عندما بدأنا بنشر نصوص من “نثر و شعر”، أو ما أسمّيه “النثر الفنّيّ الجديد”، ويُدعى اصطلاحاً قصيدة النثر أو الشعر المنثور، وعند المبالغين “الشعر وحيداً”… وضعتُ بعض الأسئلة أو الإشكاليّات التي كان من المفترض أن أناقشها بهدوء، لهدف علميّ ونقديّ، لا علاقة له بالموقف الشخصيّ. وإذا كان هناك من يمتعض من تسميتي لهذا النوع، فهو كمَن يمتعض من قولي إنّ الزجل وحده لا يصنع أدباً أو نهضة فكريّة. وفي الحالين ليس النقد شخصيّاً، إنّما هو نظرة علميّة تقوم على البراهين والأمثلة. والمناقشة مفتوحة في العلم، إذا لا شيء نهائيّ.
وأهمّ ما توصّلت إليه المطالعات الستّ الماضية:
1- إنّ قصيدة النثر تخالف مبدأ الموسيقى التفعيليّة التي نظم عليها العرب شعرهم في ثلاثة آلاف سنة، والخروج على موسيقى الشعر كالخروج على النوتة والنغمة المفهومة في علم الموسيقى. وإذا كان هناك من يتباهى في قصيدة النثر بالموسيقى الداخليّة، فهذا من باب ذرّ الرماد في العيون، لأنّ الموسيقى الداخليّة موجودة في أيّ شعر آخر، إلى جانب الموسيقى الخارجيّة التي يفرضها الوزن.
2- قصيدة النثر ليست وحدها الحداثة، فقد جاءت من الغرب، كسواها من التحديثات، كشعر التفعيلة، والشعر المرسل… وجاء دخول هذه الأنواع إلى الشعر العربيّ في النصف الأوّل من القرن الماضي. وقد أعطينا أمثلة عن هذه الأنواع في الغرب، ومَن هم مبتكروها، فلا فضل عند الروّاد العرب في الريادة، إلاّ لأنّهم قلّدوها ونقلوها إلى أوطانهم. ودخول أيّ نوع حديث من الشعر إلى بلادنا العربيّة كان شبيهاً بدخول المدارس، كالرومنطيقيّة والرمزيّة، والسورياليّة.
3- إنّ كتابة قصيدة النثر بطريقة الشعر، أي بضع كلمات على كلّ سطر، لا تقدّم لها جواز سفر إلى الشعريّة. فلو كتبناها بطريقة النثر، أي كما تُكتب القصّة القصيرة، لكانت نثراً جماليّاً عاديّاً، لا أكثر.
4- لم تتمكّن قصيدة النثر من وضع معايير نقديّة، للتمييز بين مبدع وغير مبدع، فاختلط الحابل بالنابل، وأصبح أغلب الناس شعراء، وهجر الرجال مصانعم، والنساء أعمالهنّ، لينتقلوا إلى مهنة صناعة الكتب. وأصبحت موريتانيا وحدها بلد المليون شاعر.
5- فشلت قصيدة النثر في إزاحة القصيدة التقليديّة، لكنّ الفرق أنّ شعراء القصيدة القديمة قلائل، قياساً بجحافل شعراء قصيدة النثر. وهذا يدلّ على صعوبة القصيدة القديمة، ووجود معايير نقديّة صارمة لها، أمّا الشعر المنثور فهو ساحة مفتوحة.
6- تعرّضت قصيدة النثر لانتقادات شديدة من المتمسّكين بأهداب التراث، كما تعرّض الشعر التقليديّ لحملة شعواء من شعراء النثر. ومن ضمن ما يُعاب على قصيدة النثر إغراقها في الكلام غير المفهوم، واستخدامها الجمل غير المترابطة، وعدم فهم أصحابها للأوزان، فقد تبيّن أنّ 99 في المئة من كاتبي هذه القصيدة لا يعرفون النظم على العروض.
7- ينضوي شعراء النثر في مجموعة متماسكة، ويكتبون بعضهم عن البعض الآخر، بتمجيد مبالغ فيه. وقلّما تعجبهم قصيدة من نوع مختلف، فكأنّ الإبداع محصور فيهم… وفي نظر الكثيرين منهم ليس للمتنبّي، وأبي شبكة، ونزار قباني حسّ إبداعيّ!
8- يقدّم بعض شعراء النثر، ومنهم مبتدئون، نصائح وإرشادات وتعليمات لا يمكن وصفها إلاّ بالفوقيّة، وكان أجدى للساحة الأدبيّة أن يتركوا للآخرين حرّيّة الاختيار، من غير ادّعاء بالأستاذيّة، وخصوصاً من قبل الذين لا يعرفون العروض.
9- لا عيب أن يقول المبدع عن نفسه إنّه ناثر، فبدلاً من أن يتشبّه بامرئ القيس وطرفة ونزار، فليتشبّه بغوته وجبران والريحاني وطه حسين. لا عاهة في النثر، والاندفاع إلى لقب شاعر غير منطقيّ ولا مبرّر له.
***
*د. جميل الدويهي: مشروع أفكار اغترابيّة للأدب الراقي النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع