سليمان بختي
يستضيء الرئيس (القاضي) الاديب غالب غانم بسيرته الذاتية لترسيخ قيمه الوطنية والاجتماعية والثقافية والابداعية التي نشأ وترعرع عليها.
في كتابه ” أيّام الصَّفاء والضَّوضاء” (الصادر عن دار سائر المشرق في 496 صفحة مع صور) والاهداء الى روح والديّ عبدالله ويمامة والى زوجتي حنان الى ولديّ وسيم وزياد، يمزج غانم عقل القاضي وقلب الاديب وتاريخ المكان في سيرة باهرة تنطلق من بسكنتا وجيرة صنين الى كل لبنان متدفقة مثل نهر بسكنتا الذي نسمع اصداءه في مدرسة الوالد والمدرسة الثانية ( كل الاشقاء تاثروا بالمعلم والشاعر والوالد عبدالله والابرز بينهم الشاعر جورج والاديب روبير وكاتب السيرة غالب) وفي الجامعة وقصر العدل والشأن العام.
ولكن ما يميز السيرة ليس فقط تعلقها بشجرة الحياة وخزائن الذكرى ولكن في الصدق الذي يلف ارجاءها. نضارة الروح ونضارة الحرف كلما سمح المقام وتيسر النطق وطاب البوح.
ولا يكتفي غالب غانم بالقصص والذكريات التي تتدفق على رسلها بل هناك التضمين الذي يغني المعطيات ويراكم الطبقات من الواقع الى التاريخ قديمه وجديده. وهناك ابيات الشعر والاستشهادات والعبارات السائرة وحوداث المواجهات تحت القوس وتحت قبة الحياة والكلمة.ومن المنزل الوالدي الغارق في بياض الثلج شتاء وفي بياض الشمس صيفا، ومن كنف العائلة الظليلة وسنديانتها الشاعر الوالد عبدالله غانم.
وما يميز العائلة هو الحب، الالفة، القيم والثقافة. هو تلك الايام التي تظل تضيء حتى اخر العمر. ومن صدى هذا الحب يكتب غالب غانم:” واليدان غمامتان / اما الذين نحبهم / فاذا مضوا/ فقد مضيت ببعض شوقك للحياة”. مدركا ان الذي يتر ك اثرا على لوح الزمان يعيش في القصيدة ويحيا طويلا. يروي غالب غانم تفاصيل مذهلة آسرة من قلب ذاكرة نضرة تفيض بالتفاصيل والدقائق واللطائف المتعلقة بالدوحة الغانمية. وكيف ذلك ” عندما تهبط الى المدينة من مثل هذا الارتفاع (الف ومايتا متر وصاعدا) على محدثك ان يحاورك بالحسنى والا احتدم الجدل ووصل الى ما لا تحمد عقباه”.
ويشق طريقه من صعوبة الى صعوبة متخطيا العوائق نحو النجاح ومتسلحا بالقيم التي انزرعت في قلبه وروحه والعناد الذي ورثه من ثقافة الاعالي والجبال وصار يؤخذ له ويؤخذ عليه، ولم يتراجع ابدا. من معاندة الناظر وصولا الى الاعلى فالاعلى. وكل ذلك باسلوب مشرق اخاذ هو سليل المدرسة اللبنانية الجمالية في فن النثر العربي.
وتمضي السيرة الى استعادة الحياة نفسها واعادة تقييم المواقف والاحداث عن قرب وعن بعد. والتأرجح بين الذاكرة والحاضر ثمة لحظات الحب الخفقات الاولى والنضال الطلابي في المدرسة والجامعة والعمل المضني في التعليم وفي القانون والقضاء وصولا الى تبوئه رئاسة مجلس القضاء الاعلى.
وغالب غانم رجل مكاني يغني بسكنتاه فيقول ” خذيني الى حضنك الرؤوم كلما استفحلت الخطوب..” مثلما يتوقف متأملا امام قصة والديه عبدالله ويمامة ام العائلة واب العائلة الذي عينه لم تكن على زمنه فقط بل تخطته الى ازمان.
وهو يتذكر الحوار الجميل الذي دار بين ميخائيل نعيمه وعبدالله غانم ويسجله قال نعيمه:” اخبرني اخي نجيب انك ابتعت بقرة جميلة فكيف حالها”. اني احب البقر كثيرا. احب ان اصابحها واماسيها واطعمها واسقيها”. فرد الوالد:” انت تطعمها لتأكل منها وهي تطعمك لتأكل منك”.
يتذكر الشيخ عبدالله العلايلي يتناول كيس الورق الاسمر المستعمل في الحوانيت لتدبيج خطبة رائعة في مهرجان ميخائيل نعيمه او حتى الكتابة على سند الايجار ولا يعدم وسيلة لتدوين افكاره.
يتحدث غالب غانم عن حبين اصابا قلبه حبه للكتاب وحبه لبيروت واذا انت في “كنف النضارة ورخاء الحضارة وناسجة الاحلام”.
يقارب غالب غانم الهوية بما اسماه لبنان الاب والجد العرب. وان المسيحيين واجهوا وحشيته التتريك بكونهم طلائع العروبة وفي اواسط هذا القرن واجهوا وحشية التعريب وشكلوا طلائع اللبننة.
وعلى مدى محطات حياته القضائية والادارية الجامعية والتأليفية والادبية والخطابية يتوق غالب غانم الى النهضة باعتبارها اعمق من الطفرات وكدس الشهادات.
ويكابد غالب العذابات التي تكبدها للوصول وللاستمرار وللطموح. التعب والجهد الصادق ليتخطى معوقات الطائفية والفساد والبيروقراطية والمزاجية.
ويروي ذكرياته ولحظاته مع الرؤساء حلو وسركيس وبشير الجميل وامين الجميل والياس الهرواي واميل لحود وميشال سليمان ونبيه بري ورفيق الحريري وميقاتي وميشال المر.
يروي كمن يستعيد اللحظة في كلمات مطبوعة فلا يطويها النسيان.
ولكن غالب غانم في اتجاهه الاخير هو مع الناس ولو اداروا الطرف، ومع المبدأ الذي يزحزح الجبال، ومع الالفة التي تصنع الحياة، ومع العقل وفتوحاته، ومع الوفاء ، وان يكون متواضعا وصلبا وحرا ومستقلا وهمه البذل وشفاء غليل الشعب.
ولا ينسى غانم في الجزء الاخير من كتابه علاقته الاثيرة مع الكلمة والكتابة والاوراق والرسائل والمنابر والخطب والمحاضرات والندوات.
ويبقى الادب “جوادي الاخر” على ما يقول وهناك القلم واهله. القلم الذي يبحث عن كل حق وخير وجمال، واهل القلم من رواد ورموز واساتذه وتلاميذ.د: بطرس البستاني وحبيب عبد الساتر و ميخائيل نعيمه والاخطل الصغير وبولس سلامة وانطون غطاس كرم وجبور عبد النور وعبدالله لحود وادمون رزق وسعيد عقل والمطران جورج خضر ويوسف الخال وميشال طراد والفيتوري وجورج شحاده وانسي الحاج وادونيس وشوقي ابي شقرا وسليم وجوزف باسيلا وجميل جبر واحمد سويد وجوزف حرب ونجاح العطار ومحمد البعلبكي وجورج جرداق ومحمد علي موسى وجورج شكور وسليمان كتاني ورشيد درباس ومي المر واميلي نصرالله وفؤاد الترك ورياض فاخوري وجورج غريب وسمير عطاالله ودياب يونس وهنري زغيب وجورج شامي وميشال جحا والهام كلاب البساط وحبيب صادق.
وهو اليوم يعيش في الحلم الذي تحقق في مركز عبدالله غانم الثقافي الذي يخلد الشاعر ويخدم منطقة ويشهد لكبارنا.
يلتفت غالب غانم الى الماضي من نافذة المنزل او حديقة الضيف فلا يخاف من ماضيه ولا يخجل منه بل يفتخر بنقاء ضمير ويتساءل:” ما السلطة امام نقاوة الضمير! ما القوة امام عين الحق! وما المال امام شمخة الرأس”. يصنع غالب غانم يومه بيده ولا يتقدم العمر لينال من كرم الحياة او محبة الناس مرددا ” كان لي امسي، ولكن لي يومي، ولي غدي، كل دقيقة تمنحنيها يا رب ستكون مقدسة، وذات غلال وامال”. ويضيف ما يقوله لولديه وسيم وزياد:”هاتان هما يداي، وهذه هي غلالي. لا شيء اخفيه، ولا شيء يدعوكما الى الخجل”. غالب غانم احد الزارعين الكبار الذي لا ينتظر موسم الحصاد. واحد الشهود الكبار الذي يعزز في نطاقنا صورة الامل. ويمضي في هذا التصعيد العاطفي الدرامي الانساني في الاوراق الاخيرة من الكتاب التي تجعله يختم في مناجاة الى الرب:” اقبلها يارب، اقبلها. هذه هي ايامي…”.
وبعد، هذه الايام التي تداولها غالب غانم بينه وبين الناس وبين المبادئ والكلمة جعلته يستحق العمر يتنزل عليه كالوسام ناصعا من النصاعة، وثريا من غنى التجارب، وعميقا من عمق الحب الذي يولد كل المعجزات.