المحامي ألبير يمين
تتحدد طبيعة الحرية في المقصد المالكي، ويتحدد الاساس الذي تقوم عليه بالجواب على السؤال: من يأتي قبل من؟ الفكر أم الوجود؟ بتعبير آخر، المعرفة أم المعيش اليومي، الالم، الكفاح، الشجاعة، الحياة، الموت، المصير، الدمعة، الابسامة، البحث عن السعادة…الخ؟ الابيستيمولوجيا أم الانطولوجيا؟
الفرضية الاولى: أولوية الفكر على الوجود
القائلون بأولوية الفكر والمعرفة على الوجود، وأوَلُهم ديكارت مؤسس الفكر الحديث، مروراً بكانط وهيغل والمثالية الالمانية الذين سيطروا على الفكر في اوروبا طيلة ماية وخمسين عاماً. هؤلاء يجعلون من الحرية فكرةً، أو نظريةً، أو مثالاً. انما الانسان لا يستطيع الوصول الى الحقيقة فقط بواسطة الفكر ولا بمعزل عن ذاته. الفكر لا يُخلِص الانسان.
الفرضية الثانية: الوجود يسبق المعرفة
هنا تبرز فلسفة مالك الوجودية الذي كان أقرب الى هايدغر والى الارسططاليسية، والوجودية المؤمنة المتمثلة بغبريال مارسال، ومارتن بوبر، وكيركيغارد، وغيرهم. هنا الانسان الشخص يسبق كل نظرية، وكل مثال، وكل معرفة. الُنظم والافكار -عند مالك – ليس لها وجود مستقل بحدِ ذاتها، وجودها وجودٌ تابع. وحده وجود الانسان هو وجود أصيل، ومستقل.
بالمحصِلة، الحرية ليست فكرة، الحرية لا نقرأها في الكتب، لا نتعلمها، الحرية اما أن نكونها كأشخاص أو نشاهدها متجسدة في غيرنا من الاشخاص. هي شيء شخصي له كيان فردي. الحرية الكيانية الشخصية هي الفرد الكائن، انها ظَهورة شخصية، أي ذاتٍ مستقلة أو وجود مستقل. بمعنى آخر، هي ليست “الانسان المجرَد”، انما هذا الانسان بالذات، أي أنا وأنت ونحن…”. ما هي الحرية؟ يجيب مالك: هي الناس الاحرار انفسهم حيث وُجدوا وحيث يوجدون…”
بين الحرية الجماعية والحرية الشخصية:
أيٍ منهما تأتي قبل الاخرى؟ حرية الجماعة؟ أي حرية المجتمع، والامة، والقومية، والدين، والحزب، والثقافة؟ أم الحرية الشخصية الكيانية؟
أولاً: الحرية الجماعية : مبدؤها: التَحرُر الجماعي أولاً، لا التحرر الشخصي.
يعتبر مالك أن المنكوب الاول عند من كان همُه فقط التَحرر الجماعي هو الانسان. “الحرية الجماعية” هي تعبيرعن ارادة الجماعات كالدول والشعوب والمجتمعات والامم والثقافات والاحزاب بأن تكون حرَةً وتحقق ذاتها عن طريق الاستقلال، والتحرر، وتقرير المصير.
هذه الحرية هي الاحبُ على قلب “الجماعويين” كالايدجيولوجيين والقوميِين بمن فيهم القوميين العرب، والقوميِين السوريين، والشيوعيِين، والماركسييِن، الذين يُسقطون أفكارهم وتصوُراتهم الذِهنية والعقائدية المُسبقة على الواقع فيشوهونه. هؤلاء يُعلِقون الحرية الشخصية، لا بل يُضحُون بالحرية الشخصية باسم التنمية، والسيادة القومية، والعدالة الاجتماعية والاقتصادية.
يجهل “الجماعويون” أن الحرية الجماعية هي لا شيء ان لم تؤدِ الى تحرير الشخص الانساني وتوجيهه نحو النور والوجود والحقيقة. الحرية الجماعية التي لا يتحرَر معها الشخص الانساني ليست حُرية. الحرية الجماعية التي تضحي بالحرية الشخصية ليست حرية. الحرية الشخصية هي التي تتقدم وتبرر أية حرية جماعية.
- لبنانياً، نتج عن هذه الحرية أشياءٌ مقلقةٌ كثيرةٌ للبنان الذي أراده مالك أن يكون وطناً شخصياً انسانياً بامتياز.
- عربياً، لا نغالي ان قلنا ان كل الانتفاضات والحركات العربية في الزمن الحديث والمعاصر لم تكن من أجل التحرر الشخصي أو دفاعاً عن حقوق الانسان الاساسية. فهي اما كانت من أجل مناصرة الدين، كحركات الصحوة الدينية. واما من أجل الدفاع عن القوم، كالتحرر من النير العثماني ثم الغربي، واما من أجل الذَود عن الارض كالصراع العربي الاسرائيلي، واما دفاعاً عن ايديولوجيا كصراع اليمين واليسار.
انسان الحرية الجماعية هو انسان الجماعة das Man
“انسان الجماعة” -على الصعيد الانتروبولوجي- لا يُفكر الا كما تتوقع منه جماعته أن يُفكِر. انه الانسان العاجز عن تحمُل وزر حريته الشخصية، فيُقرِر -بسبب حاجته الماسَة الى الامان-الاستسلام الى جماعته. انه الانسان الذي عندما تتحدث اليه بحضور أعضاء الجماعة التي ينتمي اليها لا تعود تدري ان كان هو الذي يُحدِثُك او جماعته التي تنطق من خلاله.
ثانياً: الحرية الشخصة الكيانية: مبدؤها التحرر الشخصي أولاً.
التحرر الشخصي أصعب بكثير من التحرر الجماعي. هنا نصل الى عمق كرامة الانسان، الى المعركة الازلية التي مبدأها الذات، معركة حمل راية العقل، والفكر، والنور، والحقيقة، والصيرورة، والنقد، والتغيير. فالحرية الشخصية هي معركة داخل الجماعة الواحدة، أو المجتمع الواحد، أو الشعب الواحد. معركة بين من ومن؟ انها معركة بين الاحرار والمستبدين.
هنا يصبح الاحرار جماعةً خاصة في التاريخ لانهم يخرجون من نطاق جماعاتهم وقومياتهم الضيقة ويستلهمون التراثات الحية عند غيرهم من الامم حتى تلك التي استبدت بهم. ان هذه المعركة لم تبدأ بعد في الشرق حيث لا تزال الجماعة هي المسيطرة، تقع هذه الحرية في ثلاثة أشكال:
- الحرية من شيء: أي الحرية من كل تعسف وكل ضغط وكل خوف وكل تجسُس وكل استبداد وكل عَوز.
- الحرية في شيء: حرية في الفكر والقول، في السعي والطلب، في الكينونة والصيرورة. “أُعرَف بعقلي وروحي وموقفي وتصرَفي أكثر بكثير ممَا أُعرَف بجسدي أو بانتمائي الى هذا العرق أو ذاك أو الى هذا المجتمع أو ذاك أو الى هذه الطبقة أو تلك أو الى هذه الثقافة أو تلك“.
- الحرية لاجل شيء: حرية الانسان في ملاءمة نفسه مع الحق المنفتح أمامه شيئاً فشيئاً، هذا هو الوجه الغائي للحرية. “… لا يكفي أن تكون موجوداً، ولا يكفي أن تتمتع بحرية الوجود.
بل يجب أن تكون لك حرية لكي تصير في ضوء معرفتك لما هو أفضل- لكي تصير ما يمليه عليك ضميرك أن تكون.
هنا الحرية الشخصية هي معيار الانسان الحر، والمجتمع الحر، والعالم الحر، والمسيحية الحرة في لبنان التي تريد أن تقرر هي مصيرها بيدها، لا أن يقرر غيرها مصيرها عنها.
ثالثاً، وأخيراً: هل الحرية الشخصية عند مالك هي حرية مسيحية؟
الانسان بحسب ظهوراته الاساسية هو ذلك الكائن الكئيب الحي المائت الذي هو في أمسِ الحاجة الى من يلتفت الى مأساوية وجوده. انه هائم يبحث عمن يتضامن معه، وينهي غربته وينقذه من طبيعته المائتة ومن تسلُط الموت عليه فيُعيد اليه عافيته الروحية فيخلق فيه الوجود والفرح الكيانيين، الامر الذي عجزت عن تحقيقه كل من دعوة Heidegger باعتناق الوجود الحقيقي والاصيل ودرء الوجود غير الاصيل، ودعوة Sartre للانسان بخلق نفسه بنفسه.
وعليه، فان الحرية الاصيلة في مقصد مالك هي حرية روحية مسيحية بامتياز. الحرية عنده تطرح مسألة البدايات والخلق، انها مقيدة بالايمان. هنا الحقيقة وحدها تحرر: “تعرفون الحق والحق يحرركم.” فلا يعرف الانسان الا ابن الانسان. فيصبح الشخص الانساني شخصاً اذا قدِر له اللقاء بشخص المسيح.
خارج المسيح لم يكن ليحترم الانسان الفرد الشخص. خارج المسيح لم تكن لتُحترم حرية الضمير والكرامة الاصلية التي لا تنتزع منه. الاعتراف المُسبق بابن الانسان الشخص يشرط الاعتراف بالانسان الشخص. متى احترم المسيح الشخص، تأكد احترام الانسان الشخص.
مع أن مالك كان مسيحياً مؤمناً في صخب العالم السياسي الا أننا لا نجد في كتاباته ما يشبه لاهوت التحرير. وربما قد لا نجد عنده لاهوتاً سياسياً بالمعنى الذي ذهب اليه يوهان ميتز Metz أي ضرورة انخراط البعد اللاهوتي في الشأن الاجتماعي، بحيث يتحوَل البعد الاسكاتولوجي الى بعد نقدي للمجتمع، هذا البعد الاسكاتولوجي الذي انطلق منه Moltmann كي لا يبقى العالم كما هو، بل يسهم المسيحيون في تغييره. التحرر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي عند مالك مستقل عن التحرر الشخصي بالمسيح. الاقتصاديات والاجتماعيات والسياسيات شيء، وأوضاعنا الداخلية شيء آخر مختلف تماماً. حتى وان وُجد المجتمع الكامل اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، سيبقى الانسان بسبب حريته وفساده الاصليين مفطوراً على امكانية الكذب والنفاق والحسد والثورة والبغض.
انما الاكيد أن ما لم يكتبه مالك كانه فعلياً، وجودياً، كيانياً في صخب العالم.
***
*ألقيت في ندوة بعنوان: “شارل مالك المعلم، الفيلسوف والمؤمن، فسحة للأمل والتفكير في صخب العالم” بمناسبة ذكرى ميلاد الفيلسوف شارل مالك، نظمتها مصلحة المهن القانونية في حزب “القوات اللبنانية” برعاية رئيس الحزب سمير جعجع، في مقر الحزب، في معراب السبت 11 شباط 2023.