عفيف قاووق – لبنان
اعترافات امرأة رواية الكاتبة الجزائرية عائشة بنور، صدرت مؤخراً في طبعتها الرابعة عن منشورات دار ريادة بالمملكة العربية السعودية، وقد نالت الرواية جائزة الاستحقاق الأدبي (2007) عن جائزة نعمان الأدبية بلبنان كما انها ترجمت إلى اللغة الفرنسية من طرف الأديب محمد سحابة.
رواية تغوص في النفس البشريّة لتُعريها وتكشف تناقضاتها وزيف ألوانها وتفضح الصراع الداخلي الذي يعيشه الفرد في خضم هذه الحياة ذات الألوان المختلفة والمتنافرة، وبالتالي علينا الحذرلنتمكن من مزج هذه الألوان لنصل إلى لون الحياة الذي نريده ويريحنا، فالحياة غالباَ ما تُعطينا لوناً غير الذي ننشده، إلا إذا عرفنا كيف نجمع بين لونيها الأبيض والأسود، بين الضوابط والمُسلمات وبين الأحلام والطموحات والرغبة في الإنعتاق والانفلات من بين القضبان.
رواية امتازت بدفق من التعابير الجمالية والصور الشعرية وطغى عليها البعد النفسيّ والسيكولوجي في مقاربتها للصراع الداخلي الذي يعيشه الفرد سواء كان رجلاً أم امرأة. من خلال هذا البوح الذي نلمسه ونحن نتصفح فصولها التي كُتبت بأسلوب شيق مازج بين السردية والشعريّة، بحيث مكّن الكاتبة من التطرق للكثير من القضايا الشائكة والخلافية في مجتمعاتنا خاصة تلك التي تطال المرأة والنظرة إليها وكيفية التعامل معها. وهي تدعونا للبوح والتصالح مع أنفسنا والإعتراف بحقيقة ما نعيشه على أمل أن نكسر القيود التي تكبلنا ولا نرضخ ونستسلم للمسلمات فقط لكونها كذلك.
وإن كانت الرواية تحمل عنوان “اعترافات امرأة” وما تعنيه من بوح أنثوي، إلا أنها أيضا تضمنت فيما تضمنت بوحاً من نوع آخر أو اعترافات أخرى –إذا جاز التعبير- وأعني به ذاك البوح الذي جاء على لسان الرجل في بعض الفصول.
هي رواية تختلف عما عهدناه في أغلب الروايات، حيث أنها امتازت بندرة الشخوص إن لم نقل غيابهم فجاءت فصولها عبارة عن سرديات يقوم بها السارد العليم في بعض الأحيان نيابة عن المرأة أوالرجل وحيناً آخر نشهد ما يُشبه المُناجاة أو المونولوج لكلٍ منهما،وهذا الأسلوب المعتمد من قبل الكاتبة بقدرما قد يبدو للقارىء مُتعباُ بقدرما هو ممتع ومستفز له ويجعله متحفزا ومشدودا للصفحات ليبقي على إمساكه بخيوط الرواية.
من خلال الإهداء الذي صدّرت به الكاتبة روايتها نستطيع أن نستشرف المغزى من كتابتها لها، جاء في الإهداء:” إلى كل امرأة تأبى أن تكون غير امرأة. وإلى كل رجل يرى في المرأة إنساناً“.. هذا الإهداء ينُم عن إيمان الكاتبة بدور المرأة وأهميته ودعوتها لها أن تُحقق ذاتها وتُدافع عن حقها في كونها كائن إجتماعي مُكتمل المواصفات مُستقل بذاته وغير مُلحق بأحد، كما أنها تطالب الرجل بضرورة احترام المرأة وكينونتها وبأن ينظر إليها كإمرأة شريكة في الحياة بكل ما لكلمة الشراكة من معنى.
كما ذكرنا في مقدمة هذا العرض أن هذه الرواية لحظت بين طياتها إلى جانب البوح الأنثوي بوحا ذكوريا قدمه لنا “رامي فتحي” حينا على شكل منولوج وحينا آخر على لسان السارد، وقد بدأ هذا البوح الذكوري مع الفصل الأول الذي حمل عنوان “وجع طفولي” وفيه إشارة للحياة المضطربة التي عاشها ذاك الطفل الصغير المشاكس والذي أجبرهُ شهر رمضان على الإنصياع والتحرّر من قيود نزواته، هوالذي اعتاد على التمرد، والأنانية حيث يفرح لإمتلاك الأشياء ويحزن لضياعها، لذا نجده يحاول أن يستوعب لغة الموت التي استطاعت أن تأخذ منه تلك العجوز التي كان يلعب فوق ظهرها المحدودب. وينتقل بعد مرحلة الطفولة إلى بداياته في مرحلة المراهقة حيت تولدت لديه الرغبة في السؤال والتمرد أشعرته بأنه ثائر ضد كل شيء، بحيث لا يريد أن يكون كما أراده والده، ولا يريد أن يحقق له الحلم الذي فشل هو فيه بسبب سوء تقديره للأمور. لينتقل بعدها لمرحلة الشباب ويعيش حياته بتناقضاتها كلها، مشيراً إلى ربطات العنق الملونة “التي أوهمته بكبرياء مصطنع احترف التظاهر به أمام أصدقائه وأمام (رجاء) واصفا بداياته كأنها كؤوس ملونة تشبه كؤوس الخمرة.
إن عدم التأقلم مع الواقع إلى جانب الضغوط النفسيّة جعلاه ينظر إلى الحياة بلا مبالاة غارقا في زجاجاته وكؤوس تهوره. ليحيا حياة مشوشة غير مستقرة سببت له نوع من القلق والكثير من العصبية وعدم الإحساس بالراحة فرعشة اليدين وبرودة الأطراف أدت به إلى حالات من الكآبة وحالات من الإبتهاج لا يجد لها تفسيراً. يقول “كنت أتسلى بالفتيات في شوارع المدينة، أمتهن جمالهن كما تمتهن الحرية والإنسانية اليوم”.
من جملة القضايا التي أثارتها الرواية حالة العقم عند الرجال، وهل أن حرمان الرجل من الأبوة يعني انتقاصا من رجولته وقدره؟ وفي هذا يقول رامي فتحي العاجز عن الإنجاب أشعر “أنني رجل بلا رجل” ويسأل نفسه ” هل ترضى –أي حبيبته- وتبقى مع رجل عاجز عن الإنجاب وتحرم نفسها من الأمومة”؟ وبالمقابل يأتي السؤال هل أن المرأة العاقر التي لا تنجب تدفع بالرجل للزواج بأخرى؟. لقد عبر رامي فتحي عن نظرته لمؤسسة الزواج بالقول:” مؤسسة الزواج أصبحت فارغة من الحب،من المودة والرحمة، أصبحت مجرد أجساد تلتقي لحظة المغيب”.
المرأة في هذه الرواية كان لها الحيز الأكبر من الاعترافات، فهي التي تعيش بحذر حال من العشق والحب عندما شعرت أن نشوة عجيبة لازمتها ولدت في نفسها أشواق غامضة . فشعرت وكأنها بهذا الحب المستتر تتحدى “الخوف من مجتمع يرفض الحب ويحاربه بالقتل أو النفي أو الإنتحار”(33). وعن القيود والموانع التي تواجه الأنثى وعشقها تقول:”ظلت أوتاد البداوة محفورة في أعماقي تستحي الإقتراب من مملكة الحب وتختلس الحب إختلاساً، وكنت أرى الحب يسرق من ثقوب الأبواب نهاراً ويدخل البيوت خلسة في الليل لأنه كان مقهورا ومحظوراً”(34).
وتستمر امرأة الرواية في الحديث عن الحب، ذاك الحب المُقَنّع والذي هو بمثابة الوحش يفترس ضحاياه ليلاً ويصلبها نهاراً رافضاَ الإعتراف بضحيته أو بولادة طفل غير شرعي تحت جنح الظلام.
” اعترافات اللذة والنار” هو فصل من فصول الرواية أطلقت فيه رجاء العنان لنفسها للبوح بكل مكنوناتها فتقول:”أعترف بحيائي الذي كبلني لأذوب في بقايا أحلامك، كنت أبحث فيك عن نفسي الضائعة في أنفاسك، كنت أريد أن أقول لك أنني امرأة ترفض الحواجز والتناقضات والرغبات المكبوتة”، وفي ذروة هذا الإعتراف تعترف رجاء بحقيقة الصراع الداخلي والتناقضات التي تتقاذفها فتقول:”إكتشفت أنني جسد لإمرأتين تتحديان الإعتراف كل على طريقتها،إعتراف الشهوة وإعتراف الكبت، إعتراف الحرمان وإعتراف الأنوثة”(46).
ولكي لا يلتبس على القارىء حقيقة رجاء ورغبتها في الإنعتاق من قيود تكبلها، فإن الرواية أظهرت أن هذا التمرد والرغبة في الإنطلاق عندها دونه ضوابط ومعايير لا يمكن أن تحيد عنها وهذا ما أفصحت عنه عندما قالت: “أعترف أنني أمقت تلك المرأة التي تسكنني مجبرة، تختار الجسد واللون بشهوة المومياء المحنطة،امرأة يبهرها البريق واللمعان والإثارة،إنها امرأة لا تشبهني لا تشبه شعري الكحلي أو عينيَّي السوداوين أوسُمرتي، إنها امرأة تعزز ثقافة الجسد كأنها تقول لي “أحتج بجسدي العاري عن قمع مسكوت عنه، جسد يكسر الوصايا ويحطم أوتاد البادية”.
هذا البوح الأنثوي الذي جاءت به رجاء لم يقف عند هذا الحد بل امتد ليصل إلى ما يشبه المحاكمة لوضع صورة المرأة المقهورة التي بداخلها والأكثر شيوعاً في مجتمعاتنا، وصفتها بامرأة الأربعة جدران،امرأة أمامها عجوز سليطة اللسان وخلفها زوج مغلوب على أمره أدمن الترحال بين القضبان الحديدية، وبين أذرعها أفواه أرانب تمزق أثدائها”(50).
صورة الأم والنظرة إليها كانت حاضرة في الرواية على لسان كل من رجاء ورامي حيث باح كل منهما عما يراه في صورة أمه، تقول رجاء في مقاربتها لصورة أمها التي ترفض أن تكون على شاكلتها:” أمي لا تتعب،لا تعرف راحة لجسدها تموت ألف مرة في الشهر ولا تزور الطبيب،لا أريد أن أكون شبيهة أمي التي لا ترفض الأشياء المُسلّمِ بها”. وترى أن أمها نسيت جنون أنوثتها ولم تكن لديها مرآة لأن أمها جميلة بدون الوان أو مرآة. ومن جهته نجد رامي فتحي في رثاءه لأمه يقول :” كانت تدخلني قلبها قبل بيتها، كنت أحبها وحدي والموت وحده اغتصبها مني وألبسني حزني ومنحني الكثير من الدمع لأذرفهُ”. مستذكرا كيف كانت تدخل بيته وتحمل في يديها الخبز الذي كان شهيته الأولى ويحن إليه كما يحن محمود درويش في قصيدته “أحن إلى أمي وقهوة أمي ولمسة أمي….”.
وكما بدأت الرواية بوجع طفولي على لسان الطفل رامي فتحي تنتقل الكاتبة مع إقتراب الرواية من نهايتها إلى استذكار المرأة لمراحل طفولتها التي عاشتها، ذكريات كانت تعكر مزاجها أحياناَ وتشعرها بالدفء والحنين أحياناً أخرى، تتذكر صناعة الدمى مع صغيرات الحيّ وخياطة الملابس لها، وتتذكر كيف تملأ الجوارب بقطع القماش لتصنع منها كرة، لقد كانت سعادتها في الحرمان الذي يدفعها للإبداع والابتكار من العدم أشياء مفرحة.
وتختم المرأة هذه الإعترافات لتقول لنا ماذا تريد أن تكون وكيف ستمارس حريتها: “كنت أريد أن أشبه زنوبيا،أن آخذ جمال نفرتيتي وقوة فاطمة أنسومر وحكمة الملكة تينهينان” أريد أن أكون هكذا وليس مومساً تترنح على صدر الرجال”. وعن الحرية أو التحرر تقول أريد من حريتي أن تعيدني إلى قيود ذاتي،لأني امرأة يكثر وجعها مرة بإسم الدين ومرة باسم الحرية، ومرة باسم التقاليد، ومرة باسم الأنوثة ومرة باسم الأمومة،ومرة باسم العنوسة ومرة باسم الذكورة، ومرة..ومرة…(64)
اشارات سياسية حملتها الرواية في أكثر من موضع، ففي الفصل الثاني وهو بعنوان “الرؤيا”، نلحظ توصيفا دقيقا واسقاطا” يتمناه الجميع لمصير الحاكم الظالم، ” يهرع الملوك نحو الأديم وقد نزعوا تيجانهم بعد أن عاثوا في الأرض فساداً، رأيتهم يسرقون الدمع من العيون والفرح من القلوب واللقمة من الأفواه الجائعة، اليوم تلحق بهم اللعنة، لعنة السماء”. وفي موضع آخر وفي بحثها عن الأمن والطمأنينة تُحَدِث امرأة الرواية نفسها وتصف ما آل إليه الوضع الإجتماعي والسياسي في البلاد والهتافات ضد الظلم والفساد لتسرح بخيالها إلى مجتمع تكاملي تسوده روح العدل ولكنها تشعر بالعجز أو إستحالة مواجهة مافيات الفساد، المال، المخدرات ومافيا المتاجرة بالعقول،ومافيا المتاجرة بالجسد. وهنا تعود بنا الكاتبة على لسان رامي فتحي الذي رمى بنفسه على سرير الأحلام لتصحبه امرأة من نساء الثورة الجزائرية التي قاتلت الفرنسي لتحيا الجزائر رآها امرأة بصورة جميلة بوحيريد وحسيبة بن بوعلي لينهض من نومه على هتاف يملأ أذنيه “تحيا الجزائر”.
أيضا أثارت الرواية ما يشبه النقد السياسي لبعض النظريات وخاصة النظرية الشيوعية،يقول رامي فتحي عن صديقه مرزوق الذي يلقبه بستالين:”كانت تجري في عروقه أفكار ماركس ولينين التي ترمي للسيطرة على المجتمع وحكم الشعوب بالحديد والنار،وانا لا أؤمن بما يقولونه فلقد كانت كلها تجارب فاشلة ممزوجة بالوهم أو برائحة السجن العفن.وانا كنت كلما دخلت المكتب أقف أمام صورته (الزعيم) أبوهم الذي علمهم السحر وأتخيله يسخر منّا لأنه استطاع أن يجعلنا دمى لتصوراته وأوهامه (74).
لا بد من التوقف أمام جمالية الوصف للأمكنة والصحراء، لقد استفاض رامي فتحي في وصف جو الغرفة التي يسكنها: “سينفجر غضب السماء في الخارج وجو الغرفة المشحون بالرطوبة يخنقني” وعندما نظر إلى الخارج واصفا الطوفان رأى أن أزقة الشارع فارغة،والمدينة تغرق في الأحوال، ورجل شبه عارٍ متعلق بحبل مشدود إلى جذع شجرة مكسورة،.. وفي وصفه للصحراء يقول رامي فتحي:” صورة الصحراء تزداد جمالاً وسحراً، جمال يصنعه الطوارق برقصاتهم، وفرحة أخرى يصنعها سباق الجمال، كانت الصحراء قطعة جمالية بكل ما للكلمة من معنى.
ختاماً لقد تمكنت الكاتبة عائشة بنور بما تملكه من حرفية عالية في تقديم روايتها هذه التي أضاءت على الصراع المتواصل داخل النفس البشرية وقدمته لنا في قالب روائي مسبوك وهذا ما يميز كافة كتاباتها وانتاجها الأدبي والروائي.