ودع لبنان وقطاعات الصحافة والأدب والشعر فيه رائداً ترك تراثاً للأجيال المتطلعة الى الافادة من روائح لغة الضاد الا وهو انسي الحاج، وذلك في مأتم رسمي حاشد في كنيسة مار يوسف – الحكمة في الأشرفية. ترأس الصلاة راعي أبرشية بيروت المارونية ورئيس أساقفتها المطران بولس مطر، يحيط به لفيف من الكهنة، بحضور وزير الثقافة روني عريجي ممثلاً رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة تمام سلام، وزراء ونواب حاليين وسابقين ونقيبي الصحافة والمحررين محمد البعلبكي وإلياس عون وشخصيات إعلامية وأدبية وفكرية وثقافية. وقد قلد رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان الفقيد وساما رئاسيا وضعه على نعشه في يوم وداعه الوزير عريجي.
وبعد الإنجيل المقدس ألقى المطرن مطر عظة عن الفقيد ومزاياه الفكرية والثقافية والصحافية التي أرسى ركائزها في الحكمة مدرسته، وقال: “يُوَدِّعُنا الشَّاعر والأديب العزيز أُنسي الحاج مُنطلقًا لِلمرة الثَّانية والأخيرة من الحكمة الَّتي فيها تَربَّى، ولكنْ في هذه المرَّةِ إلى الحياةِ الَّتي لا حدودَ لها ولا نهاية. منها تخرَّجَ أوَّلاً لِيَغُوص في سَفرة شيِّقة وشائكة في آن نحوَ كُنْه الحقِّ والخير والجمال، وفي قلبِه شعور دَفين بأنَّها طرُقٌ تُؤدِّي كلُّها إلى الله. الدَّربُ إليه كانت دربَهُ والاختبار المُطلَق خاصّا به، على غرار الرِّجال الرِّجال الَّذين يَنفرون من ترديدِ الأقوالِ ومن نَسق الأعمال المَنسوخة. لكنَّ الرَّبَّ كان يمسكهُ بِيَده عن حبٍّ دافِق دونَ أن يَفرضَ عليه أن يَتقيَّد به فرضا. لقد سُؤلَ البابا السَّابقُ والمُعلِّمُ الفريدُ لِلإيمانِ على مدى القرنِ العشرين عن عددِ الطُّرُقِ الَّتي تُؤدِّي إلى الله، فأجابَ قداستُهُ أنَّها بِعَددِ النَّاسِ. فكما أنَّ لِكلٍّ مِنهُم بصماتِ إصبعٍ لا يُوجَدُ لها أيُّ مثيلٍ، هكذا تكون اقتراباتُنا من الرَّبِّ، فهي لا تتشابَهُ لا في المُنطلَقاتِ ولا في التَّعرُّجاتِ، إلى أن تَصُبَّ كلُّها في بحرِ النِّهايةِ الواحدِ وفي المجمعِ الأخيرِ.
كان من المُنتَظَرِ أن يبدأَ حياتَهُ العمليَّةَ في جريدةِ «النَّهار» وأن يُكمِلَ الدَّربَ فيها طويلاً قبلَ أن يَطُوفَ وحيدًا في محرابِ الوجودِ طوافَهُ الأخيرَ، لأنَّ المرءَ في تلك الهُنَيْهَاتِ السُّميَا يَلجَأُ إلى العُزلةِ عن الإعراضِ مهما غَلَتْ لِيَكونَ لهُ كشفُ الجوهرِ في أشدِّ توهُّجِهِ، كما تَتَوهَّجُ في سِفرِ الرُّؤيا أورشليمُ النَّازِلَةُ من السَّماءِ لِيَلتقي في رِحابِها الأبرارُ والصِّدِّيقون. وكان له أن يَسلُكَ في العملِ دربَ والدِهِ الصَّحافيِّ الشَّهيرِ الأستاذ لويس الحاج الَّذي رافقَ «النَّهار» منذُ نَشأتِها على يَدِ جبران التويني الأوَّلِ، ومع عملاقِها الفكريِّ الأستاذ غسَّان رحمَهُ اللهُ وُصُولاً إلى جبران شهيدِ الوطنِ الَّذي نزلَ إلى جحيمِ الحبِّ الأعمقِ لِيَطلعَ منه مُتجَلبِبًا حُلَّةً بيضاءَ وقد غُسِلَتْ بِدمِّ الحَمَلِ. وما من شكٍّ في أنَّ علاقةً خاصَّةً نُسِجَت بينه وبين غسَّان المفكِّرِ، لا لأنَّ أُنسي قد اعتنقَ الفلسفةَ النَّظريَّةَ أو العمليَّةَ، بلْ لأنَّ غسَّان كان هو أيضًا على مِثالِهِ مُحِبًّا لِلفكرِ المُتفلِّتِ من الكلماتِ والرَّامِي إلى تَذوُّقِ الحقيقةِ بِمُكاشفةِ العُشقِ لها والتَّوحُّدِ بها في نشوةِ الإيحاءاتِ.
هكذا نُدرِكُ فَرادةَ العملِ الصَّحافيِّ الَّذي اندرجَ فيه أُنسي، فهو لم يَبْتَغِ منه خدمةَ الخبرِ السَّائرِ، ولو كان صحيحًا وبنَّاءً، بلْ لأنَّهُ أرادَ من خِلالِهِ خدمةَ الإنسانِ في أدبيَّاتِهِ وفي تَوْقِهِ إلى الثَّقافةِ الفُضلَى. فَجَمعَ بذلك بينَ الشِّعرِ الَّذي كادَ أن يُلهيه عن كلِّ لاهٍ، وبينَ الأدبِ الَّذي رأى فيه اكتمالَ الحقيقةِ وعرسًا لها. إنَّهُ يَعودُ بنا عبرَ هذا المَنحَى إلى المُعلِّمِ «أفلاطون» الَّذي تجرَّأ القولَ بأنَّ قمَّةَ المعرفةِ هي الشِّعرُ، وإلى المُفكِّر المؤمنِ «برغسن» الَّذي فاضَلَ بين معرفةِ المنطقِ التَّسلسُليِّ وبينَ معرفةِ الرُّؤى المباشرةِ لِكُنْهِ الحقيقةِ بما يَفُوقُ دَفعَ الأفكارِ ويُواصِلُ بينَ البداياتِ والنِّهاياتِ من دونِ وَسِيطٍ. وهو يَعودُ بنا أيضًا إلى «تُوما الأكوينيِّ» الَّذي ينصحُ عُلماءَ اللاَّهوتِ أن يَكتبُوه وهُم رُكَّعٌ سَاجِدُون قبل أن يَضعُوهُ في مُتَناولِ النَّاسِ كُتُبًا ومُدَوَّناتٍ.
في أسبوع الأبرار والصِّدِّيقين، أيْ هذا الَّذي نحن فيه، ينتقل أُنسي العزيز من الموت إلى الحياةِ. ولنا كلُّ الرَّجاء أنَّه سَيَنضم إلى صُفُوفهم مَصحُوبًا بِشفاعة العذراء والقدِّيسين، لأنَّه كانَ في دهرِهِ رجلاً صادِقًا، ولا يُمكنُ لِهذا الصِّدقِ إلاَّ أن يَصِلَهُ باللهِ الَّذي هو الصِّدقُ كلُّهُ. فأُنْسي لم يَعرِف الزَّيفَ في حياتِهِ ولا تَوَسَّمَ الوجهَين ولا اللِّسانَين. ولم يَعتَنِق نرسيسيَّةً كان يَكرَهُها حتَّى الأعماقِ. بلْ راحَ يَتلمَّسُ طريقَهُ إلى اللهِ عبرَ القِيَمِ الإنسانيَّةِ الفُضلَى وجمالاتِ الوجوهِ العاكِسةِ بهاءَ خالقِها ومُرسِلِها إلى الوُجُودِ. وهو أرادَ أن يَبنِيَ في الدُّنيا بيتًا من خيوطِ الحقيقةِ الَّتي تَقدرُ وحدها أن تُحرِّرَ. لذلك كنتَ تراهُ مع النَّاسِ بعيدًا على قُربٍ وقريبًا على بُعدٍ، إلاَّ عندما كان يَنشَدِهُ لِلنَّزاهةِ ساطعة فَيَنحنِي لها إجلالاً ويرى نفسَهُ أمامَها عابِدَةً لا معبودة، فليس من مَعبُودٍ إلاَّ اللهُ وحدهُ. بهذه الرُّوحِ يُقرَأُ تَرَفُّعُهُ عن المناصبِ والمكاسبِ ومَيْلُهُ إلى تواضعِ النُّفُوسِ الكبيرةِ الَّتي لا مُكافأةَ لها إلاَّ من ذاتِها. يَكفي أنَّهُ قالَ يومًا ما يجبُ أن يُسجِّلَهُ التَّوَّاقُون إلى التَّسامِي: «هناك مَا هو أهمُّ من الولايةِ وهو الحقيقةُ وهناك مَا هو أكثرُ إغراءٍ من الحُكمِ وهُو تَركُ الحُكمِ وهناك ما هو أرفعُ من المقاماتِ وهو النُّبلُ البشريُّ». فكيف لا نرى في صاحبِ هذا المقالِ الصَّادِقِ مشروعَ صدِّيقٍ يرشُّ ربُّهُ عليه حَنَانَهُ، ويَغسِلُ نفسَهُ المَعمُودَةَ أوَّلاً بماءِ المَيرون، والعائِدَةَ نهايةً إلى رَبِّها بِدَمعِ الحُبِّ الَّذي لا يسكبُهُ الكبارُ إلاَّ في الخَفايَا وفي مُنَاجاةٍ لله خاشِعةٍ حتَّى القيامةِ.
أمامَ رحلةِ العمرِ الَّتي قامَ بها أُنسي إلى رَبِّهِ نحنُ جميعًا مأخُوذُون بِعُمقِ التزامِهِ الحقيقة والمحبَّة وكلاهُما قَبْسٌ من أنوارِ الله. لكنَّنا مُطالَبُون في هذا الوطنِ العزيزِ الَّذي خدمَ فيه أُنسي نشرَ الحضارةِ وبُنيانَها، أن نلتزمَ نحنُ أيضًا بِلبنانَ الَّذي أحَبَّ لِيَبقَى وطنَ الحضارةِ والإنسانِ الَّذي يَمدُّ لأخِيهِ الإنسانِ يدًا بيضاءَ، ويُقدِّمُ فيه الجميعُ بعضُهُم إلى بعضٍ فُرَصًا للتَّعاونِ والتَّلاقِي من أجلِ عيشِ المودَّةِ والصَّفاءِ وتَكمِلَةِ الحضارةِ حتَّى مُنتَهاها. إنَّ مَصيرَهُ اليومَ بين يدَيْ ربِّهِ وهو مصيرٌ آمِنٌ لِجميعِ المؤمنين. أمَّا مصيرُ لبنانَ فهو بين أيدِي أبنائِهِ لَعلَّ الكلمةَ تَبقَى فيه أقوى من السَّيفِ، والتَّقاربَ أقوى من التَّباعُدِ والأزمنةَ الآتيةَ مُطلِّقةً لِلجاهليَّاتِ على أنواعِها. لقد كانَ أُنسي رَحِمَهُ اللهُ مُلهَمًا فَلَعلَّه يصيرُ لِبَنِي قَومِهِ مُلهِمًا وفيهم دَاعِيةً إلى التَّوقِ نحوَ الأرجاءِ العُليا من الوُجُودِ.
باسمِكُم جميعًا نَتقدَّمُ بِتَعازِينا الحارَّةِ من عزيزِهِ لويس وعائلتِهِ ومن عزيزتِهِ ندى والعائلةِ ومن خالتِهِ وعائلاتِ أشقَّائِهِ وشقيقاتِهِ، ومن بلدةِ قيتولي المعطاءةِ الَّتي سَيَرقدُ في تُرابِها على رجاءِ القيامةِ، ومن أُسْرَةِ «النهار» ومن الصَّحافةِ اللُّبنانيَّةِ ومن أهلِ الشِّعرِ والأدبِ في بلادِنا والمنطقةِ بأسرِها، راجِينَ لهُ من كلِّ قلوبِنا أن يَتمتَّعَ بمشاهدةِ وجهِ ربِّهِ إلى الأبدِ، وأن يَنعَمَ في دفءِ رحمتِهِ صُحبةَ الأبرارِ والصِّدِّيقين الأوفياء، وأن يُبقِيَكُم جميعًا ويُبقي لنا لبنانَ مَنبِتَ الشُّعراء ومُكرِّمَ الأولياء. ولكُم من بَعدِهِ جميعًا طُولُ العمرِ.
كلام الصور
1- أنسي الحاج الحاضر أبداً
2- المطران مطر يلقي عظة
3- وزير الثقافة يقلد الفقيد وساماً رئاسياً
4- إكليل ورد من السيدة فيروز