراتهم، ورفضهم الذهاب إلى العمل، لذلك قرر السيد سرفينتون تربية كوينتوس بشكل مختلف تمامًا، وإرساله بعيدًا إلى المدرسة، وفي الواقع ، عزله تمامًا عن عائلته لفترة من الزمن. وبعد خمس سنوات. أي في السابعة عشرة من عمره، تم تعيين كوينتوس في شركة في لندن، بينما كان يقوم أيضًا بصقل أخلاقه وسلوكه من خلال الارتباط بأقاربه. وكوّن صداقات وعلاقات، وتخيّل نفسه واقعاً في الحبّ. وفي الوقت نفسه ظهرت لديه بعض الميول المقلقة، من بينها نفاد صبره، وميله إلى إحراز تقدّم بسرعة من خلال قفزات متهورة.

كل هذا من الفصل الأول من الرواية. وهو فصل لا يهز المشاعر، ولا يمتع المتلقيّ، ما عدا شذرات قليلة.

وفي بداية الجزء الثاني، يتعرف كوينتوس بأسرة كليفتون، فتجذبه على الفور ابنتهم الكبرى، إيميلي. ومع أن أسرة كليفتون تعاني من أوضاع مالية صعبة، يتزوج كوينتوس وإيميلي (مع أن زوجة هنري الحقيقية هي إليزا). وتؤمن الزوجة بأن عليها أن تتشارك مع زوجها في هموم العمل والحياة، والنجاحات والفرح أيضاً. وتطلب منه الثقة بها. وتكون الأعوام الأولى من الزواج بحسب رغبة إيميلي، ومع تصاعد هموم العمل وتعقيداته، تبدأ فترة من الإهمال من قبل الزوج. وبين الذنب والتهور من جهة، والتسامح وإعادة الثقة من جهة أخرى، يمكن القول إن حياتهما كانت سعيدة بشكل عام.

ويغوص الكاتب من هنا في الحديث عن مشاريع التجارة والمقامرة والمغامرة، ما أفقد النص الروائي كثيراً من الوهج والجاذبية، وصولاً إلى إلقاء اللائمة على الآخرين في أزمته، فالحدث الرئيس الذي يجسد تلك الأزمة، كما يرويه، هو “إفلاس زائف”، حدث عندما قام أحد التجار بإقفال تجارته وافتتاح أخرى في غضون أشهر، بمساعدة محام خبير في استغلال الثغرات في القانون. واحترقت أصابع كوينتوس في تلك المشكلة، خصوصاً عندما انتهى به الأمر مع أوراق نقدية تبين أنها مزيفة. وكانت تسمى في تلك الفترة Kites. وتلك القضية أساءت إليه، خصوصاً أن تجارته كانت تعاني من مشكلات مالية عميقة، وكان شريكه رجل آخر وفّر له رأسمالاً لكن كانت تنقصه المعرفة. وبدأ الشريك يتخذ مخاطر جمّة. وفي هذه المرحلة يقع كوينتوس فريسة للقدر مرة أخرى، إذ يصطحبه تاجر يدعى روثرو، من شركة “روثرو وشركائه”، إلى مكتب المحاسبة،  وتم تسجيل 500 جنيه بواسطة كوينتوس، وكانت فيها أوراق مزوّرة.

واكتشف كوينتوس أن ذلك التصرف جريمة، فكان يسأل في قلق وخوف:  إلى أي مدى يمكن أن تكون عقوبة الإعدام مناسبة لتلك الجريمة؟

وكان يأتيه الجواب الأكثر رعباً: الإعدام هو العقاب. لكنّ هناك أملاً بأن تكون المبالغ المزورة الكبيرة فقط هي التي تؤدي إلى الحكم بالإعدام، كما جرى للمزور الشهير هنري فونتلروي في ذلك الزمان. وكان كوينتوس يعتبر أن التحويل المالي غير القانوني لم يكن بعلم منه. وعندما مثل أمام المحكمة، كان شقيقه تشارلز موكَّلاً منه، وعلم أن أفضل طريقة للنجاة من الإعدام هي الإقرار بالذنب، والتسليم لرحمة المحكمة. حدث ذلك وسافري في عز شبابه. وجرت الأمور بعد ذلك بسرعة، فألغيَ حكم الإعدام بسعي من أصدقائه الأقوياء لدى الحكومة، وحكم عليه بالنفي إلى أستراليا. وعندما نشر الرواية عن حياته كان عمره 38 سنة. وهي كشفت جوانب مهمة عنه، لم يكن أحد من الباحثين يعرفها. وبعد صدور القصّة جرت بحوث عن أصله وفصله، وعن مسلسل حياته في إنكلترا.  وظهر من الوثائق أن ما يرويه متواز تماماً مع ما حدث له في عام 1824، والحكم بالإعدام بسبب تزوير في العُملة، ما عدا أنه يبرئ نفسه بكل وسيلة ممكنة. وكتبت صحيفة التايمز البريطانية (20 كانون الأول 1825) عن كيفية هرب سافري: “إنه بعد انكشاف أمره، غادر بريستول مع امرأة ذات خصائص معيّنة، وتبعته زوجته إلى بورتسموث، فشرح لها الأمر وطلب منها أن تعود قائلاً: ارجعي. ارجعي. سوف يتعقبون آثارك. ودماري سيكون شديداً. فعادت المرأة مع أفراد من أسرتها بعد ذلك.

وأراد سافري الهرب إلى أميركا. فصعد إلى الباخرة “هدسون”، لكن شريكه السيد سيوارد جدّ في إثره، وجرت ملاحقة الباخرة بقوارب، وعندما صعد رجال الشرطة إلى الباخرة، ألقى هنري سافري بنفسه في الماء، وبينما كانوا يحاولون إنقاذه، أخذ يضرب رأسه على حديد الباخرة يأساً”.

وفي المحكمة طلب منه القاضي اللورد غيفورد أن يعيد النظر في إقراره بالذنب Guilty، واعتبر القاضي أن ليس عليه أن يتوقع الكثير من الرأفة بسبب إقراره بالذنب. وأخرج هنري من المحكمة لبضع دقائق ليعيد التفكير في قراره، فعاد وكرر عبارة Guilty. عند ذلك قال القاضي بالحرف: إن مهمتي المؤلمة هي أن أبلغك أنك، هنري سافري، ستؤخذ من هنا إلى المكان الذي جئت منه، وهناك سينفَّذ بك حكم الإعدام شنقاً حتى الموت.

وكتبت التايمز عن تلك اللحظة: “عندما سمع السجين هذه الكلمات، ظهر أنه فقد كلّ القوة للتنفس، وأخفض رأسه”.

وكان مدهشاً أن أحد المدعين، جورج سميث، تقدم إلى القاضي طالباً الرأفة، لكن القاضي لم يجب، بينما أخذ رجال الشرطة سافري إلى مصيره. لكن الرياح جرت في صالحه، فصدر أمر حكومي بتخفيف العقوبة إلى النفي إلى أستراليا، وعندما أُبلغ سافري بذلك ركع على أرض السجن، وشكر الله على نجاته. وبقي في السجن 3 أشهر، قبل أن يصعد إلى السفينة “جوستينيا”، التي وصلت إلى هوبارت بعد 16 أسيبوعاً. وكتبت صحيفة “كولونيال تايمز” الناطقة باسم المستعمرة الجديدة آنذاك أنّ هنري سافري عومل بطريقة طيّبة على متن السفينة، ومُنح مسكناً منفصلاً عن المنفيين الآخرين، بطلب من الحكومة.

وبعد وصوله إلى أستراليا، كان سافري يحصل على 18 جنيهاً في الشهر، ثم رُفع هذا المبلغ إلى 30 جنيهاً، مع كمية محدّدة من الخبز واللحم. وكتبت صحيفة “هوبارت غازيت” في 3 آب 1827 أن مكتب سكرتارية المستعمرة كان مطالباً بتفسير كيف أن سافري، وبعد وصوله بشهر واحد، نجح في الحصول على شهادة، تمكّنه من تأمين سفر زوجته  إلى أستراليا بمصاريف عامة. وبالفعل، استقلت السيدة سافري السفينة “جيسي لاوسون”  التي واجهت عاصفة قبالة سواحل انكترا وتحطمت. وكانت السيدة سافري من الناجين، ثم صعدت إلى السفينة “هنري ويليسلي”، التي كان على متنها القاضي الشاب ألجرنون مونتاجو، وهذا سيصبح فيما بعد قاضياً يحكم بقسوة على زوجها، ويكون أيضاً عشيقاً لها. وقد كتب هنري سافري عن تلك العلاقة في روايته. وكتبت إحدى المواطنات من تسمانيا، سارة والكر، في عام 1884: “لقد نزلت السيدة سافري من السفينة مع القاضي مونتاجو، الذي عاش بعد ذلك في كانغارو بوينت، وهي عاشت في ماكواري. وكان مونتاجو هناك.  وكان هناك كتاب عن تلك العلاقة عنوانه كوينتوس سرفينتون”.

وصادفت العلاقة تلك وجود هنري في السجن. وكان مهدّداً أيضاً بقضية بسبب ديون. وبعد أسبوع واحد من وصول المرأة إلى تسمانيا في 30 تشرين الأول 1828، أقدم هنري على الانتحار بقطع شرايين رقبته، وأنقذه الطبيب ويليام كروثر الذي ظل يحتفظ بنسخة أصلية من الرواية. وأغلب الظن أن الانتحار حدث نتيجة لتداعيات الحياة الصعبة، وبسبب اكتشافه لأمر العلاقة بين زوجته والقاضي مونتاجو.

وعادت الزوجة إلى انكترا بعد بضغة أشهر من مكوثها في تسمانيا، بعد أن وجدت أن مشكلات زوجها انعكست على حياتها، ولم يرها بعد ذلك إطلاقا. وقد كتب بعد إطلاق سراحه في عام 1832 لكي يستعيدها، فلم تجب على رسالته.

وفي تلك الفترة، نجا هنري من قضية أخرى، فبينما كان في السجن كان يكتب مقالات بعنوان The Hermit of Van Dieman’s Land (فان ديمن هو الاسم القديم لتسمانيا). وموضوع تلك المقالات عن الحياة في الجزيرة،  وكان يوقّعها باسم مستعار، سايمون ساكلي. وأدت تلك المقالات إلى إشكال قضائي من جانب غاماليل باتلر، الذي حصل على 80 جنيه كتعويض من الناشر.

كل تلك القضايا تفصلها رواية “كوينتوس سرفينتون” بأسلوب عاديّ وبسيط. وقد كتبت عنها صحيفة “هوبارت كورير”: “لقد قرأنا الرواية الجديدة “كوينتوس سرفينتون” ورأينا أنها  لا يمكن أن تكون في الصف الأول بين نظرائها في الأيام الحاضرة. إنّها بعيدة جداً عن أن تكون من أوائل المنشورات في هذه الأصقاع النائية… الرواية مكتوبة بسهولة، وفي بعض الأجزاء ذات أسلوب أنيق ومؤثر، والذين يعرفون البطل أو يميزونه، سيقرأونها باهتمام بالغ. وعلينا أن نضيف أسفنا لأن اللغة المستخدمة في بعض الأجزاء لا تعبّر بطريقة دقيقة، وفي بعض الأحيان ليست سليمة”.

وبالفعل جاء في مقدمة الرواية الأصلي: “لو خدم الوقت والمناسبة، فربّما كان بإمكانه جعل العمل أكثر كمالًا في شكله وأسلوبه ولغته؛ ومع ذلك، فإن واقعيّة تفاصيله المشتركة لم يكن ممكناً تحسينها”. وهذا الإقرار من جانب الناشر أصدق تعبير عن أسلوب القصّة الذي لا يرقى إلى مستوى رفيع.

في المحصّلة، إن الرواية تعطينا فكرة مهمة عن بطلها، وحياته، ونستنتج منها نقاطاً محددة: إنه لم يكن جذاباً- جميع مخالفاته كانت نتيجة الصدفة – هروبه لم يكن موفّقا –  نجا من الإعدام المحتوم قبل 24 ساعة من تنفيذ الحكم – زوجته نجت من حادث تحطم السفينة لكنّ زواجه تحطّم – الدعاوى بحقّه صدرت بسبب مصادفات الزمان والمكان – هو ضحيّة المفارقات…

وهذا كلّه يتناقض مع ما يبدو في العديد من مفاصل الرواية، فهو لم يكن غير قادر على التحكّم بتصرفاته. وكان واثقاً من نفسه، جريئاً، مقداماً على ارتكاب الأخطاء، موضوعياً. يفكر في كل شيء تقريباً. وكان يريد تحقيق نجاحات في الحياة، ويحبّ الاعتراف بمسؤوليته عنها. وهو لم يتعلم من  الماضي في إنكلترا، فتابع نهجه في تسمانيا، ما يدلّ على أن طبعه غالب، وشهوته للثراء مفتوحة. وشخصيته تتمتع بكثير من السرية، والإقدام، حتى إذا وقع في المصيبة، ادّعى أن أعداءه يهاجمونه أوّلاً. وكان يخدع نفسه قبل أن يخدع الآخرين بدليل انتصار العدالة عليه في كل مرة، إلا إذا كانت هناك مخالفات لم يكتشفها القانون ولم يذكرها في روايته.

وتُظهر الرواية أيضاً أن هنري كان يعتز بعائلته وولادته وبنفسه، ويقر بأن زوجته كانت تحبه، ولولا ذلك لما تحملت أعباء السفر الطويل من إنكلترا إلى أستراليا. ولكن شاءت الأقدار أن تواجه عقبات في البلاد الجديدة، فعادت منها بخفّي حنين.

لقد قدم هنري سافري صورة عن حياته في رواية من الدرجة الثانية، إذا ما قيست بالأعمال الروائية الكبرى. وهي رواية رائدة، مع أن بعض النقاد يتحدثون عن  روايتين أخريين قد تكونان سبقتاها، الأولى ظهرت عام 1830، عنوانها The Australian Settlers، وكاتبها مجهول يزعم أنه روى فيها تجربة مواطن عاش لبعض الوقت في أستراليا. والثانية كتبتها ماري غريمستون، بعنوان  Woman’s Love، وهي قصّة رومنطيقيّة، نُشرت في بريطانيا، وقيل إنها كتبت في هوبارت خلال 3 سنوات (من 1826 إلى 1829)، لكنها نشرت في لندن عام 1832، أي بعد سنة من نشر رواية هنري سافري.

وعلى كل حال، لسنا نقف إلى جانب من يقلّلون من شأن رواية سافري إلى حد التدمير، على الرغم من كل النقد الموجه إليها، فلو علمنا أن ثقافة الرجل وخبرته الروائية ومعرفته بأصول الأدب، لم تكن عالية، لأعدنا النظر في رؤيتنا. كما أنها كُتبت في أواخر القرن التاسع عشر، فينبغي أن نقارنها بأعمال أخرى ظهرت في ذلك الزمن خارج أستراليا، ولم تكن أفضل منها بمقدار كبير.

لقد حقق هنري سافري نجاحاً كبيراً في أمر واحد على الأقل، هو إقامة التوازي Parallelism بين النص الروائي وحياته الشخصية، في رواية يمكن أن تكون مرجعاً تاريخيّاً واجتماعيّاً مفيداً، يعكس الأوضاع في تلك الفترة من الزمان.

***

*ملاحظة: الصورة 1 لهنري سافري، والصورة 2 لغلاف الرواية عن جاكارندا برس (1962)

*مشروع الأديب د. جميل الدويهي أفكر اغترابية للأدب الراقي

اترك رد