من الكتاب الفكريّ الحادي عشر
يصدر أوائل عام 2023
كان في مدينة بعيدة ملك عاقل، يقيم شريعة الناس، وكان الاثم بين الرجل والمرأة في تلك الشريعة جرماً لا يُغتفَر، وعقابه الموت.
وحدثَ أنّ امرأة أحبّت رجلاً، وثبتَ أنّهما قد فعلا الإثم، فجاز العقاب عليهما من غير محاكمة… واقتيدا تحت عيون الملك ووزرائه وحشد من الرعيّة إلى منصّة الإعدام. وقبل تنفيذ الحكم بوقت قصير، مرّ في المكان رجل حكيم على متن عربة يجرّها حصان. فنزل على عجل من عربته، وتوجّه إلى حيث يقف الملك وأتباعه، فساد هرج ومرج، واعترضه جنود، لكنّ الملك طلب من الجنود أن يتركوا الرجل، فلعلّه يريد أن يدلي برأي، أو لديه قضيّة.
ترك الجنود الرجل الحكيم، فالتفت يمنة ويسرة، ثمّ أخرج كتاباّ من جيب سترته السميكة، وقال: أرجو يا جلالة الملك أن تقبل منّي هذا الكتاب هديّة.
ظهرت على وجه الملك علامات الاهتمام، فقال: ما هو هذا الكتاب؟
-إنّه كتاب المسامحة؟
-مسامحة؟ لم أسمع من قبل بكتاب من هذا النوع.
وسأل الملك وزراءه والحاضرين: هل قرأ احدكم هذا الكتاب؟
اجابوا كلّهم: لا يا مولاي.
تابع الملك موجّهاّ كلامه للرجل:
ماذا يقول كتابك أيّها الغريب؟
-يقول: أحبّوا الذين لا يحبّونكم. سامحوا من يكرهونكم، واغفروا لمن أظهر الشرّ لكم.
-هذه ليست شريعة بشر…
-الله يعدل في أحكامه، والبشر لا يعدلون.
-أوضح يا رجل، فليس لدينا وقت لنضيّعه.
-ألتمس لديك أيّها المولى أن تعفو عن هذين الحبيبين المحكومين بالقتل، بحسب ما سمعته من الكتاب…
اعترض الوزراء، وتجهّمت وجوههم، وامتدّت أيديهم إلى سيوفهم، فنهرهم الملك بنظرة حادّة، ثمّ فكّر برهة، وقال للحكيم: إسمع أيّها الرجل… فكما أنّني لا أنكر شريعة الناس كاملة، فلن أنكر شريعة السماء. وهذه المرّة الأولى التي أقرّر فيها العفو عن خاطئين… لكنّ لي ثلاثة شروط، بها تتعادل الشريعتان معاً.
دُهش الحاضرون جميعاً من موقف مليكهم المتساهل، فلم يحدث في تاريخ تلك البلاد أن نجا أحد من العقاب الذي تنصّ عليه الأحكام الثابتة. وأردف الملك: خذ هذين الصِّدٍيقين معك، وليكن معلوماً لديك أنّ لا سبيل لهما بعد الآن إلى هذه الديار، وعندما يقيمان في ديار أخرى، فيجب عليهما أن يعيشا منفصلين، ولا تكون لهما أيّ فرصة لكي يعودا إلى الاثم، فإنّ الثمرة المحرّمة التي أكلا منها، لا يذوقانها بعد الآن… أمّا الشرط الثالث، فهو أن تحمل أنت وزر خطيئتهما، فيما لو غفلتْ عيناك عنهما، ورجعا إلى الخطيئة… هل نتّفق على هذه؟
لمعت مقلتا الحكيم بنور عجيب، وقال بفرح:
رضيت. ليس أفضل ممّا نطقتَ به جلالتك، من حكمة ورأي صائب.
وقبل أن ينحني الرجل الحكيم، ويغادر، سأله الملك:
هل يمكنني أن أحصل على كتاب المسامحة لأقرأه؟
أجاب الحكيم بسرعة البرق: بالتأكيد… ليست عندي سوى هذه النسخة، بيْد أنّني حفظتها عن ظهر قلب لكثرة ما قرأتها وتمعّنت في معانيها… ومن دواعي سروري أن أهديها إليك يا مولاي. وأرجو أن تبقى لدى جلالتكم في مقام يليق بها.
بينما كان الملك ينظر إلى الصفحة الأولى من الكتاب، انصرف الحكيم وهو يسابق خطواته، لكي يخلًص المدانَين المرتعدين من براثن الموت. فأطلقهما الحرّاس، وتوجّها إلى العربة، ليمضي بها الحكيم بعيداً، وسط عاصفة من العجب وانفعال الشعب.
مضت سنتان على تلك الواقعة الفريدة في تاريخ المملكة. وكما وعد الحكيم، فقد أسكن الرجل والمرأة في غرفتين منفصلتين ومتباعدتين، بينهما باب حديديّ كبير، له قفل عنيد بأرقام سرّيّة. ولم يكن ممكناً لهما أن يتقابلا أو يتحادثا. حتّى استبدّ بهما الشوق، واشتعل أوار الرغبة في جسديهما الضعيفين.
وذات ليلة، نسي الحكيم أن يقفل الباب الحديديّ الذي يفصل بين الغرفتين، فخلد إلى النوم غافلاً، واستغلّ العاشقان غفلته، وكان بينهما ما كان من لواعج الشهوة والغرام.
وفي الصباح الباكر، علم الحكيم بما حدث، فغضب غضباً شديداً من نفسه، بسبب الخطإ الذي ارتكبه، كما تضايق من الرجل والمرأة اللذين كانا يعلمان بما سيكون مصيره، لو أنّه خالف أوامر الملك. وكان في قرارة نفسه يشعر بالحزن لأنّه سيواجه سوء العاقبة. وعلى الرغم من أنّه كان يستطيع الهرب إلى ناحية بعيدة، فقد فضّل أن يلتزم بكلمته، ويعود إلى المملكة، ليقف صاغراً تحت سيف العدالة ويواجه القانون.
كان الملك يصغي إلى قصّة الرجل، وهو يروي كيف أنّه خالف العهد الذي قطعه، فاستحقّ أن يدفع حياته ثمناً. وقال:
إنّني عدت من تلقاء نفسي لكي أواجه العدل، وأستحقّ الإعدام من أجل مخالفتي.
تنهّد الملك، ولم يظهر عليه الضيق، بل كان وادعاً ومطمئنّاً، فخاطب الرجل الصاغر أمامه بلهجة رقيقة:
أقدّر منك أيّها السيّد النبيل أنّك رجعت إلينا، بعد كلّ ما جرى، وأكبِر فيك الصدق والشرف الرفيع. أمّا الحقّ فهو فريضة إلهيّة، يطبّقها البشر كما يرغبون. ونحن أداة ننفّذها، ونحرص على أن تكون من غير زيادة ولا نقصان… ولعلّ هذه الدقّة هي التي جعلتنا نقع في أخطاء فادحة، وقد يكون كثيرون من الناس ماتوا أو سجنوا، جرّاء تلك القوانين التي لا هوادة فيها. وعقابك هو الموت حتماً في نظر الشريعة الأرضيّة، وفي حكم الناس أيضاً… ولكن هل تذكر أنّك أعطيتني ذلك الكتاب الذي يحتوي على دروس عن المسامحة وأعمدتها الناصعة، وطلبتَ منّي أن أنزله مكاناً لائقاً؟ هكذا فعلت، إذ حفظته حرفاً حرفاً، في قلبي وعقلي، كما حفظتَه أنت. وصدقاً أقول لك إنّ الله مسامح وكريم، فلماذا لا نكون مثله ما دمنا على صورته ومثاله؟… نحن البشر ظالمون وقُساة ولا نشبه الإله الرحيم. فعدْ إلى أهلك وبيتك، ولا تخبر بعد الآن ما سمعتَه من أحكام الرعيّة، بل أخبر عن أحكام السماء التي تفيض عذوبة وحناناً. أفليس الله هو القائل: سامح أخاك سبعين مرّة سبع مرّات؟ وها إنّي أسامحك مرّة واحدة، ولست أمنّن في شيء، وأدّعي أنّ لي فضلاً عليك، أو أنّني غفور وطيّب القلب… ولا تنسَ بينما أنت تقود عربتك عائداً إلى بلادك، أنّ لك في ذمّتي كثيراً من المسامحة والغفران، ولم أصرفه لك بعد.
***
*جميل الدويهي – مشروع “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع