نهاد الحايك
أصاب رحيل الأديب والشاعر والمعلم ريمون شبلي أصدقاءه وقارئيه وتلامذته وكل مَن عرفه بحزن عميق وصدمة لخسارته المفاجئة (رحل في 25 كانون الثاني/يناير 2023). كان في السبعين من عمره وفي العشرين من كتبه، لا يزال في عز عطائه ناشطاً وحاضراً على الساحة الثقافية والأدبية. لست في معرض رثائه، بل أحاول الاحتفاء بهذا الكاتب الذي أبدع أعمالاً أدبية وشعرية مميزة بأسلوب رفيع ولغة تجمع بين الأصيل والجديد وفكر ملتزم صادق وراقٍ، ينسجم مع ما يتحلى به من صدق ورقي ونبل في حياته وعلاقاته الاجتماعية وفي تعاطيه مع قضايا الوطن والإنسان التي شغلته طيلة حياته وفي رسالة التربية وزرْعِ القيم التي كرس لها كل حياته المهنية.
أحتفي به بإعادة نشر مقالي الذي كتبته عن مجموعته الشعرية “أشدو… وأشتاق” الصادرة في عام 2016. والمثير للدهشة أن ريمون شبلي في تلك المجموعة ركز على موضوع الموت، والحياة ما بعد الموت، من خلال اشتياقه إلى مَن رحلوا مِن الأحبة والأهل والزوجة. وتُبيِّن القصائد المنشورة في هذه المجموعة أن هذه الدرب السالكة أبداً للجميع، لا يَهابها ريمون شبلي، فهو متصالح مع الموت، يتوقع المصير بوداعة وينتظره بشموخ وبلا خوف. قال شبلي في مقابلة صحافية إنه لم يتناول الموت “من خلال الانكسار والألم، بل من خلال الرجاء والانتصار على العدم. والزمن محتَّم علينا وهو يأكلنا، يمرّ العمر بسرعة، وكلما تتالت السنوات أشعر بأنني اقترب من الموت أكثر، لكنني لا أخشاه، بل أخشى كيفية الموت”.
هذا المقال هو عربون وفاء لشخصه النبيل وتقدير لإرثه الأدبي والشعري الذي لن يطاله الموت.
ريمون شبلي، ابنُ ساقية المسك، سيظل حبرُ شاعريته يسيل رقراقاً في ساقية الزمن ويرتحل مِسْكُها هادئاً كسحابات بيضاء في فضاء خيالنا.
شقَّ دربه معتزًّا بأصالته الـمُطلة على الحداثة
ريمون شبلي في ديوانه “أشدو…وأشتاق” “يغنّي نغمة الخلد” و”الدنيا قصيدة تشتعل”
المبدعون لا يكتفون بالخلود الذي وعدَتْنا به الأديان، فهم إما لا يَضمَنون جنَّةَ الما بعد، أو يطمعون بالجنتين.
والكاتب ريمون شبلي حتماً من الفئة الثانية. جنةُ الأرض يعمل على كسبها منذ ستة عشر كتاباً. وجنةُ الله هو معقودٌ عليها برابط الإيمان يتجلى في كتابته عن الموت، الموضوعِ الذي يستأثر بوجدانياته في “أشدو… وأشتاق”. فقد كتب في إحدى قصائده: “هنالك الجنةُ الكبرى قدِ انفتَحَتْ/لروحِكَ الحيِّ بدءًا يَسكنُ الأبَدا/هنالك الغبطةُ الكبرى تغوصُ بها/وتطمئنُّ .. تَرى اللهَ يمدُّ يدا” (كمَنْ، ص 39)
الموت، بل الحياة والموت، إذ لا يكون واحد منهما من دون الآخر، شغلا البشر منذ فجر الإنسانية، حاول الفلاسفة فكفكةَ ألغازِهما وعقلنةَ سببِهما وهدفِهما في كينونة الكون، وجاء الأنبياء بأجوبة لهما. ولكنهما يظلان شاغلين الإنسانَ أبداً.
لا ينفصل استحضار الراحلين عن النظر إلى الموت وجهاً لوجه. فعندما يُقرعُ ناقوس الكنيسة بطنّاته الـمُنبئة بأن الموت زار القرية، تجتاح الرهبةُ القلوبَ ولكنها تُبدَّدُ بالصلاة:
“قُرِعَ الناقوسُ بطيئاً/مَن لا يخشاهُ/أو يحذَرُهُ/أو يأباهُ!/ونُصلّي/لا نخشى ريحاً/لا نخشى ليلاً أو كمَدا …/ونصلّي .. نصلّي/لا نخشى الناقوسَ غدا!”
…..
قُرِعَ الناقوسُ بطيئاً …
متى يَسمعُ الناسُ ناقوساً لا تسمعُهُ أُذُني
لن تسمعَهُ أبدا؟” (الناقوس، ص 45)
وكاتبنا متصالح مع الموت، يتوقع المصير بوداعة وينتظره بشموخ وبلا خوف، حتى عندما يصبح عدد الأحبة الراحلين أكثر من الأحياء:
“هوذا يدنو!/أرى وقْعَ خُطاهُ يكبُرُ/ويزيدْ/وأنا أنتظرُ!/لا أبالي:
دافئٌ صدري، وإيماني وسيعْ/مطمئنٌّ خاطري، قلبي وديعْ…
قلتُ: طابَ السفرُ!” (اللحظة الصفراء، ص 50)
لن أزن ديوان ريمون شبلي بميزان ولن أقارنه بمعيار. لن أتحدث عن دلالاتٍ ومذاهب، ولن أحلل بياناً ورموزاً، ولن أفكك ألغازَ بلاغة. سأسبِر بَواطنَ المعاني وأكتفي بقراءة تفاعلية على خلفيةٍ فلسفية.
فنحن هنا أمام مياه صافية، بلورٍ شفيف، مناخٍ صادق وفضاءٍ نقي لا التباسَ فيه ولا حيرة. ليست سطوره بحاجة إلى تعرية أو تقشير. هي باب مفتوح يدعونا إلى الدخول، تستقبلنا صورٌ التقطها حسٌ مرهف من واقع الحياة بمرِّها وحُلوها، سَجَّلها قلمٌ فنان يستمد حبره من ينابيع الوجود وسطوعِ القيَم وبهاءِ الجمال، على لغةٍ ثريةٍ مِطواع تقطَّرت تقطيراً في مصفاة يراعه، وراحت تنزل على الوجدان كحبّاتِ مطرٍ على الرخام، وتَعْبُره.
يقف ريمون شبلي ثابتاً بين نهرين: أصالةٍ خائفة من الجمود وحداثةٍ حائرة من الجنون. شقَّ دربه ومشى معتزاً بأصالته المطلة على الحداثة، كتلك التي شقَّها صديقُه الشاعر جورج غانم:
“أجيئُك يا صديقي،/أُصلّي.. أنحني وأحطُّ زهرهْ/وأفتحُ بعضَ كُتْبٍ/وأقرأ في حداثتِك الأصيلهْ/
قصائدَ قلبك الرائي.” (وتحملني جراحي، ص 29)
في شعره، لا تَوغُّل في اللاوعي وغموضِه بل وعيٌ يُشرِع نوافذَه للهواء والشمس. فهو يفكك الحياة المعقدة، يطلقُ عليها ثورتَه الهادئة، ثم يعيد بناءها بطين الحكمةِ وماء المحبةِ وضَوءِ القصيدة. قلقُه الوجودي لا يوتِّرنا بل ينفخ نسَماتٍ مبرِّدات على جراحنا. ذلك لأنه على موعدٍ مع العبورِ إلى النور.
كَتبَ عن الراحلين من منطلق الاشتياق وليس من منطلق الحزن العدمي أو رفض الموت أو حسرة الخسارة ولسع المرارة. وهذا ما أعلنه في العنوان “أشدو… وأشتاق”. يشدو ذكراهم ويشتاق إليهم، إلى الأب والأم والزوجة والأصدقاء.
“أيا والدُ،/أيا سنديانهْ/بجذعٍ هو القلبُ والساعدُ،/هو الحبُ والحارسُ الماردُ…
بجذعٍ ولو جفَّ لا يقعُ/يظلُّ جداراً بوجه الرياحْ،/وطيباً يداوي الجراحْ،
وذكرى، كما المستحيلُ الجميلُ،/تَجولُ/وليست تزولُ.” (كما السنديانة، ص 25)
والغربة التي تصيب النفس من رحيل الأحبة ليست هي جرحَه، لأنه مؤمن بأنه سيلتقيهم يوماً. جُرحُه الغربةُ عن وطن يشتاقه وهو فيه لأن هذا الوطن لم يتحقق بعد. هذا الوطن أشدُّ غياباً من الغائبين. فيربط شوقه الى أبيه بشوقه إلى نهوض الوطن الذي يعبث به تِنّينٌ غامض “متى يتقهقر التِنّين ويندثر؟” ولطول انتظار الكاتب للحظة تحطُّمِ وحشِ الـمِحَن كي يعبُرَ إلى الضفة الواعدة، لم يعد انتظاره فعلاً قد يتوقف. أصبح صِفةً ملازمة: “أبي، ثمان وعشرون ونحن انتظارْ”!
واقع المجتمع الذي يعيشه، والأصح الواقع الذي يموت منه كل يوم، هو الجرح الذي لا يندمل، فيبقى فِعلُ مَن رحلوا حاضراً فيه لأن جُذعَ الأب “في البال يبقى وفي زمني المتعبِ يظلُّ يداً تدفعُ يظلُّ بصيصَ شعاع”. وحنينُه إلى الوالد الغائب/الحاضر ينسابُ نهراً يكاد يكون صافياً لو لم تتداخل معه مرارةٌ من مساوئ المجتمع. وتطفو خلاصات حياة:
“أبي، أيا سنديانه…/لَكَمْ تتجنّى أيادي الحياهْ/على مَن يخافُ الإلهْ،/على الآدميِّ الأبيّْ..!/وكم تفتحُ الحظَّ للمُستغِلِّ الـمُسيءْ،/لكلِّ رديءْ،/فلا الظلمَ تستوقفُ،/ولا تُنصِفُ!”
الأحبة، ولو بعد مئة عام، لا يرحلون منا: “تُذكِّرني وجوهُ الأمهات بوجه أمي، ووشوشةُ النسيم بصوتِ أمي”. (تلك أمي، ص 26)
هذه الدرب السالكة أبداً للجميع، لا يَهابها ريمون شبلي. كيف لا وهو الذي أصابه الموت في الأغلى والأقربِ والأعز، عندما “بكَّر طائر الموت في التحليق فوق هامة عُمرِها” وهي الكلمات التي قدم بها لكتابه عن زوجته الراحلة “بَخور وسُبحة نور” عام 2013. وفي “أشدو… وأشتاق” يقول لها بقلبٍ جريح وروحٍ واثبة إلى الخلود: “أغمضتِ عينيكِ؛ جَفَّ النبضُ في الجسدِ/وسافرَتْ روحُكِ الخضراءُ في الأمَدِ/غداً أجيئُكِ مشتاقاً ومنتظراً ذاكَ اللقاءَ… نُغَنّي نغمةَ الـخُلُدِ.” (إفرحي في رحلة الأبد، ص 37)
ويستجلب الحديثُ عن الموت تقليبَ الحياة بأزمنتها العديدة، فيسترجع الطفولة ويُسائل العمر ويحاكي ما تبقّى منه. فتتجاور قصائدُ الشوق إلى الراحلين مع قصائدِ الحنين إلى الطفولة وقصائدِ الإبحار في مجرى العمر. يرى تناقُصَ العمر في تراقُصِ شمعةِ عيد ميلاده: “مَن يُطفئُ الآخرَ؟ احْكِ الحقَّ يا عيدُ،/أنا؟ شموعُكَ؟ أَمْ زَفْراتُها السودُ؟” (مَن يطفئ الآخر؟ ص 54)
وهكذا، لا قلق من النهاية من دون العودة إلى البداية والحنين إليها والنهل من أعيادها والتقوُّت بخبزها: “آهِ من بيت أبي/لم يزلْ بعدُ هَواهُ في حنيني،/في أخاديدِ جبيني/وجفوني../لم يزلْ بعدُ يناديني”. (ذلك العمر الصبي، ص 106)
الزمن، لطالما شغل الفلاسفة منذ فجر الفكر الإنساني وحتى اليوم، لِكُنْهِ ماهيته وكينونته. في سطور قليلة يتعامل الشاعر مع الزمن من منظارين. فحيناً زمنٌ دائري وإيحاءٌ بالعَود الأبدي: “قصيرةٌ هذي الطريقُ المستديرهْ/مهما تَطُلْ قصيرهْ!”. وحيناً زمنٌ خطّي: “يا للبقاء! طويلةٌ طريقُهُ بلا انتهاءْ”. (كن للسماء، ص 56)
كما ينازلُ الزمنَ الخارجي بزمنه الداخلي:
“بيننا معركةٌ قد تطولُ؛/تـتحدّى؟.. سيفوزُ القتيلُ/…./وأنا، قد يلتوي جسدي،/لكنِ الجمرةُ ليست تحولُ/والقتيلُ الشهمُ قُلْ: بَطَلٌ/يهزِمُ القاتلَ .. قُم يا قتيلُ.” (سيفوز القتيل، ص 67)
وللزمن عنده معنىً ثالثٌ أيضاً. فعندما يقول إن هذا الزمنَ كفيفٌ، إنما يقصد به مجتمعَ اليوم والواقعَ الراهن. فيقول، كأنْ بصرخةٍ، إنّ هذا الزمنَ الكفيفَ يرى:
“في المستبِدِّ عظيماً قوياً،/ وفي مَن يُغَنّي السلامَ ضعيفَا
وفي حاضِنِ الحقِ وجهاً غبياً،/ وفي ناشر البُطْلِ صوتاً عفيفَا
وفي القلمِ النجمِ حبراً شحيحاً،/ وفي سارق الحرفِ حبراً مُضيفَا
ويا لكَ من زمنٍ فاقدٍ/بصيرتَه .. يستعيدُ الكهوفا!” (كفيف البصيرة، ص 62)
ومع ذلك، لا انفصام بين عالمه الداخلي والعالم الخارجي بل تداخُلٌ رغم التنافر واتحاٌد رغم التناقض. وربما هذا دأبُ مَن حَـمَل رسالة التربية وزرْعِ القيم: “احمِلِ الآتي بعينيك، بزِنديك، برؤياكَ/شموساً ونجوماً وقمرْ/وبُروقاً ورعوداً ومطرْ ../واحمِلِ العمرَ اشتياقاً يستمرْ/لغَدٍ حلوِ المحَيّا،/شامخِ الهامةِ،/حُرْ …/قلْ وسِرْ/زدْ خطاكَ، اعمَلْ، وسِرْ/شِدْ وزِدْ، لا تنتظِرْ.” (سلام، ص 60)
وكلما اشتد الوجع عظمت العزيمة. قلبه يضيء النار، لأنه نار أقوى من النار. يقول قلبُه: “أَمضي كما الطائرُ الموجوعُ، يَنفضُ عن/جناحِهِ الجمرَ، يعلو يضرِبُ الصَعبا/ويستردُّ مسافاتٍ وأجنحةً؛/يروحُ، بَعدُ، يضيءُ النارَ والشُهْبا.” (النبضات التعبى، ص 66)
ويتساءل أمام أبواب سوداء يصعب اختراقها: “كلَّ يومْ/تَكبُرُ المأساةْ/تشتعلْ/في حقولِ الذاتْ../يستغيثُ الخريفْ:/مَن يَلُفُّ الحبلَ على عُنقها؟/أو يرشُّ الماءَ على نارها؟/أو يضمِّدُ هذا النزيفْ؟” (الباب الأسود، ص 75)
من قصيدة إلى أخرى يتأرجح بين اشتياق لمن رحلوا وقناعة بأننا جئنا لنرحل. وبين المجيء والرحيل ومضةٌ تبدو لنا شعاعَ يقينٍ حيناً وطيفَ خرافةٍ أحياناً: “بينهما مسافةٌ قصيرهْ!/يدخلُ من بابٍ ويَعبرُ المسافهْ…/في آخر السبيلْ/يَخرجُ من بابٍ يقولْ:/كأنها خرافَهْ!” (الحضور، ص 77)
والخيبة أختُ الخرافة في حياتنا الزئبقية: “كم غدا لونُ الحياةْ/بارداً،/شارداً،/ومراياها تَحوَّلْنَ خُرافاتِ مرايا/وأمانيها شظايا/وثُقوبْ!” (يتوارى في جنونه، ص 72)
ولتبديد الشعور بأن سفرنا في الدنيا كالخرافة، يسعى إلى ترسيخ حضوره فيها، إلى كسر الزمن ومقاومة الذوبان في النسيان: “…خُذْها وسَطِّرْ بصمةً ساطعةً/تدومْ، جيلاً بعد جيلْ،/ذاكرةً نافعةً/يُدعى لها../سَطِّرْ حضوراً عَطِراً يُنيرْ،/يقوى على الظلامْ/ولا ينامْ.” (الحضور، ص 78)
والليل، زمانُ ومكانُ الشعراء، يصفه شبلي بصَمْتِ الزمان وسرِّه. يقول: “يا أنتَ، يا صمتَ الزمانِ وسرَّه،/ودُجًى يُنقِّطُ في مَداهُ نجوما/…/يا أنتَ، تُخفي خلفَ صمتِكَ خفقةً/أبديةً، خلفَ السَوادِ رُسوما/مِن أنهرٍ ضوئيةٍ، وحدائقٍ/تَبني لها خلفَ الزهورِ كُروما.” (صمت الزمان وسره، ص 95)
وفي تأملاته صور مبتكرة تنعش خيالنا، تنقذه من خموله. جميل وصْفُه لصوت وديع الصافي “يضم الليلَ والفجرا” و”خفقةُ النسر تلمُسُ البدرا” و”يرنُّ شدواً يعبُر العصرا”. وصوت نور الهدى “يرمي بك خلف خطوط الخرافة، خلف حدود الحلم، خلف خفايا الخوابي، ومرايا الجمال”. ومن الصور الجميلة أيضاً: “غيمٌ يذوب رماداً خفيفا”؛ “يا رنين الذات يا قلمي”؛ “تنحني كفُّ السماء”.
في القصيدة التي أخذ عنوانَها “أشدو… وأشتاق”، عنواناً للديوان، يصف الدنيا التي يحلم بها “قصيدةً تشتعلُ.. وحريةً حدُّها الـمُثلُ.. وأُماً تعي.. وأباً يُجدي ويَهدي.. وجيلَ غدٍ طُموحُه قَفَزاتٌ في العُلى تَبني حداثتُه الآتي على حجرٍ من الأصالة.”
هذه مدرسته وهذا نهجه في الشعر: حداثةٌ على حجرٍ من الأصالة. حريةٌ ملتزمة. مرونةُ بحورٍ وصقلُ قَوافٍ من غير افتعال. ويصبُّ في هذا النهج مفهومُه للحقيقيّ والمزيَّف. فيقول عن السائد من الكتابة: “بعضُ أقلامٍ يُتعِبُ الحبرَ والأوراقَ ما همَّه مسيرُ اعوجاجْ، وبعضُ أقلامٍ يحملُ النهرَ يُغريهِ نداءُ الجبال والأمواجْ، يحمل الدهرَ، الطهرَ، القهرَ، الخيرَ، الحُسنَ، يحمِلُ الشوقَ يلمُسُ الجمرَ.” (يفي نذرَه اليراع، ص 135)
لم تُثبط يراعَه خيباتُ الزمن وزيفُه الـمُهَيْمِن على قليلِ صِدْقِه. لم ييأس من عقم مسارات الزمن ولاجدواها. بَلْسَمُه القلم وعقيدتُه الكتابة. بينه وبين القلم عَقدٌ مُدَّتُه الأبد.
“يا مُقلقي، ورنينَ الذات، يا قلمي،/بيني وبينكَ وعدٌ أخضرٌ وعَدا/كنا يداً بيدٍ، نبقى معاً أبدا.” (القلم، ص 140)
هذا الرجل الذي وصفَ نفسَه بـ”المنفيّ في قَدَرٍ من المحابر والأحلام”، ابنُ ساقية المسك، يسيل حبرُ شاعريته رقراقاً في ساقية الزمن ويرتحل مِسْكُها هادئاً كسحابات بيضاء في فضاء خيالنا.
أشعاره قُبَلٌ على ثغر الحياة، ورودٌ على ممر الممات، وعشبٌ لا ينفكُّ يفاجئ بخضرته ونضارته هذا الخريف الـمُسلَط على دنيانا.
وأختم بما بدأتُ به، عن أن المبدعين لا يكتفون بالخلود الذي وعدَتْنا به الأديان، فهُمْ إما لا يضمنون جنةَ الما بعد، أو يطمعون بالجنتين، جنة السماء وجنة الأرض، وأن كاتبنا هو من الفئة التي تطمع بالجنتين. ولكن أضيف تصحيحاً ليس ببسيط: ريمون شبلي لم يطمع بالجنتين بل عمل لهما بجدارة واستحقاق. فقد كتب في إحدى قصائده أنه سمع الدنيا تقول له:
“لكَ الخلودُ بلِ اثنانِ امتَلكْتَهُما
بما كَتَبْتَ وما إيمانُك اعتقدا:
خلودُ روحِكَ واسْمٍ بَاسِمٍ حَفَرَتْ
حروفَهُ كُتُبٌ تستغرقُ الأمَدا.” (كمن، ص 41)
***
* كلمة الشاعرة نهاد الحايك في الندوة حول ديوان “أشدو… وأشتاق” للشاعر ريمون شبلي (الحركة الثقافية، أنطلياس، 12 نيسان/أبريل 2016)