يحمل أمين الريحاني رؤية إنسانية رائدة لتغيير المجتمع العربي. وما زالت أعماله الكبيرة نموذجاً يحتذى به في كل العالم. التزم في كتاباته بخدمة العرب والإنسانية جمعاء. يقول أدونيس: “كان في شخصية أمين الريحاني، بمعنى آخر، جانبٌ من الشِّعر والنبوَّة. وليس البُعد العمليّ للشِّعر، في نظره، إلاّ أن «يكون الجمالُ دليلَنا، والحبّ رفيقنا، والتَّساهل غايتنا القصوى»،وليس البعدُ العمليّ للنبوّة إلاّ أن «تكون أسرارُ الوجود ضالَّتَنا المنشودة، فلا توقفنا في نُشدانها عصمةٌ حقيقية أو موهومة»”.
فقد كان فيلسوف الفريكةأمين الريحاني يسعى إلى مجتمع متكافئ قائم على الحرّية والعدالة الاجتماعية. عُرف بنظرته التقدّمية التي تعمل على تحرير الإنسان من قيود الجهل والتّخلّف والفقر والتعصّب والأهواء الشخصية وأوهام العقائد الدينية (الريحانيات). فقد كان الريحاني مسيحياً مارونياً لكنّه يؤمن برسالة محمد وقدسية القرآن. ولعل أهمّ ما يميّز أدب الريحاني شعراً ونثراً هو اللّمسة الإنسانية الجمالية التي أضافها لشعره ونثره. فهو يرى أن في كل إنسان جذوة من الإنسانية، يقول في ديوان “هتاف الأودية”: “في كل إنسان جذوة من الخير لا يخمدها رماد الغواية. فإذا أنا صافحت مجرماً فإنني أصافح تلك الجذوة الكامنة تحت رماد شقائه وذلك القليل من الحب الراقد تحت بلائه.” وما تتميّز به كتاباته الشعرية والنثرية هو الرؤية الإنسانية لتجديد وتطوير المجتمع العربي.
فأمين الريحاني أفنى حياته في مقاومة التّطرّف وإعلاء شأن الإنسانية بعد أن أعلن انتماءه إلى كل الوطن العربي وإلى الإنسانية جمعاء. ورغم معاناة الريحانيمن تدهور الأحداث السياسية والاجتماعيةوهجرته إلى أمريكا، لم يغيّر شيئا من عشقه لوطنه وتمسّكه بعروبته.
وقد عُرف أمين الريحاني (1876-1940)بدفاعه المستميت عن كرامة الشعوب العربية وحقوقها المهضومة، خاصّة بعد أن أدرك بأن قِيَم الحرّيّة والعدالة الغربية تبقى من اختصاص الدوّل العظمى التي لم تطبّقها على غيرها من سائر الأمم والشعوب. وهو ما أكّده إدوارد سعيد بعد عقود من الزمن.
فكان أوّل من وضع أُسُس الحوار الحضاري بين الشرق والغرب بدعوته إلى التآخي بين الأديان والطّوائف في عالمنا العربي،وخلق مجتمع منفتح لا مكان فيه للتّعصّب الديني والعِرقي. يقول: “إنّكم، وإن استغوتكم السياسة واستهوتكم الأحزاب، لمن وطن واحد حسناته ذكاء أبنائه، ورأس آفاته تفرّد أبنائه. أريد بالتفرّد النزوع إلى التفريق، أو بالحري إلى العصبية، قوميّة كانت أم طائفيّة، جبلية كانت أم إقليميّة… ما زالت النعرات الطائفيّة حيّة فينا قويّة، ظاهرة كانت أم خفيّة. وهذه في نظري علّة العلل. فلا الوصاية ولا الاحتلال، ولا الضمّ ولا الانفصال، ولا الحرّية والاستقلال كبير نفع اليوم إذا كنّا لا ننهض على النزاعات الطائفية والنعرات الدينية فنقتلها وننـزع، في الأقل، غدد السمّ منها. ونزع غدد السم هو طرد الطائفية من ميدان السياسة. نزع غُدَدِ السم هو الطلاق التام بين الوطنية والدين”.
كان الريحاني معجباً بفلسفة المعري، ومؤمناً بفكرة التّبادل الثقافي الحضاري الذي هو سبيل العرب إلى التّقدّم. فانتقد كل الإيديولوجيات التي من شأنها أن تقف في وجه التقدم الحضاري العربي. ودعا إلى الحوار الثقافي العقلاني بين الشرق والغرب.
وقد حاول الريحاني خَلْق نوعٍ من الحوار والوئام بين أديان العالم في كتاباته وأشعاره ومحاضراته. وكان الريحاني يرى أن كل خلاف بسبب الدين إنما مرجعه للمؤسسات الدينية السياسية. فكان يرى أن العقائد متضاربة والحقائق واحدة في كل الأديان. فهي إلهية أزلية أما العقائد فزائلة لأنها زمنية. وهو ما أشار إليه في حديثه عن الحقيقة الكبرى. فالتّقرّب إلى الله بالعمل الصالح واستحضار وجود الله في سلوكنا الإنساني. التعصّب الديني هو أكثر العقبات التي تواجه عالمنا العربي وتعرقل تقدّمه وازدهاره. وقد أشار في “كتاب خالد” الذي نُشر عام 1911 باللغة الإنجليزية إلى هذا التآلف الإنساني. يقول الريحاني: “إن السير في الشوارع يذكر الإنسان بالإنسان وأمّا السّير في الوادي أو الغاب، فيذكّر السّائر بالخالق العظيم الأوّل يدعو إلى العمل، والثاني إلى التفكير والتأمّل. في الأوّل بعض اللذة التي يتبعها الإعياء والقنوط، وفي الثاني نوع من اللذة التي يتبعها النشاط والعزم وحسن المآل”.
وهكذا كانت دعوة الريحانيإلى الانفتاح والحوار بين الشرق والغرب، لخلق مجتمع متكامل قائم على أُسُس العدالة الإنسانية. يقول في “الريحانيات”: “حبّذا الشرقيّون والغربيّون لو أخذ بعضهم عن بعض مما هو جميل في أديانهم، صحيح في عاداتهم، سام في فنونهم، عادلٌ في أحكامهم وشرائعهم، سليمٌ في أخلاقهم. إن خلاصة الصحيح السليم من ثقافةِ الشرقِ والغربِ ممزوجة موحّدة إنما هي الدواء الوحيد لأمراض هذا الزمان الدينيّة والاجتماعية والسياسية فالغربيّ عندئذ يعود إلى الله، والشرقي يرفع عن الله بعض أثقاله.”وهكذا آمن الريحاني بفكرة التواصل والتفاعل بين الثقافات. فكان أدبه جسراً بين حضارة الشرق وحضارة الغرب. فدعا إلى التسامح واحترام الأديان، وعظّم من شأن الحرّية والكرامة الإنسانية. يقول في قصيدة “إلى الله” في ديوان “هتاف الأودية”:
عبثاً طلبتك في أديان الناس
عبثاً بحثت عنك في سرادب عقائد الناس
ولكني لقيت في كتب العالم المقدسة بعض آثار سماوية طامسة
فلقد توضح لي حرف ساكن من اسمك في “الفيد”
وحرف في “الزند آﭬستا”
وحرف في الإنجيل
وحرف في القرآن
أجل-وفي كتاب الجمعية العلمية الملكية
وسجلات جمعية المباحث النفسية
بعض الحركات التي لا يحسن الطفل البشري أن يحرك
بها الأحرف الساكنة من اسمك
وأنَّى لأمم الأرض وهي في طفولة الحياة أن تحسن النطق به
من يهدينا إلى تلك الهمزات
همزات الوصل الإلهية.
في قصيدة الريحاني دعوة إلى المحبّة والتساهل الديني،وحُلُم بمجتمع متكافئ قائم على أُسس العدالة الإنسانية. وضع لنفسه شعار “قُل كلمتكَ وامْشِ”. فحملت أشعاره هموم الإنسانية جمعاء. دافع عن الإنسان في كل بقاع الأرض. وانتقد كل أشكال التعصّب الديني والطائفي والمذهبي. كما انتقد الهويات الضيقة، وخطاب الاستشراق الاستعلائي. فدعا إلى الحوار الثقافي القائم على الاحترام المتبادل بين الشعوب والأمم، ووقف ضدّ الحرب وضدّ الهيمنة الاستعمارية الغربية. وانتقد تفرقة العرب وخضوعهم للسياسة الاستعمارية. وقد اعتبر الحرّية حقّاً من حقوق الإنسان. فحارب التخلّف بكل أشكاله والتعصّب والجهل، ونادى بالحرية والكرامة الإنسانية. ولعلّ هذه الفلسفة الإنسانية الرائدة لتطوير المجتمع العربي هي التي جعلت الريحاني من أكبر رواد النهضة العربية الحديثة. فمازالت أعماله ومؤلَّفاته بعد مائة سنة نموذجاً يُحتدى به، وفلسفة تحمل رؤية تنويرية بانية لمستقبل الإنسانية.