في الذِّكرى الخامسة والسَّبعين لرَحيله: الأرشمندريت أناطوليوس كحّالة (1864-1948م) ([1])… الكاهنُ الرَّسول

 

 الدكتور جوزيف إلياس كحّالة

                               (باريس)

 

 

وُلد الأب أناطوليوس في 29 أيّار 1864، بمدينة حلب. وبمولده سمّاه والداه نعمة الله باسيليوس. وقد عُرف بين أفراد العائلة بـ “نعُّوم”. والده جرجي إلياس عجلوني – كحّالة، أمّا والدته فتُدعى لوسيّا يوحنّا مشاطي الطحّان، وهي إحدى حفيدات الأب جرجس طحّان، النائب الأسقفيّ لأبرشيَّة الروم الملكيّين الكاثوليك بحلب، في مستهلّ القرن التاسع عشر.

عُرفت عائلته بـ “كحّالة” نسبةً إلى أفراد العائلة الذين كانوا يمارسون مهنة طبّ العيون منذ القرن السابع عشر. وكذلك جدّته التي كانت تمارس هذه المهنة التي ورثتها عن أجدادها. أمَّا أصل عائلته فيعود إلى جبال عجلون في الأردنّ. والجدّ الأكبر للعائلة هو عودة الخوري، والد المطران يوسف عجلوني († 1818)، المتوفَّى في روما.

إقتبل “نعُّوم” سرّي المعموديَّة والتثبيت من الخوري باسيليوس شاهيات في 14 حزيران 1864. وقد حمله في المعموديَّة عمُّه حبيب. تربّى في كنف والديه إلى أن بلغ سنّ العاشرة من عمره، فأدخله والده الكُتَّاب عند المعلّم ميخائيل ربّاط، فتعلّم القراءة والكتابة. وفي سنّ الخامسة عشرة، أُدخل في صنعة الحياكة([2])، فأتقنها، وبعد عام بدأ يعمل بها لحسابه الخاصّ.

سكن “نعوم” بالقرب من كنيسة الآباء اليسوعيّين القديمة، وكانت تقع بالقرب من سوق النحّاسين، وعلى الأرجح في دار عربيَّة في حيّ جسر الكعكة. وفي هذه الدار، وُلد معظم أولاد أخيه إلياس. والدار ما زالت قائمة إلى يومنا هذا. وبسبب قربه من كنيسة الآباء اليسوعيّين، قامت صداقة بينه وبينهم. فأحبّوه وأرادوا أن يكون راهبًا في ما بينهم. لكنّ عدم ميول والديه إلى الآباء اليسوعيّين منعه من ذلك([3]). وشاءت العناية الإلهيَّة أن يأتي إلى مدينة حلب الأب جرمانوس التركماني، الراهب الباسيليّ الحلبيّ، في زيارة إلى بلده. فالتقاه “نعوم”، وصارحه بنيّته في العيشة الرهبانيَّة. فثبّته الكاهن المذكور على عزمه، ووعده أن يأخذه برفقته عند عودته إلى لبنان. فبدأ “نعوم” يستعدُّ لهذا اليوم، متابعاً تردُّده إلى الكنائس والأخويّات، ومشاركًا في الرياضات الروحيَّة. إلى أن كان يوم السبت الواقع في الرابع والعشرين من شهر حزيران لعام 1882.

ففي باكر صباح ذلك اليوم قام مسرعًا إلى الكنيسة لحضور القدّاس والاشتراك في سرّ المناولة. وبعد القدّاس الإلهيّ قفل عائدًا إلى دار والديه، حيث وُلد وترعرع. فودّع إخوَيه، إلياس وإسكندر، وأخواته، مريم، ووسيل، وملكه، ثمّ قبّل والدته. لكنّ والده لم يرَه، لأنّه لم يكن يريد أن يرى ابنه خارجًا من البيت (الحياة العلمانيَّة)، إلى الحياة الرهبانيَّة. بيدَ أنَّ مشيئةَ الربِّ هي التي تمّت، ورحل “نعوم” إلى دير الشير للآباء الباسليّين الحلبيّين، ولبس ثوب الابتداء في 17 تمّوز من السنة عينها، عن يد الخوري فيلبُّس بستاني. وفي 6 تشرين الأوّل 1883، أبرز نذور الابتداء في دير الشير الذي كان يرأسه في ذلك الزمن الخوري نيقولاوس حمصي، واتّخذ من القدِّيس أناطوليوس شفيعًا له في حياته الرهبانيَّة. وبعد حوالى الأسبوع، أي في 11 تشرين الأوّل 1883، رقّاه المطران ملاتيوس فكاك إلى رتبة الشمّاس الإنجيليّ. وبعد رسامته عاد إلى دير مار أشعيا لمتابعة دروسه.

وقعت القرعة في 25 آذار 1887 على الشمّاس أناطوليوس كي يهتمّ بتعليم أبناء القُرى المجاورة لدير الشير، وذلك لعدم وجود المدارس فيها. فقام بمهامِّه هذه خير قيام. وفي 6 تشرين الأوّل 1888، رُقّي إلى درجة الكهنوت، عن يد المطران ملاتيوس فكاك. وبعد عام أرسلته الرهبانيَّة إلى مدينة بعلبكّ ليقوم بتعليم الأولاد فيها وتهذيبهم، وذلك على طلب من المطران جرمانوس معقّد، فقام بهذه المهامّ مدّة عامين، وغادر مدينة بعلبكّ سنة 1891. وفي السنة عينها غادر إلى مدينة حمص حيث طلبه الآباء اليسوعيّون ليكون مدرّسًا في مدرستهم، ومساعدًا لهم في رسالتهم بوادي النصارى. لكنْ، شاءت الظروف، أن يعود بأمر الطاعة إلى ديره في كانون الثاني 1892، ذلك لأنّ مطران أبرشية الروم الملكيِّين الكاثوليك في مدينة حمص آنذاك عارض وجود كاهن من طائفته يعمل في أبرشيَّته لحساب طائفة أُخرى.

وتوجَّه أناطوليوس إلى مدينة زحلة في 28 تشرين الثاني 1892، وخدم رعيّتها، وأصلح كنيستها التي أصابها الخراب، وترك المدينة في 24 حزيران 1893.

خدمته في قضاء طرابلس، وفي اللاذقيَّة ووادي النَّصارى

في سنة 1894، وبينما كان الأب أناطوليوس في زيارة إلى صديقه الخوري أثناسيوس حدّاد، الوكيل البطريركيّ في مدينة طرابلس. ورده أمر من البطريرك غريغوريوس يوسف سيّور أن يذهب إلى قضاء عكّار، وبالتحديد إلى قرية مينارة، ذلك لأنّ بعض سكّانها يريدون الدخول إلى حضن الكنيسة الكاثوليكيَّة. فلبَّى الأب أناطوليوس أمر البطريرك على الفور، وتوجّه حالاً إلى عمله الجديد، بدون أيِّ اعتِراض.

وفور وصوله إلى القرية المذكورة، استأجر دارًا وكرَّسها. كما أقام شيخًا على الجماعة المرتدَّة إلى الكثلكة، هو إبراهيم حنّا الصبّاغ، وذلك بأمر من البطريرك. كما فصل سجلاّت نفوس أبنائها في دار الحكومة عن سجلاّت نفوس الأرثوذكس. وأعدَّ لهم رَجلاً صالحًا ليكون كاهنًا لخدمتهم، هو ميخائيل ابن الخوري حنّا الذي رقّاه البطريرك إلى درجة الكهنوت، بعد أن درس اللاهوت في مدرسة عين تراز البطريركيَّة. وعند تسلّم الكاهن الجديد مهامَّه، تفرّغ الأب أناطوليوس لشؤون الطائفة الزمنيَّة أمام دار الحكومة. والله أعلم بما قاساه من متاعب واضطهادات من الكنائس الأُخرى. لكنّ هذا لم يمنعه من متابعة عمله الرسوليّ. ففي عام 1895، ارتدّت قرية عديل إلى الكثلكة. فسلك فيها، كما في قرية مينارة، حيث أقام على الكاثوليك شيخًا يهتمُّ بشؤونهم. ثمَّ اشترى لهم قطعتَي أرض، بنى عليهما كنيسة، ودارًا للكاهن. ثمّ طلب من البطريرك أن يرسل إليهم كاهنًا ليهتمّ بشؤونهم الروحيَّة. وقد فعل البطريرك، وأرسل إليهم الأب إستفانوس عبّود الفرزلي الحنّاوي… وبعدها ارتدَّت قرية مزرعة النهريََّة، ثمَّ قرية تلَّ العبَّاس، وتبعتهما بلدة صافيتا، مع كاهنَين هما الخوري نعمة الله، وابن عمِّه الخوري إبراهيم. ومن بعد صافيتا تتالت القُرى المرتدَّة إلى الكثلكة، فكانت، تنّورين – جوار العفص – نبع كركر – مشتى بيت الحلو – الحصن – مرمريتا – المريليَّة… إلخ. ومن الجدير بالذِكر أنّه كان بين المرتدِّين كهنةٌ تابعوا عملهم الكهنوتيّ في رعاياهم القديمة، فيما، في قُرى أُخرى، سعى لها الأب أناطوليوس بكهنة جُدُد([4]).

واضطرَّ الأب أناطوليوس إلى ترك قضاء طرابلس لأسباب لا داعي لذِكرها. لكنّه لا يخفى على أحد أنّه كان المحور الرئيسيَّ لتكوين أبرشيََّة الروم الملكيِّين الكاثوليك في مدينة طرابلس الحاليَّة، وقسم من أبرشيَّة الروم الملكيِّين الكاثوليك في مدينة اللاذقيَّة الحاليَّة، وبالأخصّ وادي النصارى. إنَّ الأب أناطوليوس، بعمله الفاعل، قد هيّأ الأجواء المناسبة لتسلّم المطران يوسف دوماني كرسيَّ أبرشيَّة مدينة طرابلس (1897-1922). كما أنّ الكاثوليك في هذا القضاء يدينون للأب أناطوليوس الذي كان لهم المُعين الأوّل في كلّ همومهم وأعمالهم وحياتهم.

خدمته في تركيا

بأمر من البطريرك غريغوريوس يوسف سيّور، توجّه الأب أناطوليوس إلى مدينة قونيه (تركيا)، فوصلها عن طريق خطّ السكك الحديديَّة يومَ 29 أيلول 1896. وتسلّم رعيّتها من الأب يواكيم صلابا.

واشترى الأب أناطوليوس في المدينة المذكورة دارًا مؤلّفةً من ستّ غرف واسعة، مع قبو وبستان واسع. زكان الماء يأتيه من الخارج، لأنّه لا بئر في الأرض. وقد دفع البطريرك جزءًا من ثمن الدار، أمّا الجزء المتبقّي فقد دفعت الرعيَّة قسمًا منه، فيما تكفَّل بالباقي منه الأب أناطوليوس من ماله الخاصّ. وبذا، اكتمل ثمن الشراء.

لم تدم طويلاً إقامة الأب أناطوليوس وخدمته رعيَّةَ مدينة قونيه (20 شهرًا)، عاد بعدها إلى منيارة طرابلس، وخدم فيها. ثمَّ شغل منصب معلّم اعتراف في الرعايا، إلى أن عُيِّن وكيلاً بطريركيًّا للطائفة في مدينة إسطنبول (تركيا)، فشغل هذا المنصب حتّى سنة 1910، حين عُيِّن رئيسًا لدير مار أشعيا حتَّى العام 1913. ومن جديد، عاد الأبُ الجليلُ إلى مدينة إسطنبول ليشغل المنصب الذي كان قد شغله من قبل. ثمَّ جرى تعيينه لخدمة رعيَّة مدينة إزمير (تركيا)، فخدمها إلى حين انتخابه مدبِّرًا للرهبانيَّة الباسيليَّة الحلبيَّة سنة 1919. وقد شغل المنصب لعدّة سنوات، مدبِّرًا ثالثًاَ، فمدبِّرًا ثانيًا، فمدبِّرًا أوَّل.

رُقّي الأب أناطوليوس، في 4 آب 1927، إلى رتبة أرشمندريت. وفي سنة 1928، شغل لفترة وجيزة منصب رئيس دير بعلبكّ. وفي 1932 عُيِّن رئيسًا لمقرّ الرهبانيَّة الباسيليَّة الحلبيَّة بمدينة بيروت([5]). فشغل هذا المنصب لعدّة سنوات، عاد بعدها إلى دير المخلّص – صربا، ليستقرَّ فيه نهائيًّا، وحتَّى وافته المنيَّة في 19 شباط 1948، عن أربعة وثمانين عامًا.

زياراته إلى مدينة حلب

منذ خروج الأب أناطوليوس من مدينة حلب متوجّهًا إلى دير الشير في لبنان، في عام 1882، لم يعد إلى مدينة حلب إلاّ عند وفاة والده، في 7 تشرين الثاني 1889. وعاد إليها مرَّة أُخرى لزيارة أخوَيه، إسكندر وإلياس، وأخته ملكه المتزوِّجة من أحد أبناء عائلة المرديني، وأخته وسيل، زوجة ميخائيل شامي. وفي زيارته هذه اصطحب معه ابن أخيه إلياس إلى الرهبانيَّة الباسيليَّة الحلبيَّة. وهو الابن البكر، والمدعوّ جرجي. وقد دُعي، في ما بعد، في الحياة الرهبانيَّة الأب فلابيانوس. كما اصطحب معه شبّانًا آخَرين إلى الدير.

وعاد الأب أناطوليوس مرّة ثانية لزيارة مدينة حلب على عجل، بسبب مرض أخيه إسكندر. وقد جمع له الأطبّاء من كلّ حَدَبٍ وصَوْب لمعاينته وتطبيبه. لكنّهم فشلوا في شفائه لِفَوات الأوان، فمات وهو في ريعان شبابه، مخلِّفًا صبيًّا وحيدًا في ربيعه الثامن، واسمه يوسف. وفي 8 تمّوز 1908، غادر الأب أناطوليوس مدينة حلب، ولم يعد إليها، حتَّى عند وفاة أخيه إلياس سنة 1911.

أوصافه

ترك لنا الأب أناطوليوس وصفًا دقيقاً لشكله وطريقة حياته. ونقتطف بعض المعلومات: طوله 165 سنتيمترًا، شعره طويل وكستنائيّ اللون. أمّا لحيته فقصيرة، ولونها مائل إلى الحمرة. بشرته بيضاء مائلة إلى الاحمرار. واسع الخطى، ومعتدل في المسير. حَسَن المعاملة، ولا يحبُّ استلاف المال. وإذا ما استلف مالاً من أحد، فإنَّه يوفِّيه بسرعة. يحافظ على الصداقة حتّى النهاية. أمين في معاملته، ويحبُّ الصدق، وقول الحقيقة، حتّى ولو جلبت له المصائب. عَبوس الوجه، طيِّب القلب، لكنّه عصبيٌّ جدًّا([6]).

مؤلَّفاته

لم يترك لنا الأب أناطوليوس مؤلَّفات بكلِّ معنى الكلمة، بل ترك عدَّة مخطوطات تحتوي على أخبار عصره، من سياسيَّة، ودِينيَّة، وعلميَّة، وأدبيَّة… إلخ، كان قد نقلها عن الجرائد والمجلاّت في ذلك الزمان. لكنّ أهمّ ما تركه، هو مخطوطة سيرة حياته. وهي لا تحتوي فقط على سيرة حياته، بل على معلومات قيِّمة وهامَّة عن تاريخ الرهبانيَّة الباسيليَّة الحلبيَّة خصوصًا، والكنيسة الملكيَّة عمومًا. ولا بدَّ من الإشارة أيضًا إلى أنّ الأب أناطوليوس كان ملمًّا بالطبّ العربيّ، والجراحة الطبّيَّة. وقد ذكر لنا العلاَّمة والمؤرِّخ الأب أدريانوس شكّور أنّ الأب أناطوليوس نقل هذا العلم إلى أحد الرهبان الباسليّين الحلبيّين.

وفي الختام، لا بدَّ من القول إنّ الأب أناطوليوس كان أمينًا على الوزنات التي اؤتمن عليها، ولم يخفها، بل تاجر بها فتضاعفت، وأعطت كنوزًا للكنيسة. وقد كان بحقٍّ رسولَ الكثلكة في قضاء طرابلس ووادي النصارى، وتحمَّل ما لا يتحمَّله أحد…

  • يا ربّ أعطنا كهنة صالحين وقدِّيسين لخدمة كنيستك المقدَّسة.

مصادر البحث

1- كحّالة، الأرشمندريت أناطوليوس، مخطوطة حياته، موجودة في مكتبة دير المخلّص، صربا – لبنان.

2- كحّالة، جوزيف إلياس، تاريخ آل كحّالة، ما زال مخطوطاً في مكتبتنا الخاصّة.

3- المسرّة، السنة 18/1932.

4- مجلّة “حياة وعمل”، السنة 1948.

(1) معظم هذه المعلومات، مستقاة من مصدرين: الأوّل، الأخبار التي تناقلها أفراد العائلة، عن أصلها. والثاني، المخطوط الذي تركه الأب أناطوليوس كحّالة عن تاريخ حياته. وهو ما زال محفوظاً في مكتبة الرهبانيَّة الباسيليَّة الحلبيَّة، صربا – لبنان.

(2) كانت صنعة الحياكة دارجة كثيراً في مدينة حلب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. نلاحظ مثلاً أنّ البطريرك مكسيموس مظلوم قد أتقنها وعمل بها قبل دخوله الحياة الكهنوتيَّة. وهذه المهنة دليل قاطع على أنّ الحلبيّ يهتمّ كثيراً بملبسه وشكله الخارجيّ.

(3) ثمّة قصّة يتداولها أفراد عائلتَي “كحّالة” و”شامي” عن الأب أناطوليوس. وقد سمعتها من حفيدته أنطوانيت (ت 18 حزيران 1998)، في باريس. مفادها أنّ والدَي الأب أناطوليوس أراداه أن يتزوّج، فمنعاه من الدخول إلى الرهبانيَّة اليسوعيَّة، وليس لسبب آخَر.

(4) يذكر لنا الأب أناطوليوس في مخطوطة حياته تفاصيل مهمّة عن تلك الحقبة، وما عاناه فيها من اضطهادات قاسية.

(5) المسرّة /18 (1932)، ص645.

(6) عندما كنّا نقيم في لبنان، كنّا نتردّد على الأب أدريانوس شكّور لزيارته. وكان يخبرنا من حين إلى آخَر عن الأب أناطوليوس. ذلك لأنّه عرفه شخصيّاً، وأقام معه في دير المخلّص بصربا.

اترك رد