رائِدُ الجَمالِيَّةِ بِمَظهَرَيها: أَلأُنْثَى والشِّعْر

 

 

 

لِمُناسَبَةِ رَحِيلِ الشَّاعِرِ رِيمُون شِبْلِي، نَستَعِيدُ ما كَتَبنا مع الغُصَّةِ والدَّمعَة!

 

 

 

أَعدَدتَ باِلشِّعرِ!

أَعدَدتَ باِلشِّعرِ زادَ الغَدْوِ لِلآتِي،         لِكُلِّ قَلبٍ تَلَوَّى في التَّعِلَّاتِ

عَلَى رَنِيمٍ، دَفِيءِ الجَرْسِ، في غُرَرٍ      مِنَ القَوافِي الشَّذِيَّات النَّدِيَّاتِ

غَزِلتَ بِالمَرأَةِ الحَسناءِ، يا وَلَهًا           يَحُطُّ في الطِّرْسِ وَجْدَ الصَّدْرِ والذَّاتِ

وَالشِّعرُ إِنْ لَم يَكُنْ آهَ النَّسِيبِ فَقُلْ        دَوْحًا تَعَرَّى مِنَ الخُضْرِ الوُرَيقاتِ

لا زَقزَقاتٍ على مُلْدِ الغُصُونِ، وَلا        شَجْوَ الحَفِيفِ تَناهَى في النُّسَيْماتِ

هِيَ القَصائِدُ إِنْ تَسْمُ فَإِنَّ بِها             طَلًّا يُسَكِّنُ مِنْ جَمْرٍ بِآهاتِ

شِبْلِي… تَغَنَّى فَإِنَّا لِلغِناءِ، فَلا            يَشفِي الصُّدُورَ سِوَى شَدْوٍ وَناياتِ!

 

 

أَيُّها الحَفْلُ الكَرِيم.

جاءَ في نَشِيدِ الأَنشادِ: «إِلى أَنْ يَفِيحَ النَّهَارُ وَتَنهَزِمَ الظِّلاَلُ، أَذهَبُ إِلى جَبَلِ المُرِّ وإِلى تَلِّ اللُّبان»(1).

جَبَلُنا، في هذهِ الأَيَّامِ العِجافِ، هُوَ أَنتَ أَيُّها الشِّعْرُ، ما كَتَبَتِ الأَقلامُ الشِّفافُ، وَهَمْسُ الحَنايا، وَنَجِيعُ الشَّغافِ، لا ذاكَ المُنْتَحِلُ صِفَةَ الشِّعْرِ والشِّعْرُ مِنهُ بَراء. أَنتَ المُبَرقَعُ بِالوَجْدِ الصَّافِي، وَاللَّحنِ الحالِمِ، لا بِالأَوزانِ الجافَّةِ، وَلَو تَزَيَّت بِالتَّزاوِيقِ، وَوُقِّعَت على عُوْدٍ مُتَصَلِّبِ الأَوتارِ.

هُوَ جَبَلُ المُبدِعِينَ يُطَوِّعُونَ الحُرُوفَ فَتَجرِي في الصَّحائِفِ سَلاسِلَ لُجَيْنٍ، وَتُدَغدِغُ الآذانَ بِالنَّغَمِ، والحَفِيفِ، وتَغرِيدِ البَلابِل.

ولكِنْ…

أَنَّى لَنا بِمَن يَتَخَطَّرُ مَعَنا في مَطاوِي هذا «الجَبَلِ المُلْهَم»؟!

مَن يَرُودُ ضَبابَهُ بِشَغَفِ الحَبِيب؟!

مَن يَسكُنُ إِلى أَفيائِهِ بِلَهفَةِ طِفْل؟!

مَن تَستَلِبُهُ مَجالِسُ اللُّغَةِ الغَنِيَّةِ المُزَركَشَةِ، بِأَسيادِها الصِّيْدِ، في عَصْرِ «المِيدْيا» الفائِقَةِ الذَّكاءِ وَالإِغراء؟!

فَلْنَسِرْ في الوِهادِ والشَّجَرَ المُغْدَوْدِنَ، والسُّفُوحَ المُخْضَوْضِرَةَ، وَلْنَقُلْ: حَسْبُنا الشِّعْرُ مَلاذًا دافِئًا لِلسَّكِناتِ المُنهَكَة!

🟍🟍🟍

شاعِرُنا يَحفَظُ حُرْمَةَ مُوسِيقَى الشِّعْرِ، وهي رُوحُهُ النَّابِض. فَقَوافِيهِ لَيسَت بِالشَّلَّالِ الهادِرِ الَّذي يَصُمُّ أُذُنَيكَ صَخَبًا، وَلا هي طَنِينٌ فارِغٌ نَسِيجُهُ النَّشازُ والجَلَبَةُ، بَل هي السَّواقِي تَتَهادَى على حَصْباءِ التِّلالِ، بَينَ مُرُوجِ النَّوْرِ الزَّاهِي، وَالأُقحُوانِ العَبِق.

العَمُودِيَّةُ، عِندَهُ، أَنِيقَةٌ تُجانِفُ النَّظْمَ البَلِيدَ، فَهيَ الأَمِيرَةُ القَدِيمَةُ تَرفُلُ في مَطارِفِها الحَرِيرِ، فَتُرضِي العَصْرَ، تُشَنِّفُ السَّمْعَ، وَتُسْكِرُ الذَّائِقَةَ.

فَلْنَتَلَمَّظْ بِقَولِهِ:

«خَطَرٌ أَنتِ على البَحْرِ يَثُورُ         يَشتَهِيكِ المَوْجُ.. يَغْلِي، وَيَفُورُ

وَتَهُبُّ الرِّيحُ يُغرِيها صَدَى           جَسَدٍ حارٍّ، يُغَنِّي، يَستَثِيرُ!»

(ص 60)

وَبِاللهِ عَلَيهِ، يَأخُذُنا إِلى مَدامِيكِ المُتَنَبِّي القائِلِ:

«عَلَى قَلَقٍ كَأَنَّ الرِّيحَ تَحتِي           أُسَيِّرُها يَمِينًا أَو شِمالا»

حِينَ يَقُولُ هُوَ:

«أَحارُ بِما أَنا فِيهِ.. كَأَنِّي،             على بُسُطٍ تَدُورُ بِهِنَّ رِيْحُ»

(ص 65)

وهو يُوَشِّي أُسلُوبَهُ بِالتَّشابِيهِ المُبتَكَرَةِ مِن مِثْلِ «وَبِصَوتٍ خَمرْ!» (ص19)، وَتِلكَ الَّتِي تَربِطُ بَينَ المَحسُوسِ وَاللَّامَحسُوسِ في تَراسُلٍ فَطِنٍ بَينَ الحَواسِّ هو مِن عُدَّةِ عَمَلِهِ، فَيُشرِكُ القارِئَ في لُعْبَةِ البَيانِ بِمِلْءِ وَعْيِه. يَقُولُ:

«تَرقُصُ الدُّنيا، يَتَهادَى الزَّمانْ! / غَرِّدْ يا وَردْ / وَاتَّسِعْ يا مَكانْ»   (ص25)

وَلا يَرْفِدُ مَقطُوعَتَهُ بِتَعابِيرَ مُستَهلَكَةٍ وَأَلفاظٍ جامِدَةٍ ثَقِيلَةٍ، كَما لا يَحْبِسُ نَفسَهُ، وَيُقَيِّدُ قَرِيحَتَهُ في أَنماطٍ كِتابِيَّةٍ مُبتَذَلَةٍ أَو «مُعارَةٍ مَكْرُورَةٍ»(2)، فهو صَنِيعَةُ نَفسِهِ، اقتطَعَ لَها في حِمَى الشِّعْرِ مِساحَةً لا يُشارِكُهُ فِيها آخَرُونَ، وَلا تَعِجُّ بِالسَّابِلَة.

كَما إِنَّهُ لا يُقَوْلِبُ قَلَمَهُ في مَدرَسَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَو تَيَّارٍ مَعْهُودٍ مَطْرُوقٍ، بَل يَنشُدُ الجُودَةَ مَهما كانَ لَبُوسُها.

رِيمُون شِبْلِي مِن رُوَّادِ الجَمالِيَّةِ بِمَظهَرَيها: أَلأُنْثَى والشِّعْر. أُنثاهُ مَصدَرٌ ثَرٌّ لِلإِلهامِ، وشِعْرُهُ تَعبِيرٌ حُرٌّ عَن الدَّهشَةِ والنَّشوَةِ واحْتِرارِ الجَوارِح.

وَالإِلهامُ لا يَكفِي لِكِتابَةِ الشِّعرِ، فَاللُّغَةُ هي الأَساسُ لِنَقْلِ الأَفكارِ والمَشاعِرِ، وشاعِرُنا مِن أَربابِها المُجَلِّينَ، وَسَدَنَتِها المُخلِصِين. فَالكَلِمَةُ، في دِيباجَتِهِ، لَبِنَةٌ في بِناءٍ مَرْصُوصٍ مَرْصُوفٍ، لا تُزاحِمُ وَلا تُزاحَم.

وهو يَتَعَبَّدُ في مِحرابِ الحُسْنِ وَيَقْنُتُ، ساجِدًا لِلمَرأَةِ – الإِلهَةِ أَفرُودِيت رَمْزِ الحُبِّ وَالشَّهوَةِ وَالجَمالِ، يَتلُو الصَّلاةَ شِعْرًا مُصَفًّى كَدُمُوعِ الفَجرِ، سَرْدُهُ صُوَرٌ زَاهِيَةٌ، وَأَخيِلَةٌ رِقاقٌ، في فَضاءٍ مُوسِيقِيٍّ راقٍ مِن قافِيَةٍ خَلِيلِيَّةٍ سَلِيمَةٍ خالِصَةٍ، أَو تَفعِيلَةٍ خَفِيفَةِ الوَقْعِ، شَجِيَّةِ الدَّلالَة. وَكَيفَ لا، والعُرْسُ لا تَكتَمِلُ مَباهِجُهُ إِلَّا بِالغِناءِ، وَضَرْبِ الصُّنُوجِ، وَرَنِينِ المَزاهِر.

وهو إذ يَتَشَبَّبُ بِالمَرأَةِ يَتَجاذَبُهُ خاطِرانِ، فَلا يَبْخَسُ أَيًّا مِنهُما حَقَّهُ.

فَإِنْ رَجَحَ الحُلْمُ المُجَمَّرُ، وَالخَيالُ الشَّارِدُ على جَناحِ شَهْوَةٍ تَستَخِفُّ، فَقُلْ رِيْشَةٌ تُلامِسُ مَكامِنَ الفِتنةِ الحِسِّيَّةِ، بِيَدٍ تَتَلَبَّسُ المَشاعِرَ بِحِذْقِ عارِفٍ مُتَمَكِّن. يَقُول:

وَفِي انطِلاقَةِ ساقَيها رُؤًى رَحَلَت

في الحُسنِ، في الضَّوءِ، في النَّائِي وما شَرَدا

(ص115)

وَيَتَوَغَّلُ أَبعَدَ، فَيُنادِي:

«نَهداكِ يَشتَعِلانِ ثَورَةَ شَهوَةٍ هذا المَساءْ / شَفَتاكِ دافِئَتانِ أَكثَرْ.. / يا طِيْبَهُ هذا اللِّقاءْ // مِنْ كَأسِهِ، / لا مِنْ كُؤُوسِ الخَمْرِ نَسْكَرْ!»        (ص131)

وَلَكَم يَحَمُّ بَوْحُهُ، فَيَنهَدُ إِلى «نَهْدٍ مُشاغِبْ / مُثِيرِ المَتاعِبْ / وَقَدٍّ وَتَرْ» (ص152)، وَيُناجِي «ساقًا على ساق» (ص25)، مِن دُونِ أَنْ يَكُونَ «إِلى رَبِّكَ يَومَئِذٍ المَساق»(3)، فَالصَّدرُ شُعَلٌ، وَلَهَبٌ في الآفاقِ، وَلا مِنْ واقٍ، أَو تِرْياق. وَالشِّعْرُ، يا صَحْبُ، ما لَم يُعَرِّجْ على سِحْرِ الفِتنَةِ، بَينَ جَوْلَةٍ وَجَوْلَةٍ، تَجِفُّ في أَمالِيدِهِ العُرُوقُ العَطاشَى، وَيُصَوَّحُ النُّضار.

على أَنَّنا لَن نَحُوكَ أَكثَرَ على هذا المِنْوالِ، كَي لا نُوْغِرَ ذاتَ الدَّلالِ، وَنَحنُ لا نَقْوَى على ازْوِرارِها وَالجِدال. ثُمَّ أَلَيسَ عَلَينا «الرِّفْقُ بِالقَوارِير»(4)؟!

أَمَّا في الخاطِرِ الثَّانِي الغالِبِ على غَزَلِيَّاتِهِ، فَهوَ لا يَرَى المَرأَةَ دُمْيَةً يَزِينُها رُواءُ الإِهابِ لِمُتعَةِ النَّظَرِ وَلَذَّةِ الحَواسِّ، بَل هي الثَّقِيفَةُ المُتَنَوِّرَةُ الدَّاخِلَةُ في مَعْمَعانِ الحَرْفِ وَشُجُونِه. «تَبنِي مِساحَتَها تَقُولْ:

/ قَدَرِي الثَّقافَهْ؛ / كُتُبٌ وَأَوراقٌ وَحِبرْ / وَحُرُوفُ شِعرْ!» (ص15). وَهِيَ: «إِمرَأَةُ التَّحَدِّي! / في يَدِها القَلَمْ / قَصائِدٌ مِنَ الطُّمُوحِ، وَالحُلُمْ» (ص16).

وَإِذا مَرَّ الجَسَدُ عَرَضًا، فَبِشَفافِيَةٍ تَسمُو بِهِ عَن مَباذِلِ التُّرابِ، فَالحَبِيبَةُ، تَختَصِرُ الجَمالَ في كِيانِها لِتَغْدُوَ «الزَّمَنَ الجَمِيلَ» (ص31)، في نَظَرِ هذا الشَّاعِرِ الرَّقِيق. وهي الفِردَوسُ العائِدُ تَعوِيضًا عَن فِردَوسٍ مُضاعٍ مِن ذانِّكَ الكائِنِ الَّذي سُلِبَ الإِرادَةَ حِينَ أَومَأَت إِلَيهِ رَبَّةُ البَهارِ بِرُوائِها فَخَرَجَ عَن مَشِيئَةِ البَعْلِ، وَغَدَت هي السَّاحِرَةَ الَّتي تَهمِي طَلًّا على جَفافِ الأَياَّم،ِ وَتَفرُشُ الواقِعَ اليَبِسَ بِالنَّدَى، وَالشَّهْدِ، وَالعَبِير!

أَلمَرأَةُ، في رِيشَةِ هذا المُلهَمِ، أَسمَى مِن أَن تُوجَزَ بِخَصْرٍ ضامِرٍ، وَصَدْرٍ عامِرٍ، وَأَرداف. إِنْ هِيَ إِلَّا الوَحْيُ، وَرُوحُ القَصِيدَةِ النَّابِضُ أَبَدًا، وَغِلالَةُ الأَمَلِ في جَهْمَةِ الوُجُود.

وَالحُبُّ، في قامُوسِ صَدِيقِنا، وَحَبَّذا القامُوسُ، هو «حُرِّيَّةٌ صُوفِيَّةٌ، وَرَوْحَنَةُ الجَسَد» (ص33).

خِتامًا

رِيمُون شِبْلِي…

أَنتَ شاعِرٌ شاعِرٌ، في دَمِكَ تَسرِي القَوافِي نَغَمًا رَقِيقَ الهَدْهَداتِ، وفي حَناياكَ دِفْءُ الحُرُوفِ المُحيِيَة. وَالَّذِينَ مِثلُكَ لا تَشِيخُ قُلُوبُهُم، وَلَو تَكَدَّسَتِ الغُضُونُ في القَسَماتِ، أَو تَوالَتِ الحِقَبُ على دَفاتِرِ العُمرِ، وَيَدُومُونَ لَمَعانًا، لا يَخبُو، وَنُسْغًا حَيًّا يَسُوقُ اللَّيانَ إِلى كُلِّ فَنَنٍ هَزِيل.

أَخَذَتِ الحَسناءُ بِمَجامِعِ قَلبِكَ، فَأَخرَجتَ لَنا، وَلِلآتِي، دُرَرًا مَنضُودَةً في «ثائِرَةٍ بَيضاءَ»، فَشُكرًا لِدَلالِها، وَلِما يُنبِتُ في الأَرضِ الجَدْباءِ، فَاذهَبْ ما شِئْتَ في غُنْجِها، فَلَن نَقُولَ لَكَ مَعَ الشَّاعِرِ: «أَبعَدَ الشَّيبِ تَتَّبِعُ الغَوانِي؟!».

وَشُكرًا!

***

 

(كَلِمَةُ مُورِيس وَدِيع النَجَّار في نَدْوَةٍ دَعَت إِلَيها الحَرَكَةُ الثَّقافِيَّةُ – أَنطِلياس، حَولَ دِيوانِ «الثَّائِرَةُ البَيضاء» لِلشَّاعِرِ رِيمُون شِبْلِي)

 (1): «إِلى أَنْ يَفِيحَ النَّهَارُ وَتَنهَزِمَ الظِّلاَلُ، أَذهَبُ إِلى جَبَلِ المُرِّ وإِلى تَلِّ اللُّبانِ»

                           (الكِتابُ المُقَدَّس، سِفْرُ نَشِيدُ الأَنشادِ، فَصْل 4/6)

(2): «مَا أَرَانَا نَقُولُ إِلاَّ مُعَادًا،         أَو مُعَارًا، مِن قَولِنَا، مَكرُورُا»   (زُهَير بِنْ أَبِي سُلْمَى)

(3): ﴿وَالتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاق. إِلى رَبِّكَ يَومَئِذٍ المَساق﴾   (القُرآنُ الكَرِيمُ، سُورَةُ القِيامَةِ، الآيَات 29 – 30)

(4): «رِفْقًا بِالقَوارِير»   (قَولٌ لِلرَّسولِ مُحَمَّد يُكَنِّي فِيهِ النِّساءَ بِالقَوارِيرِ لِرِقَّتِهِنَّ وَأُنُوثَتِهِنّ)

 

 

اترك رد