“مرآة الإمبراطورية: مسكوكات ملوك سوريا السلوقيين”

 

 

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب باسيليوس زينو “مرآة الإمبراطورية: مسكوكات ملوك سوريا السلوقيين”، وهو دراسة أيقونوغرافية – أثرية للمسكوكات الهلنستية من الإسكندر المقدوني حتى أنطيوخوس الثالث عشر 333-64 ق. م، ويتألف هذا الكتاب من 558 صفحة، ويشتمل على قائمة ببليوغرافية وفهرس عام.

الكتاب، كما ذكرنا، دراسة أيقونوغرافية – أثرية، وهي دراسة شاملة للإصدارات النقدية الهلنستية بداية من عهد الإسكندر المقدوني إلى نهاية عهد آخر الملوك السلوقيين أنطيوخوس الثالث عشر، وهو يركز على تاريخ الأسرة السلوقية التي حكمت سوريا في الفترة 312-64 ق. م، ويقدّم تحليلًا تفصيليًا لـ 224 مسكوكة تشمل أهم إصدارات الفترة الهلنستية (إصدارات الإسكندر الأكبر)، ومسكوكات ملوك سوريا السلوقيين، وفق تسلسلٍ زمني يمتد إلى سقوط إمبراطوريتهم على يد القائد الروماني بومبي العظيم.

يستهل المؤلف كتابه بتناول السياق الجغرافي والتاريخي لسوريا في عهد السلوقيين، ثم يتطرق إلى المعايير الوزنية للمسكوكات الذهبية والفضية والبرونزية، ويوضح الفرق بين المعيار الوزني الأتيكي والمعيار الوزني الفينيقي. ويتناول الفئات النقدية، والأنماط والنقوش التي حملتها المسكوكات التي هيمن عليها الطابع الديني. ويتضمن الكتاب دراسة توصيفية – تحليلية لمسكوكات الملوك السلوقيين الذين اعتمدوا سياسة الإسكندر الأكبر الاقتصادية، وسياسات ورش السكّ في عهده، ويتضمن، أيضًا، التمثيلات والموضوعات الأيقونوغرافية؛ ما يمكّن من الاستدلال على التغيرات الاجتماعية – الاقتصادية في الإمبراطورية السلوقية.

السياق الجغرافي والتاريخي

عمد علماء المسكوكات والمتخصصون في الفترة السلوقية إلى تقسيم المملكة السلوقية بحسب المقاطعات، تسهيلًا لدراستها وتصنيف إصداراتها وفقًا لورش السك، وذلك كما يلي:

يشير مصطلح “سوريا سلوقية” إلى الإقليم الذي يضم المدن السورية الأربع التي تشمل أنطاكية على نهر العاصي، وسلوقية بيرية، وأفاميا على العاصي، ولاوديكية (اللاذقية) على البحر. وهي ضمن “سوريا الشمالية” الواقعة إلى الشمال من نهر الإيلوثيروس “النهر الكبير الشمالي” Ελεύθερος. وهذه المدن الأربع أصبحت أهم المراكز الهلنستية السورية على الإطلاق، تليها أهميةً سلوقية زوغما، وكيروس (سيروس، النبي هوري حاليًّا)، وإبيفانيا (حماة)، وبيروية (حلب)، وخالكيس بيلوس، وروسوس (أسوز)، إضافة إلى مدن أخرى اندثرت ولا نعلم عنها شيئًا كثيرًا. ويشير مصطلح “سوريا الشرقية” إلى المنطقة الواقعة بين بيروية (حلب) ونهر الفرات. أما مصطلح “سوريا المجوفة”، فهو الإقليم الواقع إلى الجنوب من نهر الإيلوثيروس، ويشمل هذا المصطلح فينيقيا. وقد احتل بطليموس الأول هذا الإقليم بعد معركة إبسوس (عام 301 ق. م)، وبقي في حوزة البطالمة حتى استعاده أنطيوخوس الثالث بصفة نهائية (عام 200 ق. م.) بعد الحرب السورية الخامسة. وجرى التمييز بين ميزوبوتاميا الشمالية، وهي المنطقة الواقعة بين نهرَي دجلة والفرات شمال مدينة بغداد الحالية (بلاد ما بين النهرين) وبابيلونية Babylonia، وهي المنطقة الممتدة جنوبًا من بابل وسلوقية دجلة.

وبالنسبة إلى أماكن سكّ المسكوكات، فقد استُخدمت مصطلحات عامة، لكنّ المتخصصين في المسكوكات السلوقية عمّموا استخدامها؛ إذ يشير مصطلح “الغربية” إلى المنطقة الممتدة من تراقيا حتى آسيا الصغرى وكيليكية وسوريا الشمالية وفينيقيا الشمالية وميزوبوتاميا الشمالية إلى الغرب من نيسيبيس. في حين يشير مصطلح “الشرقية” إلى بابيلونية ومنطقة الخليج العربي وفارس وسوسيانة وميدية.

ربما يكون أحد أعظم إنجازات السلوقيين، بعد تأسيسهم المستعمرات، هو إبداعهم تقويمًا حقيقيًّا. ولئن لم يكن هذا التقويم الأول من نوعه – بالنظر إلى أنه سبق لبعض المدن الفينيقية أن بدأت استخدامَ تاريخٍ ثابت – فإنه كان أول تقويمٍ شامل، ثمّ إنه يُعدّ بمنزلة إحدى أدوات الهيمنة المركزية الإمبراطورية التي تُخضع قاطني الولايات السلوقية لسلطتها الزمانية، بحيث كان تداول النقود والنقوش الإيبيغرافية والمخطوطات الرسمية الإدارية والمراسلات الشخصية التي تضمنت التأريخ السلوقي بمنزلة توسيعٍ لحدود الإمبراطورية.

واعتُمد التقويم السلوقي على نطاق واسع في آسيا، واستُخدم في جميع أرجاء الإمبراطورية البارثية والممالك الثانوية التابعة لها، واستمرّ قرونًا طويلة حتى بعد اندثار المملكة السلوقية عام 668. واستخدمه اليهود الذين اشتبكوا مع القوات السلوقية في سلسلة من الحروب خلال انتفاضة المكابيين لاحقًا.

وبقي هذا التقويم قيد التداول حتى فترة قريبة بين المسيحيين السوريين؛ إذ استخدمه المؤرخون السريان في مخطوطاتهم، على غرار تاريخ مار ميخائيل السرياني الكبير (1126–1199). وقد عُثر عليه في مقابر النساطرة المسيحيين في آسيا الوسطى التي يعود تاريخها إلى القرن الرابع عشر للميلاد. ونجد السنة السلوقية موثقةً لتكريسات أرضيات لوحات الموزاييك (الفسيفساء) المنتشرة في منطقة شرق المتوسط، كما هو الشأن في لوحة فسيفساء “المسعودية” التي احتوت نقشًا باللغة اليونانية يشير إلى اسم صانع اللوحة، إضافة إلى اسمه باللغة السريانية، وتاريخ صناعتها، وهو 539 ΘΛΦ، وفقًا للتقويم السلوقي (227/ 228م).

المعايير الوزنية

يُعدّ الوزن عنصرًا أساسيًّا بالنسبة إلى المسكوكات المصنوعة من المعادن الثمينة، وتعكس الأسماء المختارة للتعبير عن الفئات النقدية الأساسية هذه الحقيقة. وكانت الوحدة الرئيسة في النقد اليوناني هي الدراخما Drachma بأجزائها ومضاعفاتها، وكان الأوبول Obol من أجزائها، وكانت كل ستة أوبولات تُعتبر دومًا مساويةً لدراخما واحدة.

اشتُق مصطلح “الأوبول” من الكلمة اليونانية “أوبيلوس” Οβελος، وهي تعني سيخًا حديديًّا. ففي العصور القديمة، استُخدِمت أواني الطهو Cooking Utensils وسيلةً نقدية، شأنها في ذلك شأن الحوامل الثلاثية القوائم Tripods و”الطناجر” Cauldrons، وغيرها من الأدوات المعدنية. ويُفترض أن السيخ الحديدي والأوبول الفضي كانَا مرتبطين معًا ارتباطًا مباشرًا باعتبارهما متساويين في القيمة.

إن الكلمة اليونانية “دراخ” δραχ، وهي تعني “حفنة” Handful، أصلٌ لمصطلح “دراخما”. ويُعتقد، بناءً على ذلك، أن هذه الكلمة كانت تعني مقدار ما تمسكه قبضة اليد من الأسياخ الأوبولات. ومع ابتكار المسكوكات البرونزية، استُخدم مصطلح “خالكوس” χαλκός Chalkous- في البداية بوصفه لقبًا، ثم اعتُمِد اسمًا يُعبّر عن فئة نقدية محدّدة. والبرونز عبارة عن مزيجٍ من معدنَين أساسيَّين هما النحاس والقصدير، وكان النحاس هو المعدن المهيمن في المزيج المعدني. وقد استُخدم مصطلح “خالكوس” للإشارة إلى البرونز والنحاس في آنٍ واحد؛ ما يدل على غلبة هذا المعدن في الخليط المعدني. واستُخدم مصطلحا “ذيخالكون” Dichalkon (أي برونزيتين) و”تيتراخالكون” Tetrachalkon (أي أربع برونزيات)، على نحو مضاعف للخالكوس، مثلما استُخدم مصطلحَا “دي أوبول” Diobol (أي أوبولين) و”تيتروبول” Tetrobol (أي أربعة أوبولات) للتعبير عن مضاعفات للأوبول.

مسكوكات الملوك السلوقيين

لا يمكن أن تتجاهل أيُّ دراسة تتناول المسكوكات السلوقية أو المسكوكات الهلنستية، عمومًا، الأنماط “المَلكيّة” التي سادت في عهد الإسكندر بعد حملته على آسيا، والتي كان لها تأثير مباشر في مسكوكات خلفائه. وتلك المسكوكات تُعرف لدى الباحثين بالمسكوكات “الإسكندرية” أيضًا؛ لأنها تحمل الأنماط التي اعتمدها الإسكندر على وجه القطعة النقدية وظهرها. وهي “مَلكيّة”، لأنها تُظهر ما يشير إلى أنها قد سُكت بناءً على أوامر السلطة الملكية؛ المقدونية في البداية، والسلوقية بعد ذلك. يضاف إلى ذلك أنها تتميز من المسكوكات “الإسكندرية”، المعروفة بـ “المحلية”، التي سُكت خلال القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد، وأنها تمثّل بداية المسكوكات المستقلة للمدن؛ إذ غيّر الاجتياح المقدوني الوضع النقدي تغييرًا جذريًّا، وتزامن انتشار “سكٍّ موحد” في سوريا، كما هو الشأن في غيرها من المناطق، مع تقدّم الجيش المقدوني. وتألّف هذا السك من مسكوكات ذهبية وفضية وبرونزية من المعيار الأتيكي الذي أصبح المعيار الوزني الأساسي. وتحمل هذه المسكوكات جميعها اسم الإسكندر باللغة اليونانية، وهي ذات أنماط جديدة ومشتركة بين جميع ورش السّك مكوَّنة من فئات نقدية متنوعة، منها “الستاير” الذهبية، و”التيترادراخما” الفضية، والمسكوكات.

اترك رد