زياد كاج يؤرخ زمن بيروت الجميل في “بناية تي في تاكسي (سيرة مكان)”

 

حكمت حسن

 

في كتابه “بناية تي في تاكسي( سيرة مكان)” الصادر عن دار نلنس 2023، يهدي زياد كاج زمنه  “الزمن الجميل” إلى شقيقته عايدة.

زمن يسافر وذاكرته إلى طفولته ، بل إلى زواج والديه المزدوجي الطائفة ، الأب سنّي والأم أرثوذكسية، و سفرهما بداية إلى الكويت ، وعودتهما بعد عدة سنوات واستقرارهما في بناية ( الزاهد- ال تي في تاكسي – زيتونة) فهي الشارع والمنطقة والمدينة. وزياد كاج يخبرنا تفاصيل واقعية من حياة سكان البناية ، علاقاتهم مع بعضهم البعض ، تصرفاتهم المختلفة إزاء الظروف التي مروا بها ، بدءا من الحرب الأهلية عام ١٩٧٥ وصولا إلى احتلالها من قبل العدو الإسرائيلي ، ومن ثم مجيء النائب رفيق الحريري  واستشهاده في ٢٠٠٥ وصمودها كبناية رغم تبدل سكانها وهجرة البعض منهم ، وثبات البعض حتى يومنا هذا، ومنهم عائلة زياد كاج المؤلفة حاليا من والدته ” أم رياض ، وأخته عايدة ” صاحبة الإهداء” .

وفي روايته سأل زياد عايدة ما الذي  يعنيه لها الزمن الجميل؟ ، فتجيبه بعفوية واختصار ما يذكرها بصديقات صباها ومشاويرها معهن، ولو عكسنا السؤال أي جعلنا الأخت عايدة التي تحتل منزلة كبيرة عند الكاتب ، لو جعلناها تسأل زياد عن الزمن الجميل ، أظنه سيفتح هذا الكتاب ، ويعيد قراءته على مسمعها بعدما أنجز كتابته وأصدره عن دار نلسن عام٢٠٢٣ .

والكتاب يتضمن سيَر حياة عائلات شتى ، احتفظ بها زياد في ذاكرته كما هي ، وعندما باشر بالكتابة استعان بما خزنه طوال سنوات عمره حتى اليوم ، ورواه بأسلوب من يعرض ولا يحاكم ، من يخبر ولا ينم، بل هو يعترف في أكثر من فصل ، بقيم وأخلاقية وعراقة تلك العائلات ، وفي الوقت نفسه اندماجها المتفاوت مع واقع عام يغلف بنايتهم، وكأنها كما قال في إحدى عباراته ، قريتهم العامودية التي يخشون عليها من الضياع ، فيتعاضدون ويتبادلون الخدمات . والجامع بينهم شخصية والده ” أبو رياض” الذي يحتل قسما كبيرا من السرد ، بدءا من انضباطه في عمله كناطور ، إلى تشكيله لشلة في الحي تتألف من بعض الجيران ، ونقاشاتهم الدائمة واجتماعاتهم حول “كأس عرق”  والشخصية الهامة الثانية” أم رياض”  والدته التي خصص لها فصولا عديدة أو أجزاء من فصول ، ليخبر عن مدى تفانيها في عملها خارج البيت وداخله ، وهي الصامتة والتي تميل إلى قلة الكلام ، وتحمل معها طيبة أهلها في المنصورية وحفاوتهم بالآخرين وحنوهم على جيرانهم، والمثل الأبرز تصرفها مع الحلاق الأرمني ” كوكو” وقد كانت تخصص له صحنا مما تطبخه في مطبخ تقضي فيه معظم أوقاتها، كغالبية نساء ذلك الزمن، محتفظة بتلك العادة القروية والتي يتم خلالها تبادل صحون طعام معدّ في البيوت من جارة إلى جارة.

زمن زياد كاج في الرواية أسرني كقارئة، إذ كيف لي أن أعرف عن وطأة  الحياة على  الناس في بيروت  في ظل حروب أهلية وسيطرة أحزاب  ودخول العاصمة تحت وصاية الجيش السوري؟!  كيف لأي كان أن يعرف تأثير احتلال بيروت ومحاصرتها من قبل الجيش الإسرائيلي ، وتوزيعه لمناشير تهدف إلى هجرها؟!، م كيف لأي ممن لم يسكنها أن يعرف ما معنى أن تنهار قذائف طوال ١٠ ساعات متواصلة ، إبان قصف الجنرال عون لها ، وهو كما قال قصف لم تشهده بيروت من قبل لناحية غزارته؟! كيف لأي ممن لم يعش في مرحلة النائب رفيق الحريري أن يدرك التحول السريع الذي تأثرت به عائلات بيروت الأصلية؟!، وكيف بدأ تجديد العمارات القديمة التي تحمل التاريخ، وبناء بنايات عالية  في رؤيا مدينية مختلفة عما كانته بيروت!!.

وكقارئة أنتظر أن لا تنتهي قصص هذه العائلات لئلا أفقد معها إحساسا عميقا بأنني قد  شاركتهم محطات من حياتهم أرّخها  زياد كاج ونقلها إلينا في ٢٢١ صفحة من الحجم المتوسط.

زمن هذه الرواية جميل لأنه مرّ،  ونحن كما قال الكاتب في نهايتها لا ندري أي زمن جميل سنترك لأبنائنا.

البنيه ١٠-٢-٢٠٢٣

اترك رد