إضاءة على رواية “منارة الموت” للكاتبة هناء عبيد

 

 عفيف قاووق

 

 هناك تجاذب بين الفقر والمصائب، يتعانقان بشدّة، يشبه تجاذب الفساد والثراء الفاحش الغامض، هذه المعادلة التي توصل إليها آدم والتي رغب في تغييرها وقلبها، ليحقق معادلته الخاصة وهي ان ينعم بالثّراء النّابض بالشّعور، الثّراء المحمود الّذي ينصت إلى أنين الأشقياء بشغف، الثّراء الّذي يمسح دمعة بائس.

رواية “منارة الموت” للكاتبة هناء عبيد، تُمثل رحلة آدم وتصميمه على إنتشال نفسه من بؤرة الفقر والعوز متسلحًا بالأمل والقدرة على التغيير إذا توفرت الإرادة، وأيضا يُبيّن لنا زّيف الاقنعة التي تساقطت عن الوجوه وفضح ممارسات أصحابها.

     تتطرق الكاتبة في روايتها منارة الموت إلى مسألة التنمر، من خلال كيفية تعامل الصّبية مع آدم الذي يعاني إعاقة في إحدى رجليه، فكانوا يسخرون منه وينادونه بأبو رجل مسلوخة، يقول آدم لم أسلم من أذى الصّبية، طلبوا منّي أن أركل الكرة، لم أستطع أن احتفظ بتوازني سقطت على الأرض وانغمس وجهي بالطّين، هذا التنمر لم يكن مقتصرا  على الصّبية أو الصغار بل نجده أيضا  لدى الكبار الذين يروا  في أنفسهم ما يميزهم عن بقيّة البشر كوالد نُوى الذي كان يأمر آدم وأمه بالجلوس على الأرض، ويقول لزوجته الأرض موقع هؤلاء، لا يجب أن يتطاولوا يومًا على أسيادهم وإلّا تمرّدوا.

    تبين لنا الرواية أيضا شخصية آدم المشحونة بالتحدي والأمل ورغبته في تغيير واقعه نحو الافضل، يخاطب نفسه قائلًا: الانكسار تعافه نفسي، لن أنكسر يوما أمام أي أحد، واليوم الذي سأنتقم فيه من كلّ من مرّغ أنفي في الوحل سيأتي حتمًا، كما انه عندما شاهد الصورة التي تجمعه بنُوى الذي يحمل الكرة وهو يحمل سلّة الغسيل، عاهد نفسه انه سيستبدل هذه الصورة يوما بأخرى يحمل فيها الكرة وسلّة فاكهة ليوزّعها على أطفال القرية المساكين.    

     لم يتقبل آدم ان يكون عبئًا على غيره، فيسأل نفسه “ما الّذي يجعلني أنتظر صدقة من آخرين وأنا لدّي القدرة على العمل؟ لا أحبّ صدقة أحد، ما أبشع الظّروف الّتي تجبرنا على قبول ما لا نرغب فيه”. ولأجل تحصيل رزقه عمل صبي قهوة وضاعف مدخوله بصناعة عقود الياسمين ثم عمل صبي فندق، وعاود إكمال دراسته الجامعية وتخرجة من كلية الطب. كما ان إعتزازه بنفسه  جعله يرفض الخضوع والطاعة العمياء  فالجميع متساوون في نظره، من هنا فهو يرفض الانحناء لصورة الرئيس سواء رئيس البلاد او رئيس المصنع، ويتساءل عن رئيس البلاد “من يكون هذا الرّجل؟ أهو مبعوث الله من السّماء أم مخلوقٌ من معدن ذهب”..ويقول حينما تنحني لشخص وأنت تعلم أنّه يأكل قوت يومك ويسرق حليب أطفالك فأنت شريكه في السرقة، فالخنوع إجرام والذّل ذنب.

  قدمت الرواية آدم بشخصية المُحب والعطوف الذي يسعى جاهدا لمساعدة الآخر ليستحق بجدارة لقب صانع البسمة كما سماه صديقه أبو الأحزان. حاول آدم إدخال البهجة على الطفل سام وهو من ذوي الإحتياجات الخاصة وعمل على تأمين المساعدة والرعاية الاجتماعية له.. وفي الشأن الأسري نلحظ العلاقة الوثيقة بين آدم  ووالدته جودي التي يخاطبها بالقول: “جودي يا نورًا  تسرّب من بين الغيوم وأشرق دنيانا، سأعود يومًا لأجعلك سيّدة الأرض”  وأيضا فهو شديد التعلق بأخته الصغيرة وحرصه على مساعدتها وإدخال البهجة الى نفسها. إلا ان ما نقف عنده هو علاقته المضطربة مع والده  خصوصا والرجل عموما، مثلايقول عن والده ” مسكين أبي، أسدٌ علينا وفأرٌ أمام الآخرين” وأيضا عندما تكلم عن جده لأمه جودي يصفه بالكسول المشبع بالنذالة لإنه اختار ابنته جودي لتتحمّل المسؤوليّة قبل اشتداد عودها. ومن ناحية أخرى تبرز الرواية أمانة وأخلاق آدم التي منعته من الإحتفاظ بسوار الماس الذي وجده واعاده لصاحبته، كما تشير إلى حسن المعاملة والتصرف مع الفتاة شمس.  

      ظاهرة تكاد تكون شائعة في معظم مجتمعاتنا وهي ما يسمى بالجمعيات الخيرية التي تقوم بتوزيع المساعدات المجانية على المحتاجين، ولكن المتتبع لنشاط هذه الجمعيات يكتشف انها تمارس أعمال التجارة وجني الارباح بصورة مواربة وهذا ما تقوم به شركة الاخوين كاربنتر من خلال شاحنة محملة بالمساعدات يفترض أن توزّع على الفقراء مجّانًا، ولكن ما يحدث هو توزيع الجزء الأقل منها مجّانا وتحويل الباقي إلى المحال التجارية المملوكة أصلا من الشركة حيث يلاحظ وجود مثل أنواع هذه المساعدات في المحال التجارية التي تبيعها بأسعار عالية للمواطنين. كما ان رئيس البلدية يستحوذ على قسم من هذه المساعدات ليعاود توزيعها باسمه خلال فترة ترشحه للإنتخابات.

    كما تشير الرواية إلى ظاهرة الفساد والمتاجرة بصحة المواطن من قبل شركة كاربنتر والتي تشكل فرعا من فروع مافيا الدواء حيث تقوم بترويج أدوية منتهية الصلاحية وفاسدة، أودت بحياة الكثيرين ومنهم والدة جورج وابنة ريّان بعد تناولهما أدوية توزعها شركة كاربنتر، ولم يقف استهتار شركة كاربنتر عند حياة المواطنين بل وصل إلى الاستخفاف حتى بحياة موظفيها عندما انزلقت رجل الموظف رمزي خلال تأديته عمله  ورفض مديره طلب الإسعاف ومعالجته على نفقة الشركة، بل تم الاستغناء عنه دون أية تعويضات، ولم تكتف الشركة بهذا الاجراء التعسفي بحقه بل عمدت إلى خطفه ولا يعلم عنه شيئًا واختفت معه كل الاوراق والمستندات التي كان يجمعها لتسليمها للمحامي لرفع قضية على المصنع. بعد أن حاول فضح ممارساتها عبر منشوراته على صفحة الفايسبوك. وكذلك فعلت الشركة مع زميليه جورج الذي كان يحارب بقلمه وأسس مجموعة من العمال للإعتراض على ما يحدث فكان نصيبه رصاصة أودت يحياته.وهي حال زميله ريّان أيضا والذي إختفى بعد محاولته كشف سر الشاحنة الليلية المحملة بمواد مشبوهة.

    في جانب آخر تظهر الرواية أيضا وجهة نظر هانا في تخليها عن حبها لآدم وبحثها عن فارس أحلام يحقق لها طموحاتها فتقول :”بقي آدم صبيًا لا يغري طموح أيّة أنثى. ولم أحلم يومًا بأن أعيش كما أمّي بثيابها الممزّقة، أريد أن أمسك شعاعات الشّمس بيديّ، العتمة تقتلني والفقر يقرصني لا أريد أن تختبىء بسمتي خلف حرمان. قسوت كثيرًا على آدم، عشت صراعا تغلّب فيه حلمي بمرافقة أمير ساندريلا على حبّي لصبّي المقهى. لا أدري إن كنت أنانيّة أم عقلانية.

كما لم تغفل الكاتبة الإشارة الى الادمان على إستعمال وسائل التواصل الاجتماعي التي أدخلت الفرد في عالم الجنون والسحر بجهاز يصله مع كلّ سكّان الأرض لكنّه يعزله  تمامًا ليعيش في قوقعة وأوهام هلاميّة وبشخصيّة لا تشبههُ. ناهيك عن بعض النتائج الكارثية أحيانا نتيجة هذا فتشير الرواية إلى انّ احد تلامذة المدرسة دفع عمره لهذا الجهاز، بينما كان يمشي  في طريقه كان يضع السّماعات على أذنيه فإذا بالقطار يطرحه صريعًا. 

  ختاما يبقى السؤال قائما كيف سنواجه هل المواجهة تكون  كما يقول آدم “ستكون البسمة سلاحي الوحيد حينما أنشرها على شفاه البؤساء، لتكون السّكين في خاصرة الطّغاة الذين يغتالون الحياة من الوليد في مهده، ويسرقون زجاجة الحليب من فم الرضيع ويقتلون الحلم قبل ولادته. أم اننا ننحاز إلى وجهة نظر زميله جورج القائلة بأنّ الظّلم لا يعرف البسمة، العنف لا يقاوم بشفاه تكشف عن أسنانها ببلاهة، العنف يُقاوم بالعنف والحقّ يؤخذ بالقوّة 

 لا بد للقارىء من التوقف عند بعض العبارت الجميلة والمعبرة التي احتوتها الرواية ومن هذه العبارت نذكر ما يلي :

  1. كلّي يقين أنّ ظهرك المحدّب قد يكون ملاذًا أكثر قوة منّي، حينما يُمَكِّن الحجارة الموجّهة الى وجهك بالانزلاق عنه 12 
  2. خشيت أن يتلوَّث البلاط اللّامع من انعكاس وجهي عليه.14 
  3. أم نوى تبدو لامعة بثوبها الزّهريّ المزيّن بالرّيش، وأمي يلتصق بثوبها ريش الدّجاج المتطاير من قفص دجاجات أمّ هانا.14 
  4. أجد صعوبة بداية الأمر في الجلوس على الكرسيّ لتناول الطّعام، فقد تعوّدت وأسرتي الأكل على الأرض.24 
  5. لو أستطيع ركله ( والد نُوى) بحذائي المتّسخ الّذي أراه أكثر نظافةً من وجهه القبيح.25

اترك رد