يعتقد على نطاق واسع أن أول شاعر في الغَرب اعتمد على شعر التفعيلة (الشعر الحرّ) كان الأميركيّ والت ويتمان، الذي يعتبر أبا الشعر الحرّ، وتتألّف مجموعته “أوراق العشب” Leaves of Grass (1850) من حوالي 400 قصيدة، اخترنا منها مقطعين من قصيدة بعنوان I sing the body electric
I sing the body electric
The armies of those I love engirth me and I engirth them
They will not let me off till I go with them, respond to them
And discorrupt them, and charge them full with the charge of the soul
Was it doubted that those who corrupt their own bodies conceal themselves
And if those who defile the living are as bad as they who defile the dead
And if the body does not do fully as much as the soul
And if the body were not the soul, what is the soul
يلاحظ في هذين المقطعين أنّ الأبيات غير متساوية في الطول، واستخدام لفظة them مرّتين، و soul ثلاث مرات. كما يلاحظ عدم تناسق القوافي وترتيبها. ففي هذا النوع من الشعر لا يتبع الشاعر القواعد التقليديّة: وزن واحد وقافية واحدة وإيقاع واحد.
وجاء بعد ويتمان شعراء آخرون كعزرا باوند، وتوماس إليوت، فنهجوا النهج ذاته.
إذن في أواسط القرن التاسع عشر ظهر الشعر الحرّ عند ويتمان، لكنّ مؤرخين يعتقدون أنّه بدأ قبل ذلك عند الشاعر الإنكليزيّ جون ميلتون في القرن السابع عشر. وقد وجدنا عن شكسبير (توفّى 1616) بعض الشعر الحرّ، كما في قصيدته Aubade:
HARK! hark! the lark at heaven’s gate sings
And Phoebus ‘gins arise
His steeds to water at those springs
On chaliced flowers that lies
And winking Mary-buds begin
To open their golden eyes
With everything that pretty bin
My lady sweet, arise
Arise, arise
واضح هنا احترام شكسبير للقوافي، وعدم التزامه بعدد التفعيلات في الأسطر. وكان شكسبير يسمّي هذا الشعر “الشعر المنطلق”، وهي التسمية التي استخدمها فيما بعد الشاعر العراقيّ بدر شاكر السياب.
وبدأ الشعر الحرّ يتسلّل إلى عالمنا العربيّ في النصف الأوّل من القرن العشرين، فكانت هناك مغامرة خطيرة في التخلّي، ولأوّل مرّة، عن البحر العروضيّ المؤلّف من ثلاث تفعيلات في الصدر وثلاث في العجز ، أو أربع تفعيلات في كلّ منهما، أو أقلّ من ذلك في الأبيات المجزوءة.
ويعتقد العديد من النقّاد والدارسين أنّ الشاعرة العراقيّة نازك الملائكة هي رائدة هذا الاتّجاه، في قصيدتها “الكوليرا” في أواخر الأربعينات من القرن الماضي (1946 أو 1947)، التي استخدمت فيها تفعيلة الخبب (فعلن) ووزّعتها بأعداد متفاوتة على السطور:
سكَن الليلُ
أصغِ إلى وَقْع صَدَى الأنَّاتْ
في عُمْق الظلمةِ، تحتَ الصمتِ، على الأمواتْ
صَرخَاتٌ تعلو، تضطربُ
حزنٌ يتدفقُ، يلتهبُ
يتعثَّر فيه صَدى الآهاتْ
في كل فؤادٍ غليانُ
في الكوخِ الساكنِ أحزانُ
في كل مكانٍ روحٌ تصرخُ في الظُلُماتْ
في كلِّ مكانٍ يبكي صوتْ
هذا ما قد مَزّقَهُ الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
يا حُزْنَ النيلِ الصارخِ مما فعلَ الموتْ
طَلَع الفجرُ
أصغِ إلى وَقْع خُطَى الماشينْ
في صمتِ الفجْر، أصِخْ، أنظُرْ ركبَ الباكين
عشرةُ أمواتٍ، عشرونا
لا تُحْصِ أصِخْ للباكينا
اسمعْ صوتَ الطِّفْل المسكين
مَوْتَى، مَوْتَى، ضاعَ العددُ
مَوْتَى، موتَى، لم يَبْقَ غَدُ
في كلِّ مكانٍ جَسَدٌ يندُبُه محزونْ
لا لحظَةَ إخلادٍ لا صَمْتْ
هذا ما فعلتْ كفُّ الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
تشكو البشريّةُ تشكو ما يرتكبُ الموتْ… إلخ…
ويعتقد نقّاد آخرون أنّ بدر شاكر السياب رائد هذا النوع في قصيدته “هل كان حبّاً؟” (1946) التي يقول فيها:
العيون الحور ، لو أصبحنَ ظلاً في شرابي
جفّتِ الأقداحُ في أيدي صحابي
دون أن يَحْضَينَ حتى بالحبابِ
هيئي ، يا كأسُ ، من حافاتك السكرى ، مكانا
تتلاقى فيه ، يوماً ، شفتانا
في خفوقٍ والتهابِ
وابتعادٍ شاعَ في آفاقهِ ظلُّ اقترابِ…
وفي اعتقادنا أنّ شعراء آخرين اعتمدوا الشعر الحرّ قبل الملائكة والسيّاب، منهم الشاعر المصريّ – اليمنيّ علي أحمد باكثير الذي ترجم عام 1937 مسرحيّة شيكسبير “روميو وجولييت”، ونظم ترجمته على الشعر الحرّ.
وظهرت في مصر تجارب أحمد زكي أبو شادي، وعبدالرحمن الشرقاوي، قبل الملائكة والسيّاب. ولكنّ محاولات الشعراء المصريّين آنذاك لم تكن تأسيسيّة للمذهب الجديد. ونازك الملائكة نفسها تشير في مقدّمتها للطبعة السادسة من كتابها “قضايا الشعر المعاصر” إلى أنّها أخطأت عندما أعطت نفسها “براءة اختراع” للشعر الحرّ. فهي تقول: “عام ١٩٦٢ صدر كتابي هذا، وفيه حكمتُ أنّ الشعر الحر ّقد طلع من العراق ومنه زحف إلى أقطار الوطن العربيّ. ولم أكن يوم قرّرت هذا الحكم أدري أنّ هناك شعراً حرّاً قد نُظم في العالم العربي قبل ١٩٤٧، سنة نظمي لقصيدة “الكوليرا”. ثمّ فوجئت بعد ذلك بأنّ هناك قصائد حرّة معدودة قد ظهرت في المجلاّت الأدبية والكتب منذ ١٩٣٢، وهو أمر عرفته من كتابات الباحثين المعلّقين، لأنّي لم أقرأ بعد تلك القصائد في مصادرها. وإذا أسماء غير قليلة ترد في هذا المجال، منها اسم علي أحمد باكثير، ومحمّد فريد أبي حديد، ومحمود حسن اسماعيل، وعرار شاعر الأردن، ولويس عوض وسواهم. ثمّ عثرت أنا نفسي على قصيدة حرّة منشورة قبل قصيدتي وقصيدة بدر شاكر السيّاب للشاعر السوريّ بديع حقّي”.
ولسنا نعلم شيئاً عن القصيدة التي ذكرتها الملائكة لبديع حقّي من هذا النوع، وهو نشر ديواناً واحداً بعنوان “سحر” في عام 1953، نقتطف من إحدى قصائده بعنوان “حنين” :
تراني أعود؟
على رعشة من جناح شَرود
لأمسح في طيبك الحلو طيب الوعود
وأبكي ويبكي الوساد معي
وأزجر في حسرة أدمعي
وأنسى الوجود… إلخ…
وتعتبر الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي أنّ الشاعر اللبناني غنطوس الرامي، وله ديوان واحد بعنوان “سمر”، هو أول من كتب قصيدة على أسلوب التفعيلة في الشعر العربيّ الحديث. وغنطوس الرامي (1910- 1994) كان كبير المذيعين في لبنان، وأصدر ديوانه في عام 1943.
أمّا الباحث العراقي الدكتور أحمد مطلوب فإنّه يورد في كتابه “النقد الأدبيّ الحديث في العراق” قصيدة من الشعر الحرّ عنوانها “بعد موتي” نشرتها جريدة “العراق” في بغداد سنة ١٩٢١، وفي ذلك الزمن المبكر من تاريخ الشعر الحرّ، لم يجرؤ شاعرها على الإعلان عن اسمه، فوقّعها بـ (ب.ن)، ومات ذلك الشاعر مجهولاً. واقتبس الباحث مطلوب من تلك القصيدة:
أتركوه لجناحيه حفيف مطرب
لغرامي
وهو دائي ودوائي
وهو إكسير شفائي
وله قلب يجافي الصبّ غنجاً لا لكي
يملأ الاحساس آلاماً وكيّ
فاتركوه، إنّ عيشي لشبابي معطب
وحياتي…
يذكر أنّ نوعاً رديفاً من الشعر ظهر بعد الشعر الحرّ التفعيليّ، هو الشعر المرسَل الذي اعتمد على القوافي من غير التزام بالتفعيلة. وهو نوع سقط تقريباً بمرور الوقت، ولم يبق منه سوى محاولات قليلة لا ترقى إلى مستوى الشعر. وكثيرًا ما يُنصح الشعراء بتجنّب هذا النوع لأنّه يشبه السجع، وهو غير مستحبّ عند العرب. كما ظهر الشعر المدوّر، وهو شعر تفعيليّ، يجري على السطر، كما تجري القصّة، ومنه لخليل الخوري (قصيدة الشمس والنمل):
الشمس عاليةٌ، صليب الشمس مرتفعٌ، عذاب الشمس حمّى، أخطبوط الشمس ذو المليون رمحٍ لا يكفّ عن العراك… إلخ…
وهذا النوع لا يُفرض فيه استخدام القوافي، بل الوزن فقط (قصيدة خليل الخوري تجري على متفاعلن).
***
*جميل الدويهي: مشروع أفكار اغترابيّة للأدب الراقي النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع