جميل الدويهي: أدب أم ماذا؟ دراسة في بنية قصيدة النثر ومعانيها الحلقة الثالثة: خمسينات القرن الماضي والحداثة

 

بقي الشعر القديم (العموديّ) حوالي 3000 سنة دون تغيير جوهريّ في بنيته. ولم يخطر في بال أحد خلال تلك العصور أن يغيّر في علم العروض مثلاً، أو يُدخل تعديلات عليه. حتّى جاء مطلع القرن العشرين، وتبدّلت المفاهيم العالميّة، تبعاً للثورة الصناعيّة، ونهضة العلوم والتكنولوجيا، فأصبح الناس أكثر تقبّلاً لكلّ جديد، بل اعتبروا أنّ التحديث له منفعة في حياتهم.

وبغضّ النظر عمّا إذا كان تحديث الشعر في العالم العربيّ، قد جاء نقيضاً للتراث والدين، كما يعتبر البعض، فإنّه أصبح واقعاً ولا مهرب منه. يقول د . محمد خضر عريف في كتابه “الحداثة مناقشة هادئة لقضية ساخنة” (ص 11 و12): ” إنّنا بصدد فكر هدّام يتهدّد أمّتنا وتراثنا وعقيدتنا وعلمنا وعلومنا وقيمنا، وكلّ شيء في حاضرنا وماضينا ومستقبلنا”. وهناك آراء أخرى كثيرة تربط بين الحداثة وخيانة التراث، لا يسعنا أن نذكرها جميعاً…

وكان علي أحمد سعيد (أدونيس) المجاهر بإلحاده، من الداعين الروّاد للحداثة. وأدونيس لا يختلف عن نيتشيه في موضوع “التخلّص من الله”، وجعل الإنسان يحلّ محله أو يكون مثله.  وقد يكون أدونيس قد ساهم ، ومن خلال مواقفه الإلحاديّة الصارخة، في الحركة الاحتجاجيّة التي رفضت الحداثة، وربطت بينها وبين الإلحاد.

لكن إذا كانت الحداثة في الشرق هي انقلاب على الدين، فهل كانت كذلك في الغرب؟

ربّما في بعض المفاصل، ضمّت المجموعات الحداثيّة بعض الرافضين للدين المسيحيّ الشائع في أوروبا، كالحركة الدادائيّة التي أسّسها تريستان تزارا في عام 1916، وانضمّ إليها العديد من الأدباء والرسّامين المتحرّرين أمثال: أندريه بريتون، أرثر كرافان، لويس أرغون، بابلو بيكاسو، فرانسيس بيكابيا وسلفادور دالي… لكنّ الحداثة كما يقول بيتر شيلدز، في كتابه Modernism (ص 4)، كانت حركة أدبية ناشئة عن رغبة واعية لتغيير الأنماط  التقليديّة للتعبير، والافصاح عن حساسيّات عصرها.

This literary movement was driven by a conscious desire to overturn traditional modes of representation and express the new sensibilities of their time

إذن من منطلق الخروج على المألوف والجامد، كانت الحداثة في الغرب، وإذا صادف أنّ بعض الحداثيين كانوا ملحدين، فلم يكن هدفهم نقض الفكر الدينيّ في المقام الأوّل. وقد تعرّضت المذاهب الأدييّة الغربيّة لعمليّات تجديد متواصلة، فتطوّرت من الكلاسيكيّة، إلى الرومنطيقيّة، ثم الواقعيّة، فالرمزيّة، فالدادائيّة، فالسورياليّة والبرناسيّة… وسواها. وكأنّ الحداثة هي عمليّة توالد تلقائيّ، وانتقال منطقيّ من القديم إلى الجديد.

وفي اعتقادنا أنّ دخول الحداثة الغربية إلى ثقافتنا العربيّة، كان شبيهاً تماماً بدخول المدارس الأدبيّة المختلفة، فلكل مذهب غربيّ سفيره في بلادنا: الرومنطيقيّة لأبي شبكة، والرمزية لجبران خليل جبران وسعيد عقل، والسورياليّة لأدونيس وشوقي أبي شقرا… وهذا الاتّباع للغرب من عيوب ثقافتنا، فيما يُنادي بعضنا بأن لا نتبع التراث… وكأنّ اتّباع التراث عيب، واتّباع الغرب فضيلة. وبلغت المفارقة حدّ الكوميديا، عندما انبرى الشعراء العرب الشباب في الخمسينات من القرن الماضي، ليقلّدوا قصيدة “الأرض الخراب” لتوماس إليوت، وهرعوا إلى الأسطورة يستقون منها، بينما إليوت نفسه أخذ الأساطير الشرقية، أي أساطيرنا، واشتغل عليها. فهل كان ذلك التقليد حداثة، وتقليد المتنبّي وأبي تمّام رجعيّة؟!

هذه الازدواجيّة الفاقعة هي التي وضعت الحداثة عندنا في موضع شكّ، وتعرّضت لانتقادات كثيرة، ولا تزال.

***

*جميل الدويهي: مشروع أفكار اغترابيّة  للأدب الراقي النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع

اترك رد