صدر عن دار نلسن في بيروت كتاب “الترجمات العربيّة للكتابِ المقدّس وأثرُها في عصر النهضة” للبروفسور أمين ألبرت الرَيحاني. في ما يلي المقدمة ومقطع “الترجمات العربيّة القديمة” من الباب الأول من الكتاب بعنوان ” الترجمات العربيّة القديمة والحديثة”.
المقدّمة
سألني الصديق الدكتور جورج صبرا، رئيس كليّة اللاهوت للشرق الأدنى، أنْ أحاضر في أثر الترجمات العربيّة للكتاب المقدّس ضمن عصر النهضة العربيّة. وجاء الطلب قبل عام كامل من موعد المحاضرة[1]، فقطع عليّ كلّ طريق للاعتذار إذ مهما كنتُ منشغلاً في أمور كتابيّة أخرى فعام واحد يكفي لأدرسَ الموضوع بعد أن أجمع مراجعه وأعالجه من زواياه المختلفة.
ولكن يبقى السؤال: لماذا أنا بالذات، أنا المارونيّ أباً عن جَدّ، لجهة والدي، والمتحدّر من سلالة المطران باسيليوس عبد الأحد البجّاني سعادة، عضو المجمع اللبناني المنعقد عام 1736 في دير اللويزة في كسروان، أم هل لأنّ جَدّي لوالدتي هو القَس سليم فهد شقير من الشويفات، وهو قسّيس الكنيسة البروتستانتيّة في مرجعيون في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وهو من أوائل خرّيجي الكليّة البروتستانتيّة في بيروت، والتي أصبحت لاحقًا معروفة باسم الجامعة الأميركيّة في بيروت. أم ثمّة سببٌ ثالث يعود إلى كوني قد ترجمتُ العهد الجديد في مطلع سبعينيّات القرن الماضي بتكليف من مؤسسة منشورات العالم العربي والتي نشرت ترجمتي في طبعات متتالية بلغ عدد نُسَخِها ما يقارب النصف مليون نسخة، بحيث عرِفَت بالطبعة الشعبيّة ليس فقط لمدى انتشارها بل لكوني اعتمدتُ لغةً عربيّة مبسّطة وحاولت فيها توحيد المصطلحات المذهبيّة قدر المستطاع فلا تُعرف بترجمة بروتستانتيّة أو كاثوليكيّة أو أرثوذكسيّة بل ترجمة مسيحية واحدة تتحدّث عن المسيح الواحد وحياته الواحدة ورسالته الواحدة.[2] أم ثمّة سببٌ رابع يعود إلى كوني قد كتبتُ في مطلع عهدي بالكتابة مقالة مطوّلة عن الأدب الكنسيّ وأثره في عصر النهضة الأدبيّة؟[3]
قد يكون السبب الحقيقيّ في غير هذا أو ذاك من الأسباب فالدكتور صبرا شاء أن يأتي بمحاضرٍ لا ماروني خالص، ولا بروتستانتي صِرف، ولا أورثوذكسيّ المنشأ، رغم أنّ عائلة والدتي شقيريّة أورثوذكسيّة مستقيمةُ الراي لا يُفسِدُها حديث بروتستانتيّ، ولا يُعكر صفوَها كلام مارونيّ، فالكلام عن الترجمة البروتستانتيّة العربيّة والترجمة الكاثوليكيّة وسواها من الترجمات وأثرها في عصر النهضة الأدبيّة إمّا أن يبقى مستقيمَ الراي أو لا يستقيمُ أبدًا.
وعليه، وباسم الموضوعيّة، سأتناول حركة الترجمة العربيّة للعهدين القديم والجديد بشقَّيها البروتستانتي والكاثوليكيّ وأثر هذه الحركة في الفكر العربي الحديث. ومن المعروف بهذا الصدَد أن المعلم بطرس البستاني هو الذي راجع اللُّغةَ العربيّة للترجمة البروتستانتيّة، لكن من غير المعروف أن المعلّم بطرس كان يستشير صديقه وزميله الشيخ ناصيف اليازجي في مراجعة لغة تلك الترجمة وتراكيبها ومصطلحاتها ومفرداتها بحيث تأتي الصيغةُ النهائيّة للترجمة المذكورة على أكمل وجه ممكن. وإذا تذكّرنا أنّ الشيخ إبراهيم اليازجي هو الذي راجع لاحقًا الترجمة العربيّة للنص الكاثوليكيّ فيمكن الاستنتاج أن عائلة اليازجي، مع الأب الشيخ ناصيف والابن الشيخ إبراهيم، هي التي أشرفَتْ على الترجمتَين العربيَّتَين، البروتستانتيّة أوّلًا والكاثوليكيّة لاحقًا، العمَلَين البارزين في حركة الترجمة الأدبيّة في القرن التاسع عشَر.
ورُبّ قارئ يسأل ما الفارق بين اللّغة العربيّة عند كلّ من اللُّغويِّين الثلاثة في ذلك العصر؟ في تقديري أنّ لغةَ الشيخ ناصيف هي لغةٌ كلاسيكيّةٌ متينة تملك ناصية الفصاحة والبيان والعَروض، ولا تقلُّ مكانةً وشأنًا عن لغة كبار العباسيّين من الشعراء والأدباء. وما شرْحه لديوان المتنبّي سوى الدليل القاطع على المكانة الرفيعة للغة الشيخ ناصيف. أمّا المعلم بطرس البستاني فهو رمز الحداثة اللّغويّة عصر ذاك، وما مقالاتُه الافتتاحيّة في الصحف والمجلاتِ التي كان يُصدِرُها آنذاك سوى البرهانِ الساطع على نهج المعلم بطرس في التوازن بين متانة اللّغة وحداثتها المواكبة للعصر. فمن جهةٍ هو صاحب دائرة المعارف الموسوعيّة، وقاموس محيط المحيط، ومن جهة أخرى هو صِحافيُّ العصر، المواكبُ لكلّ تطوّر لغويّ حديث. غير أنّ الشيخ ابراهيم اليازجي فقد عرف كيف تكون الإفادة من القطبين اللّغويَّين: القطبِ اللّغويّ ممثّلًا بوالدِه الشيخ ناصيف، والقطبِ الأدبي ممثّلًا بالبستاني الموسوعي المعلم بطرس. فلا غرابةَ أن يصبحَ الشيخ ابراهيم اليازجي فقيهَ عصره وبلاغيَّ زمانه فتّق في قلب اللّغة مصطلحاتٍ ومفرداتٍ وتراكيبَ تواكبُ العصر وتستنبطُ من معانيه المعاني الحديثة والألفاظ التي تدفعُ باللّغة لاستيعاب العلومِ والآداب المعاصرة. وكتابُه نجعةُ الرائدِ في المترادفِ والمتوارد ليس سوى شهادة للشيخ ابراهيم على طول باعه في شؤون البلاغة العربيّة وقدرتِه على دفعها دفعًا جوهريًّا نحو معالم الحداثة ومضامينها.
نستنتِج، في هذا السياق، أنه لولا الحركةُ اللُّغويّة الناشطة في القرن التاسع عشر لما قامت حركةٌ ناشطة للترجمة الأدبيّة والدينيّة والعلميّة على السواء، ولما شهِدنا حركةً بارزةً لترجمة الكتاب المقدّس بنصَّيه البروتستانتيّ والكاثوليكيّ، وتأثيرَ كلِّ ذلك على النهضة الأدبيّة العربيّة عصر ذاك.
لكن تلك النهضة لم تقتصر على المنحى اللغوي، على أهميّته، لكنها تجاوزته إلى المنحى الشعري والأدبي والفكري الفلسفي، الذي برزت معالمه في الأدب العربي الحديث خلال القرن العشرين، وخاصّةً عبر الأدب المهجري في النصف الأوّل من القرن الماضي، وعبر الحركة الشعرية الحديثة التي انطلقت في لبنان والعالم العربي مع النصف الثاني من ذلك القرن، وتحديدًا مع خمسينيات وستينيّات القرن المذكور.
وستضم هذه الفصول، بعد الوقوف على الترجمات الحديثة التسع منذ القرن السادس عشر وحتى القرن التاسع عشر، وبعد الوقوف على فضائل تلك الترجمات وعلى عيوبها، ثمّ بعض المقارنات اللغوية بين الترجمتين البروتستنتية والكاثوليكية، ستضمّ نصوصًا وأمثلةً على الأثر الفكريّ والأدبيّ لتلك الترجمتَين من خلال استشهادات محدّدة لكبار أدباء العصر، وشعرائه، ومُفَكِّريه.
***
الترجمات العربيّة القديمة
قبل الولوج في صلب الموضوع أود أن أتوقّف قليلًا عند الترجمات العربيّة القديمة، أي تلك التي تمّت قبل القرن السادس عشر، فهي عديدة ومبعثرة ولم يصل إلينا منها سوى النَّزْرِ اليسير. أشير إلى أربعة ترجمات بما توفّر لدي من معلومات ضئيلة حول كلّ منها:
- ترجمة قديمة منذ العصر العبّاسيّ، وصل منها فِقرةٌ من العهد الجديد أوردها ابنُ عبدِ ربِّهِ في كتاب العِقْدِ الفريد، الجُزءِ الثاني، ضمن كتاب “الزمرّدة في المواعظ والزهد”، وقد أُخِذَت عن ابنِ قُتَيبة في “عيون الأخبار. ولا يذكرُ أحدٌ منهما صاحبَ الترجمة أو الكتابَ الذي أُخِذَ عنه هذا النص. لكنّه نصٌّ طريف يستشهدُ بأقوال المسيح بأسلوب قرآني ونَفَس إسلاميّ لا غبارَ عليه: وهذا نموذج مختصَرٌ من تلك الترجمة:
قال عيسى بنُ مريم عليه السلام… للحواريّين: ويلُكُم يا عبيدَ الدنيا، كيفَ تُخالِفُ فروعُكُم أصولَكم، وأهواؤكُم عقولَكم، قَولُكُم شِفاءٌ يُبرئُ الداء، وفِعلُكم داءٌ لا يَقبلُ الدواء؛ لستُم كالكرمةِ التي حَسُنَ ورَقُها، وطابَ ثمَرُها، وسَهُلَ مُرتقاها، ولكنّكم كالثمَرَةِ التي قلّ ورَقُها، وكَثُرَ شَوكُها، وصعُبَ مُرتقاها…”[4]
يصعب تحديد النص الموازي لهذه الترجمة في العهد الجديد، لكنّ “روحَ الله”، وهو المصطلح الإسلامي لمخاطبة عيسى المسيح، يبرزُ ليأخذَ بنا إلى مُناخات الموعِظة على الجبل وتشبيه الكرمة بيسوع (أنا الكرمة وأنتم الأغصان/ يوحنّا 15). ويبدو أن هذه الترجمة اللافتة لا نعرِفُ عنها الكثير ولا عن مصير الترجمة الكاملة بهذا القلم البليغ والمأخوذ بروح العهد الجديد، روحِ الله. واللافت في مسألة هذه الترجمة القديمة البليغة أن العرب في العصر العبّاسيّ، على عكس ما يظنّ الباحثون، قد اهتموا اهتمامًا جديًّا بالتوسّع في سورة مريم ومعرفة أخبار عيسى ابنِها وتعاليمِه بدليل هذا النص المقتضب الذي يشير إلى حقيقة استيعاب المترجم العربي العباسي لروحِ الله ولسيرته ولرسالته الإلهيّة. وأغلب الظن أن هذه الترجمة المميّزة قد ضاعت، وربما احترقت مع احتراق مكتبة بغداد في نهاية العصر العبّاسيّ.
- ترجمة التوراة إلى اللغة العربيّة في زمن المأمون على يدِ أحمد بن عبدِ الله بن سلّام، وَفقَ ما ذكره جرجي زيدان في كتابه تاريخ آداب اللُّغة العربيّة[5].
- نُسخة عربيّة للعهد القديم كانت موجودة في طرابلس، لبنان، وهي مأخوذة عن نُسخة دمشق عام 1238، والتي بدورها نُسِخَت عن نسخة أنطاكية عام 1021.
- من الترجمات العربيّة القديمة ما يعودُ إلى ترجمة سعيد بن يعقوب الفيّومي لكُتُبِ موسى الخمسة، وسِفرَي أشعيا وأيّوب من الأصل العبراني. وقد طُبِعَت ترجمتُه عام 1546 بالأحرف العبرانيّة والسياق اللغويّ العربيّ. وعُرِفَت تلك الطبعة باسم تِتراغلوت[6].
يلاحظ القارىء أن معظم الترجمات القديمة للكتاب المقدس التي وصلَت إلينا هي ترجمات لمختارات من التوراة، أو العهد القديم. فواحدة من أصل أربع ترجمات هي لمختارات من العهد الجديد، مقابل ثلاث ترجمات لمختارات من العهد القديم. فكيف نفَسِّر ذلك؟
نشير أوّلًا إلى أنه يصعب الحكم القاطع لأنّ ما وصل ألينا من الترجمات القديمة للكتاب المقدس هو قليل جدًا، فأي حكم يتناول تلك الترجمات لا يمكن أن يكون حكمًا مبرمًا ونهائيًّا. فنحن لا ندري ما إذا كانت نسبة هذه الترجمات القليلة تشكِّلُ نسبةً عالية من النصوص المترجمة للكتاب المقدّس، أم نسبة ضئيلة لنتمكن من الوصول إلى حكم دقيق وموضوعيّ. نحن لا ندري ما إذا كانت هذه الترجمات القديمة للكتاب المقدّس تشكّل ثمانين أو تسعين بالمئة من مجموع الترجمات التي تمَّتْ قبل القرن السادس عشر، أم أنها تُشَكِّلُ ثلاثين أو أربعين بالمئة من تلك الترجمات القديمة. ولكن ما نفترضه أن العديد من تلك الترجمات القديمة لم تصل إلينا لأسباب مختلفة كالحروب وإتلاف المكتبات وقلّة الاهتمام بالكتاب المقدّس لأسباب دينيّة وثقافيّة واجتماعية مختلفة.
وبناءً على هذه القلّة القليلة التي بين أيدينا تستوقفنا ملاحظتان: الأولى أن نسبة الترجمات التي حصلت لمختارات من العهد القديم، هي أضعاف نسبة الترجمات التي تمّت لمختارات من العهد الجديد. والملاحظة الثانية أن الترجمات التي وصلتنا، في الحالين، قد حرصت كل الحرص على أن تأتي تلك الترجمات بلغة عربيّة بليغة، لا تشوبها شائبة، فتظن وكأنك تقرأ لغة الإنجيل بنَفَس قرآنيّ، أو نَفَس الإنجيل بلغة قرآنيّة.
أمّا سببُ الاهتمام بالعهد القديم أكثر من الاهتمام بالعهد الجديد في الترجمات العربيّة القديمة للكتاب المقدّس فمرد ذلك، عندي، أن العرب المسلمين قد اهتموا بأقوال المسيح، كالموعظة على الجبل، أكثر من اهتمامهم بسيرة المسيح. فالمسيح عندهم صاحب رسالة نبويّة قبل أن يكون صاحب لاهوت وناسوت، وصاحب قيامة من الموت…
المفكرون العرب نظروا إلى المسيح بمنظار قرآنيّ عميق، وما أرادوا الدخول في جدليّات، لاهوتيّة أو فقهيّة أو فلسفيّة، حول المسيح الإله. لذا أخذوا من المسيح وجهه الرسولي النبوي فكتبوا وترجموا، وما أرادوا الأخذ بوجه المسيح اللاهوتي، الوجه النابع من الثالوث ليكتفوا، بل يستريحوا برسولية يسوع، وبنُبُوّته ورسالته إلى العالم. لقد تمكن الكتّاب والمترجمون للكتاب المقدّس أن يهمسوا في آذاننا أن هذا الوجه للمسيح هو الوجه الروحاني الإنساني الخالد من دون التوصل إلى أسرار اللاهوت المسيحي ومندرجاته الفلسفيّة. وباختصار فإن الكُتّاب والمترجمين المسلمين للكتاب المقدس، وخاصة للعهد الجديد، ما أرادوا الخوض في صميم أو حقيقة المعتقدات الدينيّة المسيحيّة بقدر ما أرادوا جلاء وجه المسيح الرسولي، ووجهه الإنساني، ووجهه النبويّ، ووجهه الروحي وربما وجهه الفلسفي، الذي بلغ به قمّة الجبل فألقى موعظته الخالدة وتركها ذخيرة، أو أيقونة، فكريّة وإنسانية بيننا.
***
[1] محاضرة أُلقِيَت في الجامعة الأميركيّة في بيروت، قاعة البستاني، مبنى فانديك، الاثنين 2 تشرين الثاني 2015، وذلك ضمن فعاليّات المؤتمر العالمي بمناسبة اليوبيل المئة والخمسين لصدور الترجمة العربيّة للكتاب المقدّس (ترجمة البستاني – فانديك)، 1- 3 تشرين الثاني 2015. وقد أعاد المؤلف مراجعتها وتوسيعها كي تصدر في كتاب مستقل.
[2] انصرف أمين ألبرت الرَيحاني إلى ترجمة العهد الجديد إلى العربيّة بين 1973 و1975. ثم توالت على مراجعتها لجنة لاهوتية وأخرى لغوية. وكانت الطبعة الأولى لهذه الترجمة عام 1982، وتعددت طبعاتها في النصف الأول من ثمانينات القرن العشرين في بيروت والقاهرة وبومباي، الهند.
[3] راجع الرَيحاني، أمين ألبرت، كتاب مدار الكلمة، فصل “أثر الأدب الكنسي في النهضة”، دار الكتاب اللبناني، بيروت، دار الكتاب المصري، القاهرة، 1980، ص 109-123.
[4] مجلّة المسرّة، بيروت، 1976، رقم 8، ص46.
[5] زيدان، جرجي، تاريخ آداب اللُّغة العربيّة، مطبعة الهلال، القاهرة، 1912، الجُزءُ الثاني، ص 155-156.
[6] الأب لويس شَيخو، فهرس المخطوطات العربيّة، جامعة القديس يوسف، المطبعة الكاثوليكيّة، بيروت، 1925، ص 158، 164، 171؛ =
= Cheikho, Louis, Catalogue des Manuscrits de l’Université St. Joseph, Imprimerie Catholique, Beyrouth, 1925, pp. 158, 164, 171.