انتهى العمل في كتاب أكاديميّ يصدر عن مشروع أفكار اغترابية، رائد النهضة الاغترابية الثانية، من أستراليا إلى العالم. والكتاب بعنوان “المؤثّرات الشرقيّة والأسطوريّة في بواكير الشعراء الأستراليين”. والدراسة تناولت أعمال تشارلز هاربر، آدم ليندسي غوردن وهنري كيندال. وهذا الأخير هو أكثر الشعراء استخداماً للأساطير والمؤثّرات الشرقيّة، فقد أحصينا له 13 قصيدة تحتوي على تلك المؤثّرات أشهرها عن النبي إيليا، وعن شاول الطرسوسي (بولس الرسول ) في رحلته إلى دمشق، وأخرى عن ليليث (المرأة الشريرة وزوجة آدم الأولى في أسطورة قديمة)، ورابعة عن ملك يوناني قديم عاش في الألف الثاني قبل الميلاد، يدعى أوجيجيس. ويستند الشاعر كيندال في القصيدة إلى الرواية التالية:
في حوالي 2000 سنة قبل الميلاد، حدثت نهضة عمرانيّة على يد أوّل مصريّ هاجر إلى اليونان، وكان اسمه إيناشيوس. وقد علّم السكّان البلاسجيّين كيفيّة إشعال النار وطهي اللحوم، وبناء المنازل عن طريق رصف الأحجار بعضها فوق البعض. واعتقدت الأجيال اللاحقة أنّ العمالقة قد بنوا تلك المنازل لضخامتها ومناعتها، ولزيادة التأثير في الرواية كان يقال إنّ لكلّ واحد من أولئك العمالقة عيناً واحدة. وفي فترة وجود إيناشيوس في بلاد اليونان، تمكّن القدماء من بناء مدينة أرغوس. وحدث زلزال وفيضان عظيمان، فغمرت المياه الأرض، وفرّ السكّان إلى التلال، ومات عدد كبير منهم غرقاً.
واضطرّ الناجون إلى بناء منازل جديدة، ولكن بعد أن تراجعت المياه، اكتشفوا أنّ الجدران وبعض المنازل التي غمرها الطوفان لم تتزعزع. وسمّي ذلك الفيضان بفيضان أوجيجيس، وهو الملك الذي كان يحكم ذلك الشعب.
وبعد الطوفان، وصل إلى هناك أمير مصريّ يدعى سيكروبس، فقرّر أن يبني مدينة إلى الشمال الشرقيّ من أرغوس، ودعا السكّان للانضمام إليه. وعلّمهم حراثة الأرض، وزراعة الزيتون والكرمة والحبوب، وطريقة عصر الزيتون، وتربية الحيوانات الأليفة، وعلّم النساء غزل الصوف لصناعة الألبسة بدلاً من الجلود. وبعد أن بنى سيكروبس عدّة قرى في أتيكا، بنى مدينة كبيرة سمّيت سيكروبيا تيمّناً به، ثمّ دُعيت أثينا، تكريماً للإلهة أثينا (مينرفا). وبعد موت سيكروبس، خلفه بضعة أمراء، فعلّموا اليونان اقتناء الخيول، وصناعة العربات، وتربية النحل لاستخراج العسل. وفي الفترة نفسها وصل الملاّح الفينيقيّ قدموس إلى المنطقة نفسها، فحمل إلى السكّان الحروف الهجائيّة، ودرّبهم على التجارة وبناء السفن، وبنى مدينة ثيبة (طيبة). كما وصل مصريّ آخر يدعى دنّاوس، فابتكر للسكّان الاحتفالات الدينيّة والألعاب التي تكرّم بها إلهة الحصاد ديميتر، وبمساعدة دنّاوس تمكّن السكّان من بناء أسوار عالية ومنيعة حول مدينتهم، ووضعوا عليها أبراج المراقبة…
Guerber, A.H: The Story of the Greeks, 1996, Biblo and Tannan
p.p. 12-19
إنّ العمل على حكاية كهذه يتطلّب ثقافة عالية، ومعرفة تاريخيّة بأصول الأساطير والتاريخ أو ما نسميه التاريخ-أسطورة. وأعتقد أنّ الشعراء الأوائل الثلاثة كان لهم باع طويل في دراسة الدين والتراث للخروج بأعمال جليلة كالتي قرأناها لهم. وقد أجريتُ مسحاً شبه كامل على قصائد هؤلاء الشعراء، وربطت بين شعرهم والجذور المشرقيّة والميثولوجيّة.
هنري كيندال
وهنري كيندال: (18 نيسان 1839 – 1 آب 1882) هو مؤلّف وشاعر أستراليّ، اشتهر بشكل خاصّ بقصائده وحكاياته التي تدور في بيئة طبيعيّة. لم يستخدم اسمه الأوّل “توماس” مطلقًا، ونُشرت مجلّداته الثلاثة كلّها تحت اسم “هنري كيندال”.
وُلد كيندال في كوخ للمستوطنين على جانب “ياكونغارا كريك” بالقرب من ألادالا، نيو ساوث ويلز. كان جدّه القس توماس كيندال، وهو رجل إنجليزيّ جاء إلى سيدني عام 1809، وبعد ذلك بخمس سنوات ذهب كمبشّر إلى نيوزيلندا، قبل أن يعود ويستقرّ في نيو ساوث ويلز عام 1827.
في سنّ الخامسة، انتقل شاعرنا مع والديه إلى منطقة نهر كلارنس في شمال نيو ساوث ويلز. وتلقّى تعليماً طفيفًا فقط. وعندما كان عمره 15 عامًا، ذهب إلى البحر مع أحد أعمامه في رحلة لصيد الحيتان، وظلّ بعيدًا لمدّة عامين تقريبًا. وبعد عودته من تجربته البحريّة إلى سيدني كان يبلغ من العمر 17 عامًا، وكان من الضروري أن يفعل شيئًا لكسب لقمة العيش، فعمل مساعدًا في متجر. وفي ذلك الوقت بدأ بكتابة الشعر، واتّصل بالشاعرين جوزيف شيريدان، وجايمس ليونيل مايكل. وكان هذا الأخير محامياً، فأوكل إلى كيندال إدارة مكتبته.
وأقام كيندال صداقة أخرى مع الشاعر هنري باركس. وفي عام 1862 أرسل كيندال بعض القصائد إلى دار نشر في لندن فطبعت ثلاثًا منها. وفي نفس العام نُشر مجلده الأوّل Poems and Songs قصائد وأغانٍ، في سيدني. وبيعت النسخ كاملة (500 نسخة). وفي عام 1863 عَثر الشاعر على منصب في دائرة الأراضي. ثمّ نُقل إلى قسم السكرتير الاستعماريّ في عام 1864، وتمكّن من توفير منزل لأمّه وأخواته.
في عام 1868 تزوّج من شارلوت روتر، وهي ابنة طبيب من سيدني، وفي العام التالي استقال من منصبه في الخدمة الحكوميّة وذهب إلى ملبورن، حيث رحّب به زملاؤه الكتاب: جورج غوردون ماكراي، ماركوس كلارك، وآدم ليندسي غوردون. وعمل كيندال مع كلارك لإنتاج مجلّة ساخرة قصيرة العمر Humbug، في عام 1869، عاشت عاماً واحداً فقط.
وفي ملبورن نشر جورج روبرتسون مجلّد كيندال الشعريّ الثاني Leaves from Australian Forests أوراق من الغابات الأسترالية. وبيع عدد قليل من نسخ هذه المجموعة، وخسر الناشر.
وجد شاعرنا أنّه لا يستطيع أن يكسب رزقه من الأدب، فحصل على منصب مؤقّت له في مكتب الدولة الحكوميّ. ولكنّه فُصل من العمل بعد مدّة قصيرة، فانجرف إلى شرب الخمر. وكانت السنتان اللتان قضاهما في ملبورن من بين أكثر سنوات حياته بؤسًا. وفي كانون الأول 1870، وُجّهت إليه تهمة تزوير شيك، ووجدت المحكمة أنّه غير مذنب على أساس عاهة عقليّة. وكان في تلك الأثناء غير قادر على إعالة أسرته، فأُجبر على العودة إلى سيدني بسبب الفقر واعتلال الصحّة. واضطرّت زوجته للعودة إلى والدتها، فأصبح كيندال مهجورًا. وفي أوائل عام 1873 أمضى أربعة أشهر في مستشفى غلادسفيل للمجانين. في تشرين الثاني 1873 وظّفه الإخوة فاجان، وهم تجّار أخشاب بالقرب من غوسفورد، وحصل على منصب في مشاريع مايكل فاجان، في كامدن هافن، فمكث هناك ستّ سنوات.
في عام 1880 نشر مجلّده الثالث Songs from the Mountains أغانٍ من الجبال، فحقّق نجاحًا باهرًا، واحتوى المجلّد على قصيدة ساخرة عن أحد السيّاسيين في ذلك الوقت، فاضطرّ إلى سحب القصيدة بعد تهديده بدعوى تشهير.
وفي عام 1881، عيّنه صديقه القديم السير هنري باركس مفتّشًا لغابات الدولة براتب 500 جنيه إسترلينيّ سنويًا. لكنّ صحّته التي لم تكن قويّة أبدًا، تراجعت بسبب التنقّل الطويل المطلوب صيفاً وشتاء. فأصيب بقشعريرة شديدة ومضاعفات صحّيّة أدّت إلى وفاته في ردفيرن قرب سيدني، في 1 آب 1882. وعاشت أرملته بعده أكثر من 40 عامًا.
***
*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي
النهضة الاغترابية الثانية – تعدّد الأنواع