سيرة ذاتية في البحث عن الأب العابر

 

 

 

Nivrette El Dalati Grégoire

15 -11- 2022

( Paris)

المهندسة والشاعرة ميراي عبد الله شحاده حداد. حائزة على ماجستير في هندسة الميكانيك من الجامعة اللبنانية. عضو في نقابة المهندسين، طرابلس- لبنان وفي نقابة المهندسين دبي- الامارات. أسست عام 2020 منتدى شاعر الكورة الخضراء عبد الله شحاده الثقافي، وأنتجت المجموعة الكاملة لوالدها الراحل عبد الله شحاده، شاعر الكورة الخضراء، وهي تقع في ستة أجزاء.  لها مؤلفان:”يوم قررت أن طير2017 ” و”بوهيمية2021 “.

اذا كان مارسيل بروست في “البحث عن الزمن الضائع او المفقود” قد عاد الى الذكريات من خلال قطعة الحلوى، ليقدم لنا روايته هذه، عن تصوره للوجود، والحياة، والانسان، بشكل جديد ومبدع، فميراي شحاده حداد استبدلت قطعة الحلوى برائحة الزيتون، عطر أرض لبنان الوطن، وعادت الى زمنها المفقود عبر زواريب ذكرياتها النائمة خلف غيوم الماضي، لتنزلق الى اللاوعي دون أن تدري، وتغرقْ في جسد الطفلة التي تناجي والدها عبر موْلَّفَيْن، كانا بالنسبة لها أشبه بالعلاج النفسي، في محاولة  شاعرية/أدبية، ساعدتها على القيام بالحداد على والدها، حيث كان ذلك مستحيلاً في السابق.

هناك من يبحث عن زمنه الضائع من خلال رائحة، أو كلمة، أو حتى دمعة مخفية، دون أن يلتفت الى الوراء، وميراي! لم تبحث الا عن هذا الأب الضائع خلف تلال السنوات، ولم تتمكن من انتشاله من الغرق من أعماقها الا من خلال كتابيْها، “يوم قررت أن أطير/ وبوهيمية”، اللذيْن مكّناها من أن تنقِّب عن زمن بعيد كان صعب المنال، وأن تعتق حزنها من كوّة الماضي، لتحرر الكلمات المكبّلة في قاووش ذاكرتها، منذ رحيل صاحب، ومبدع، ومعذَّب مؤلف “القاووش” عبد الله شحاده. هذا السجين بداخلها، الذي كان يمنعها من أن تعيش دون أن تتمكن من اعادته رمزياً الى الحياة، فقررت أن تطير، وتبتدعه من عالم غير واقعي عبر بوهيميتها.

ميراي! لم تكتب كتابَيْن، بل خطّتْ نفسها، حياتها، كل سيرتها الذاتية الغارقة في معاناة النفس، لتراها كل العيون وهي تنادي والدها، عبر استحضاره في كل كلماتها واهتماماتها الثقافية الدؤوبة، بالاضافة الى العمل الأهم، والأساس، الذي سعت لتحقيقه عام 2020، ألا وهو اصدار كل اعماله الأدبية في مجلدات، لتخلده على صفحات الزمن.

قامت الشاعرة بمحاولة لاعادة بناء الماضي الضبابي، المسافر خلف عيون طفلة، فقدتْ والدها في العاشرة من عمرها، لترمِّمَ ذاتها الضائعة، من خلال الذاكرة العائلية، حيث كان عبد الله شحاده، نائماً خلف رداء الكلمات، والتخيلات، والتساؤلات، فنجحت في اعادة احيائه، بكشف الحجاب عن ذاكرتها، لتواجه هذا الرجل المثال، الذي تتماهى به، وتسعى بِوَعي أو بغير وعي أن تكون مرآة مجده وأحلامه، لتتمكن من ان تتحرر وتطير.

بدأتْ ميراي بالحوار مع والدها في “يوم قررت ان أطير” (2017) في محاولة لعلاج الوجع المعشش في أغوارها، الذي كان يمنعها من التقدم في مسار حياتها، لكن في الوقت نفسه، كان يغذّي نسيج وخيوط خيالها الابداعي، ويشكِّل دافعاُ لنجاحها في الحياة، فجاءت كتاباتها بهدف واحد، الا وهو: البحث عن هذا الزمن الضائع مع والدها، وذلك من خلال محاكاته ومناجاته، عبر هذا المولود الرمزي، الذي انجبته  وأهدته اليه.

ليس مصادفة أن تستهل الشاعرة كتابها بقصيدة لوالدها، كتبها لها يوم أبصرت النور، وأدخلت السعادة الى حياته، فهي تود أن تصرِّح لنا منذ البداية، أن هدف هذا الكتاب هو التعبير عن الفراغ الذي تركه في حياتها منذ رحيله، وهي ما زالت طفلة صغيرة، تطير كالفراشة في روضه، تبحث عنه، فنراها تدخل معه مباشرة في جدلية عتاب، تترجّح بين الموت والحياة، وذلك عبر مكوّنات الطبيعة ، كما فعل والدها.

كيف لا وهما نشآ في أرض الكورة الخضراء! أرض أشجار الزيتون المعمِّرة، الغافية تحت تثاؤب شمس العمر المتراخية؟

لجأ عبد الله شحاده الى الطبيعة المفرحة للبوح عن سعادته التي لا توصف بولادة ابنته البكر ميراي، فيقول في قصيدته “من بيادر الماضي” (“عطَّرْتِ أزهاري .. في روض أشعاري../   يا بوح أسراري .. يا مهجتي ميراي” ) ص 5 “يوم قررت أن أطير”

-ترد ميراي النائمة على وسادة من وجع، مستعينة بالطبيعة كما استعان بها والدها، لكن عبر لوحات متناقضة، ملوَّنة بلون الليل، لتعبِّر عن الثغرة التي أحدثها في حياتها بعد رحيله، فتقول في قصيدتها:

“الى روح أبي” ( ” استيقظي يا نفسي وتوِّجي هامة والدك باكليل غار من أرض لبنان!

شهِقَ الزهر وبكى العندليب واكتأب الروض!”) ص 14.

هذا اللحن الذي يتأرجح بين الأب وابنته، في جدلية  بين الفرح والحزن/ الولادة والموت، كأنه عتاب ومناجاة من الروح المعذبة، حاولت الشاعرة من خلاله أن تحاكيه عبر لغة وجعها النفسي الكامن بداخلها منذ سنوات، وكأنها تشيّعه بموكب من كل أشجان الطبيعة الحزينة، لتتمكن أخيراً من القيام بهذا الحداد الذي كان يمنعها من ان تنطلق حرة طليقة في الحياة.

-يقول عبد لله شحاده:” والبلبل الشادي ، في منحنى الوادي./ يعيد انشادي، مرحى لها ميراي” ص 6.

-ميراي: “ولكن، لماذا طِرْتَ من أيكة قوافيك وتركتني كالعود بلا وتر؟! كالزهرة من دون عبير!؟ّ”

“أبي …أبي..يا امام الحب والعطف والحنان”) ص 14.

ما أجمل هذا الحوار/ العتاب بين الأب وابنته، وهما ينشدان معاً لحناً متناقضا بين الغياب/ والحضور،  الأمل/ واليأس. وكأننا أمام مرآة ذات وجهين، تعكس أجمل ما في الطبيعة  للبوح عن مشاعرهما. فنرى ان الأب، كشروق الشمس، اقتطف (البهجة والعطر، والزهر، والبلابل). حيث كانت ولادتها بالنسبة له، بمثابة ولادة جديدة لعالمه، وكأنه كان يعيش خريفً عمر منسي، وفجأة استيقظ ربيعه من غفوته، فعاد اليه الشباب، وبدأ كونه يضج بشدو البلابل، وتفتح الزهور. هذه الولادة الحلم!، اعادت اليه الحياة “يعيد انشادي”، ربما كان هذا الحلم بعيد المنالً، في عمر متأخر “منحنى الوادي”  فجاءت كأول الغيث، لتعطي معنىً لوجوده ” يا بنت أحلامي .. يا زهر أيامي..نسيت آلامي لما أتت ميراي” ص 7.

أما ميراي التي تتماهى بوالدها، فهي تعيش نفس الحالة الوجدانية، لكن من خلال شعور عكسي حزين ، كغروب الشمس: (الألم، الزهرة دون حياة، العود صامت دون وتر).

لقد تمكنت من ادخالنا الى عالم طفولتها، لنضيع بين كلماتها، نحاول تكسيرها ، بعثرتها، كما يفعل الأطفال لاكتشاف ما بداخل العابهم، فأعادتنا الى وجوهنا المنسية خلف جدران زمن بعيد، والى اشتياقنا لهذا الأب الحنون، المثال، الذي نحلم به كلنا، والغائب عند البعض منا، في مكان ما بداخلنا، فتماهينا بوجهها الدامع وهي تصرخ لوالدها “أبي…أبي”، وكم ناجينا والدنا مثلها، في الفراغ والعبث، وعاد الصوت الينا صامتاً، متكسرا حزيناً؟!

لقد أرادت أن تعيد له ما لم تتمكن من اعطائه له وهو على قيد الحياة، وكأنها كانت في غفوة من الزمن ، وفجأة‍! استفاق وجودها كله بعد غيابه، فقررت ان تطير وتحرر الألم النفسي الكامن بداخلها منذ سنين.

يظهر لنا في كتابَي ميراي، انها في بحث مستمر عن والدها، عبر نسيج من المشاعر، فنرى ان طابع الخوف والقلق من فقدان من تحب، يلاحقها حتى مع الحبيب.” أخاف يا حبيبي من ظلمة الدنيا وأن تنأى عني” ص 80. انها تبحث في الحبيب،عن الرجل الأب، الذي يحميها من هموم الحياة. وتخشى أن تفقده كما فقدتْ والدها وتعيش من جديد حالة قلق الانفصال التي تعاني منها. فتطلب منه كطفلة، ان يُطَمْئنها بأنه لن يتركها، وألا يتخلى عنها كما تخلى عنها والدها بالموت. وترى علاقتها مع الحبيب، علاقة استمرارية لا يشوبها انفصال أو فراق، حتى الشيخوخة، “عجوز ترى نهاية الأشياء، كل الأشياء ، بين يديك” ص 63.

الحب عندها ليس فقط عبارة عن هوى، وقبلات، وأشواق، انما هو حب ملوّن بالخوف والقلق من فقدان من تحب، ويأتي كل ذلك مقروناً بصورة الأب المُطَمْئِن، والحاجة لعائلة، ولبيت، كما يتردد ذلك باستمرار في أكثر قصائدها “بالرحم” وما يرمز اليه من: ( البيت، والأسرة). وتقول في قصيدة “موطني”  (“رأيتُ فيك موطني.فوُلدتُ من رحمك من جديد/ وتركتُ سفني تبحر من شطآنك وترسو فيها من دون أي قيود “) ص62. هذا الموطن يختلط بين ألحبيب، والأرض، والأم، التي اعادتها الى الحياة من جديد.

وتتابع سيرتها الذاتية/العائلية في مؤلفها الثاني.

-2 بوهيمية “2021

بعد أن تمكنتْ الشاعرة ميراي من البوح عن حزنها على والدها، وتحررها من ألم الانفصال، تطل علينا بقصائد عاشقة في مؤلّفها الثاني “بوهيمية” حيث تتنقل كالفراشة بين روض من الأزهار، تخط عنفوان الصبا بحروف من حبر هواها، ابداعاً لقلب يبتكر الكلمات، ويبوح بحب ليس ككل الحب، انما هو اختراع من عالم عاشقة غارقة في الأحلام.

صحيح ان الشاعرة البوهيمية لم تولد في باريس ولم تواكب حركة البوهيميين الشباب في المجتمع الفرنسي، ولم تعِشْ هذا الاتجاه الحر الذي ربطه فكتور هوغو وهنري مورجيه  Henry Murger et Victor Hugo بالحي اللاتيني بالضفة  اليسرى من نهر السين. لكنها انطلقت من ضفة ذكرياتها، ومن نهر أحزانها المطبوعة بشخصيتها الحرة، واسلوبها الخاص الممزوج بابداع المهندسة ووجدانيات الشاعرة، في بناء وهندسة أشعارها، وهي تقتحم عالمها دون قيود، واثقة الخطوة، كجذوع أشجار زيتون مدينتها، لا شيء يمنع تقدمها وعنادها للوصول الى ما تصبو اليه، على الرغم من كل المصاعب التي اعترضتها وتعترضها في الحياة. ونرى ذلك جليّاً في أغلب قصائدها ومنها: “علمتني الحياة كيف احترق ثم انبعث لأحلِّق كطائر الفينيق” ص23.

يطغى الشعور بالوحدة على معظم قصائدها، على الرغم من عالمها المليء بالوجوه. وتبقى الحاجة للأهل تتسلل الى سمائها كالغيوم السود ” أنا مُقَلٌ يتيمة لا أب يحاكيها ولا أم تغطيها في غسق الألم” ص 41. لم يعد الأب هو وحده الغائب في حياتها، انما هذه الأم أيضاً التي أدّت دور الأم والأب بعد رحيله، لم تعد بجانبها لتحميها من هموم الحياة. ” يا أمي، أطلّي ولو قليلاً، وبلّلي ما جفَّ في عمري، يا جارة القمر!”.ص 144.

وتتابع سيرتها الذاتية عبر ابياتها الشعرية، لتحكي لنا كيف صنعت نفسها بنفسها وهي غارقة بالحنين والوحدة. انها بحاجة لتقول للحبيب أنها كانت ضائعة في طفولتها دون الرجل الأب الذي يحميها، وتخشى أن تعود لحالة الضياع هذه “أنا امراة يا صديقي، ما زالت تعيش هناك / بوهيمية تائهة في ربوع طفولتها، وفي ربى سناك!  فما ارادت السفر بعيداً عن لماك.” ص 25.

ميراي المهندسة تستعين بمعجم العقل لتبوح عن مشاعر القلب “كيف ألقاك وكيف أهواك؟/ والمجرات والكواكب تدور في رأسي في جنون واضطراب!” ص 34.

نرى في “بوهيمية” باقة من ألوان الحب، وكأن العالم كله في جنون. انها عاشقة تخترع الحب، متحدية المنطق كالسورياليين، طارت بنا خلف القيود، لندور في كوكبها المجنون، مندهشين من غرابة حبها العقلاني/الوجداني الذي اخترعته، كما يخترع العقل الباطني غرابة الأحلام، كأننا أمام لوحات بْراك وبيكاسو في ابداعهم الجنوني الرائع، حيث تضيع الأشياء وتلتقي.بين عالم الحلم والخيال.

في “بوهيمية”، تحاول الشاعرة ان تعرّي ذاتها، وحقيقتها، ليدخل الكل الى حياتها ويقرأها، ليشعروا بألمها. فتعود دائماَ الى السيرة العائلية والذاتية، لتحكي وجعها من فقدان الأهل، حيث الفراغ كبير عندما تستدعي الحاجة لكلمة حنان وطمْأَنة.

في “يوم قررت ان اطير” تشكو وجعها من غياب الأب بالتوجه اليه مباشرة، بينما في “بوهيمية” تتوجه الى الحبيب لتشكو اَلًمها من غياب الأهل. الذي ولّد لديها الشعور بالوحدة والحزن وعدم الاطمئنان.

وعلى الرغم من ان الحبيب هو الذي يعيد اليها الحياة، لكن! في الوقت نفسه يبقى حبه مقرونا بالخوف الذي يعيدها الى حالة الألم الداخلي من خسارة والدها، فأصبحت تخشى الفراق وهي لم تُشفَ منه بعد.

هذا الكتاب “بوهيمية”هو الجسر الذي أتاح لها العبور من عالم الواقع الى عالم الخيال، لتبتدع قصائدها من عالم لاشعوري، محرراً من كل قيد.

هذه القصائد التي تتميز بمحتوى انساني مفعم بمشاعر الهوى والحزن والألم، مكّنتها من التعبير والبوح عن أسرار مكنوناتها بكل حرية، وسمحت لها أن تتخطى حدود الاعتيادي، وأن تكسّر القيود، منطلقة بِبوهيميتها بحثاً عن الحب المفقود خارج العالم الكلاسيكي المعتاد، لتعيد عبر سفن الكلمات، احياء هذا الأب الغائب/الحاضر، القابع في مكان ما في كيانها حتى من خلال عشقها للحبيب.

هذان الكتابان جاءا كبلسم لاغلاق الجرح المفتوح، من خلال البحث عن الذات والهوية، كنوع من الاعتراف بالألم النفسي الناتج عن غياب الأب. وكما جاء في اعترافات روسو عبر الطبيعة، فان ميراي ووالدها استقيا ادبهما من وجهَيْ الطبيعة، الشروق والغروب، بألوانها المفرحة والمحزنة للتعبير عن مشاعرهما، فهما يتقنان تماماً لغة الطبيعة الغافية على نغمات البلابل، وهي تحكي قصصها بين اوراق الزيتون.

انطلقت الشاعرة ميراي في هذيْن الكتابين، بحرّية وعفوية، لتحكي عن الذات، من الذات، واليها.

فهي من حيث تدري او لا تدري، عالجت الفراغ الأبوي الذي كانت تخشى الغرق في هوته، وقد نجحت بذلك، وتمكنت من القيام بهذا الحداد على الأب الذي كان يشكل لها نوعاً من القلق، يمنعها من القيام به .

لقد استطاعت طفلة عبد الله شحاده أن تكبر وتتحرر مما كان يمنعها من التقدم نحو المستقبل، بعد أن كانت تخشى مفارق الحياة المظلمة، المجهولة، الوعرة، المليئة بالمفاجآت، التي لم تتهيأ لها من قِبَل الأب، ولم تكن تتجرأ على مواجهتها. فاستعانت بالهندسة لتبني ابياتها الشعرية المبدعة، حيث تألقت صفحاتها عبر ابيات وبيوت بوهيمية، مشلَّعة، بلا نوافذ ولا أبواب. تدخلها الريح والعواصف، تكسِّر تراتيب الأشياء، تزرع الفوضى الابداعية للكلمات، حيث تتطاير كالطيور الضائعة في سماء بلا حدود ولا قيود.

على الرغم من أن رحيل والدها المبكر ولَّد لديها الشعور بعدم الأمان والطمأنينة، وعلى الرغم من  ان خسارته هي خسارة جزء من حياتها، الا أنه شكّل لديها جزءاً مما هي عليه اليوم، كما هي الحال عند أغلب النساء اللواتي فقَدْنَ آباءهُنَّ في سن مبكرة، وأبرعْنَ في حياتهن المهنية الاجتماعية، ومن أمثالهنَّ، السياسية الفرنسية فرانسواز جيرو التي فقدت والدها في الحادية عشر من عمرها، فتماهت به ونجحت نجاحاً كبيراً في حياتها المهنية، حيث تسلمت مراكز مهمة منها: كاتبة وصحافية . أسست مجلة “اكسبرس” الفرنسية ثم أصبحت مديرة تحريرها، وشغلت منصب وزيرة الدولة لشؤون المرأة.

كذلك ميراي التي تماهت بوالدها وأخذت مكانه الذي فقدته برحيله، فأسست “منتدى شاعر الكورة الخضراء” وأصدرت له مجلداته الست، وكأنها رمزياً اصبحت هي الأب المفقود لتسُدّ ثغرة الغياب. وما تبحث عنه في عيون الآخرين، ليس الا هذا الحب والتقدير كاعتراف بكفاءتها، ونجاحها الذي يعني نجاح والدها، وتحقيق ما لم يسمح له الزمن بتحقيقه.

هذا التماهي بالأب، كما تمنتْ أن يكون، واضح جداً عند الكاتبة من حيث النشاط الاجتماعي الثقافي الدؤوب، والتألق الناجح مهنياً: كشاعرة ومهندسة، وفي علاقاتها الاجتماعية المتشعبة.

انها في سعيٍ دائم للشعور بالحب من خلال أنظار الآخرين، هذا الحب المفقود من الأب تبحث عنه كل يوم لتشعر بوجودها، كأنها تبحث عن هويتها من خلال تقييم الآخرين لها.

كانت منذ زمن بعيد تتوق للقول عالياً: هذا هو والدي، منطلقة من حاجتها للحب، عبر هذا التقارب الاجتماعي مع الآخرين، الذي يملأ حياتها بالنشاطات الثقافية  التي لا تهدأ، لتلفظ اسم والدها في كل مناسبة، ومع اشراق كل صباح، وكأنها تقول له. لقد حققت حلمي بتحقيق حلمك، وجمعت أعمالك ليخلدها لك التاريخ في وطنك.

هذان الكتابان يشكِّلان صفحات لعائلة لبنانية كورانية، تظللها أوراق شجر الماضي الحزين، الغافية في حقول الذكريات، حيث أن كل فرد من أفرادها يختبىء داخل الكلمات: ( الأب، الأم، والأبنة) وكأن هذين المؤلفين يحكيان السيرة الذاتية المنقوشة على أوراق شجر الزيتون الشمالية ، وقد أتَيا ليحررانها ويعتقانها من هذا الحداد العائق، والعالِق، الذي جاء اليوم على وقع ترانيم ارجوحة الهدوء النفسي والطمأنينة.

ميراي: الابنة ، والمرأة ، والأم! كانت بحاجة لأن تطير كالبوهيمية، لتحكي عن الذات المعذبة، ولتضع نفسها امام الآخرين وتقول من هي! وما الذي كان يمنعها ان تكون هي.

وهكذا! أظهرت لنفسها انها ترفض قتل الأب رمزياً بنسيانه، فأنجبته، وأعادت بناءه عبر كلمات الألم والوجع النفسي، الذي تحوّل الى ابداع، فتحقق هذا اللقاء المستحيل بينها وبينه.

هذا الأب الذي يمثِّل بالنسبة لها الحبيب الحقيقي الذي تجده في كل الرجال، حررها عبر انجازاتها الأدبية من هذا العبء النفسي الذي كان يمنعها من أن تطير وتعيش بسلام واطمئنان.

اذا كان بيكاسو قد عبَّر من خلال اللون الأزرق (في الفترة الزرقاء من فنه) عن الحزن، والوحشة والكآبة، فميراي شحاده حداد، عبّرتْ عن صفحات حزنها وألمها من غياب الأب، في فترة الطفولة الضبابية، من خلال لون الليل، والوجع، الا انها تمكنت عبر سفرها الطويل من أن تخلع عنها هذا الثوب وترتدي آخر بلون الزيتون الأخضر، المفعم بالسلام النفسي، لتصل الى محطة الذات، حيث ينتظرها والدها لتقول له انها ردّتْ له حباً يوازي حبه لها. وهكذا تغلبتْ شاعرة الكورة الخضراء، شاعرة الأمل، على الشعور بالذنب تجاه والدها، فتماهت به وأخذتْ مكانه، وكأنها خلقته من جديد خارج كيانها بعد ان كان ساكناً بداخلها. وباصدار مؤلَّفَيْها، تمكنت من اخراج ميراي الطفلة النائمة في أعماق لاوعيها ، وتحررت البوهيمية، وطارت حرة طليقة كحمامة السلام مع والدها الأديب الكبير، شاعر الكورة الخضراء عبد الله شحاده.

اترك رد