عفيف قاووق – لبنان
كعادتها في معظم كتاباتها ورواياتها تستمرّ الروائيّة الجزائريّة عائشة بنور بالحفرِ والتطرّق لمواضيع وقضايا مجتمعيّة تَمُسّ حياتنا اليوميّة، بحيث تُؤثّر ونتأثّر بها بشكلٍ أو بآخر. وهذا ما نلمسه في روايتها المُسمّاة سقوط فارس الأحلام، وبعد قراءةٍ هادئة لهذه الرواية، نكتشف كم من الأحلام التي سقطت، وبمعنى أصحّ أُسقِطتْ وكسرتها النُظُم والتقاليد الحاكمة والمتحكّمة بطقوس حياتنا بمختلف جوانبها.
هي رواية أضاءت على العديد من الإشكاليّات وسلّطت الضوء عليها لتُحفِّز القارىء والمجتمع للبحث عن حلولٍ تُخرِجهُ من شرنقةِ التقاليد الظالمة في أغلبها، كما تُحرّضه لينتفض في وجه منظومة الفساد والجور الذي يمارس عليه.
نلاحظ أنّ الكاتبة أفسحت بالمجال أمام الذكر والأنثى للبوح وتقديم كُلّ منهما لمعاناته وطرح قضاياه المقلقة، بالرغم من أن تلك القضايا والهموم في معظمها مشتركة ومتداخلة فيما بينها، فكانت البداية مع حكاية شعبان ابن الهلاليّ الباحث عن صحّة نسبه لأمه وهل هي أم الزهور أم عليسة التي اتُّهمت بشرفها وغادرت المنزل تاركةً الزوج يتخبّط في دائرة الشكّ، والإبن غارق في متاهة الرفض والتجاهل الذي يلقاه من أبيه، “فتحـوَّل الماضي عنده إلى أضرحة تعبث بأحلامه وتطارده في یقظته، و بجریمـةٍ لم یرتكبھا“25. وبالإشارة للقضايا والمواضيع المُثارة في هذه الرواية، يمكن لنا تصنيفها إلى شقيّن بالحدّ الأدنى: سياسيّ واجتماعيّ.
اولاً في الشقّ السياسيّ:
تطرّقت الكاتبة في مقاربتها إلى مسألتين بشكلٍ لافت هما الهجرة والفساد، فالفقر والبطالة هما من المُسبّبات الأولى للهجرة والبحث عن فرص عمل خارج حدود الوطن، وإن كانت هذه الهجرة محفوفة بالمخاطر حتى أصبحت القوارب التي تُقِلّ المهاجرين، تُعرَف بقوارب الموت “أركب قوارب الموت إلى الموت ھارباً من فقري المُدقِـع أو من متاھـة البطالة بعـدما أخذ التعلّم من عمري شبابَه ” 53 . كما أنّ الكاتبة تحدّثت عن هجرة الأدمغة والخبرات، وهذا ما أشار إليه شعبان الهلاليّ الذي لم يرغب في ترك الوطن إسوةً بأصدقائه: ” لم أخضع لتلك الإغراءات المادّیّة والحیاة الجمیلـة، كمـا فعل أصدقائي في الجامعـة، ھروباً من معیشتھم الضنكى، ومن الوعود والإنتظار الذي تجرّعـوه حدّ الثمالـة بعدما طـرقوا أبواب المؤسّسات العمومیّة التـي صدَّت أبوابھا في وجوھھم بحجّة قلّة الخبرة أو بالمحسوبیّة یتمّ التوظیـف، والكثیر من أصدقائي الباحثین في مجالات مختلفة، كالطبّ والكیمیاء والفیزیاء، قد غادروا بعدما یئسوا من البقاء في وطن لا یوفر لھم أدنى شروط البحث والحیـاة الكریمة، ھكذا تتبخـّر الأحلام في وطني، ویفـنى عمر الشباب في الإنتظـار..وفيما يُشبه النقد السياسيّ، تورد الكاتبة كيف أنّ الشعارات السياسيّة التي تُلهب المشاعر، ما هي سوى مطيَّة وستُنسى سريعاً بعد الوصول إلى الحكم “فالكلّ كان ینادي بالحریـة والاشتـراكیـّة، ولما وصل إلى السلطة أصبح یحارب الحرّیّة والإشتراكیّة والعدالة. الكلّ كان یطالب بالعدالة وبتوزیع الأراضي على الفقراء، ولمَّا وصل إلى السلطة صار یوزّعھا على أھله ومعارفه، ویشیِّد علیھا الفیلات والعمارات والمصانع” 70.
أيضاً تُثير الكاتبة مسألة التلاعب بصناديق الانتخابات ونتائجها، بحيث تأتي لمصلحة الحاكم، وهذه كانت من مهمّات الإنتهازيّ محمود الذي أستغلّ مكانته في الحزب العتيد الذي صَنع منه ومن أمثاله طبقةً من الإنتھازیّین والسماسرة والمُتَمَلّقین، اعتادت النفاق والخیانة والتآمر والحِیـَل والتزویـر في الانتخابات. كما أشارت الرواية إلى ظاهرة الإعتقالات أو الإغتيالات السياسيّة بدافع البقاء في السلطة وإستغلال النفوذ لتحقيق المآرب والمكاسب الخاصّة، ونتيجةً لهذا، قام محمود بتدبير مكيدة لشعبان الهلالي الذي هو واحد من أولئك الذين تعرّضوا للاضطھاد والتنكیل بھم نتیجة تمسُكھم بالحرّیّة، وقد عبّر محمود عن سبب سجنه لشعبان بالقول: “إكتشف مخطّطي مع مافیا التھریب، وخوفاً من أن یكشف ذلك على طاولة الإجتماعات دبّرت له مكیدةً تُبعده عنّي 198.” وإستكمالاً لعمليّة النقد السياسيّ هذه، كان لا بُدّ للرواية من أن تُقدّم للقارىء نموذجاً عن صورة الحاكم ونظرة الشعب المقهور له، وفي وصفه للحاكم يقول شعبان الهلالي: “أحتقره وأزدریه لأنه یأخذ بقتل الضعفاء ویُمیت أنفس البائسین مثلي ویصنع الندى في موضع السیف والسیف موضع الندى، فھـو حاكمٌ لا یُرجى شفاؤه من جنـون الـدّم، لقد غالوا في إطرائه حتى أٌعميُّ عن رؤیة عیوبه، 130. ولو عرف أو كان یعرف ما یحیط به من سلاسل وأغلال وتملّق من حاشیته، لانتحـر خیراً له من حیـاةٍ لا یرى فیھا نسمةً من نسمات الحرّیّــة.
كان لا بدّ للفساد السياسيّ المُستشري من أن يؤسّس لنشوء الفساد الإجتماعيّ أيضاً، وفقدان الضمير المهنيّ في معظم القطاعات، وللدلالة على ذلك تورد الرواية تردّي الحالة الصُحّيّة والاستشفائيّة، فإذا كان الأطباء كما هو مفترض رحمة للإنسانیّة وفي خدمتھا، فإن الفساد ترك الطبیب یتاجر بأجساد المرضى والأجِنّة في البطون، وأصبحت المستشفيات أشبه بالمشرحة التي خُصِّصت لبني البشـر. وأُسقِطت عنھا الإنسانیة التي یتشدقون بھا أمام كامیرات التلفزیون،210.
ثانياً، الشقّ الإجتماعيّ:
لقد تَجَلّت النزعة الذكوريّة في هذه الرواية بشكلٍ واضحٍ وجليّ، من خلال الحوار الذي جرى بين ريم وأخوها عندما سألته ”لماذا یقتصر الذبح على الشاة ولیس على الخروف؟ فأجابها ربّما لأنّه فحل.. قوّة وغلبة وإنجاب ؟. وأيضا تورد الكاتبة الهلع الذي ينتاب المرأة الحامل وخشيتها من أن تلد الأنثى، فنجدها تستسلم لنوبة الذعر التي تعیشھا تسعة أشھر في ترقّب دائم، وتتحوّل حیاتھا إلى صراع وهي تفكّر بالناس وبوصفهم لها بأم البنات.كما أن هاجس تزويج البنات يقضّ مضاجع الأسرة، ويؤرِق معظم العائلات، خاصّةً تلك التي تعجّ بيوتها بالبنات،”فكم من البیوت نتيجة لذلك غارقة في البؤس، وكم من الفتيات تنزف من الداخل ألماً وقد استثقل أھلھا ظلّھـا وسئموا منھا، وھم في تَرَقّبٍ دائمٍ وانتظارٍ مُقلِقٍ لقارع الباب كي یأتیھم ببشـرى الخلاص منھا، 116″. وغالبا ما كان الأهل يرَون أنّ الحبّ یأتي بعد الزواج.. المھم أن تتزوج الفتـاة وتصون شرفھا، وتنجب الأولاد ، وتلك ھي السعادة ونجاح الأسرة. وهذا ما كانت والدة لمياء تحاول إقناعها به. لقد سيطر هاجس تزويج البنات على الأسرة خشية الوقوع تحت نَير العنوسة، “وأخیراً جاءك العریس یا كریمة.. العریس الذي طال انتظاره یا ابنتي” عبارةٌ تكاد تختصر ما تعيشه الفتاة في سجن العنوسة وهي تنتظر فارس الأحلام المنتظر، الذ ي غالباً ما يكون دون طموحاتها ولا يشبه الصورة التي رسمتها له في خيالها، تقول كريمة في وصفها لمن تقدّم لخطبتها “لقـد كان في عمر أبي أو أكثر.. كان یشبه الموتـى فـي لحظات الوداع.. كان وكان ..فتحوَّل جسدي المرتعش إلى صنم، و قلبي إلى صقیع، وأحلامي إلى رمال تنثرھا ریاح الانتظار والفارس إلى جواد ھزیل..162
وتوغلت الكاتبة في نقدها للتقاليد والموروثات بإثارثها إشكالية جدليّة مزمنة، وهي مسألة النقاب وإرتباطه بالتقاليد ونظريّة العيّب والحلال والحرام. “لقد شُرّد أبناء وتشتّت شمل عائلات باسم العادات والتقالیـد التي ظاھرھا خیرٌ وباطنھا مكروه 166″ تقول كريمة” لقد ارتبط الزواج في قریتي بلبس الحجاب كي أتزوج ولا یفوتني القطار وأنعت بالعانس”، كما أن الكاتبة تظهر لنا كيف ان نساء روايتها سجينات لأفكار متوارثة، وحـالات من النفـاق الاجتماعيّ. وفي هذا تقول حوريّة: “تخلّت المرأة عن أنوثتھا، وأصبحت مجـرّد مومیاء تتلاعب بھا أناملُ مشوَّھةٌ، وعقولٌ فارغة، ونفـوسٌ مریضة181”.
كما أنّ الرواية، وبشكلٍ موضوعيٍّ ومحايد، تنقل لنا وجهات النظر المختلفة للنساء فيما يخصّ موضوع الزواج، فمثلاً فاطمة تُحبُّ الأطفال وترغـبُ فـي الزواج، لأنّ الأمومة تھزمـها، وقضیّـة المسـاواة والرَّجل والحریـّة لا تعنیـها، أما صديقتها الزھراء فتعلن “المساواة والرجل والحرّیّة تعنیني. وھذه قضایا لن أتنازل عنھا في مجتمع ذكوريّ لا یرحم المرأة”، لتعلّق حوریّة قائلة:” الزواج بالنسبة لي شيء نسبيّ في وقت لم یعُد أمراً ضروریّاً كما كان في السابق، ولم یبقَ من العمر الكثیر للبكاء على رجل.. فتكفي سیـّارة فاخـرة وسكـن مریـح وعمل لتأمین المستقبل، أي استقـلال ماديّ 170.
نقطة لافتة جذبتني في الرواية وأجدها تستحقّ النقاش – ربما لاحقاً – وهي ما أسمته الكاتبة “عقدة مصمّمي الأزياء” ، فتناولتها بنوعٍ من التحليل النفسيّ، حيث تسأل ما الذي يدفع بمصمّم الأزياء لكي یفصِّل فساتین مقطّعة تارةً، وعاریةً تارةً أخرى.. مكشوفةً من الصدر حیناً أو من الظھر حیناً آخر.. أن یصمِّم أحذیة بكعبٍ عالٍ، ویمشّط الشعر بفكرة الجنون”،. هل هو البحث عن مركب النقـص الذي یعاني منه، أم ھـي العقدة التي تسكنهُ؟.وعلى حساب هذه العقدة تخلّت المرأة عن أنوثتھا، وأصبحت مجـرّد مومیاء تتشكّل كلّ مرَّة في فكرة مجنون إثبات الـذات”
ختاماً أقتبس ما كتبه الأستاذ الناقـد خالد عارف حاج عثمان في تقديمه لهذه الرواية “ھل یمكن للأحلام أن تعیش؟ تنمو، أو تتحقّق في مجتمعنا العربيّ الشرقيّ، ھل لأحلامنا أرضیّة خصبة یمكن أن تلــد في مجتمع مازال یرزّح تحت سیطرة الأحزاب أو التجمّعات السیاسیّة، أو رجعیّة المجتمعات وتخلّفھا، وسیطرة التقالید وموروثھا”..ويبقى السؤال برسم القُرّاء.