تستوقف، في رسالة بودلير إلى صديقه أرسين أوساي (في العام 1862)، النبرة “الخفيفة”، التي يُقدِّم له بها كتابه الشعري الجدبد : “قصائد قصيرة بالنثر، أو سويداء باريس” (1869). يتحدث، منذ الجملة الأولى في رسالته، عن “قِصَر” القصائد، وعن “صغر” الكتاب في حجمه الطباعي. لكن كلام بودلير مضلل عمدًا، على ما تحققتُ : ليست القصائد كلها قصيرة، وإنما بعضُها طويل. كما أن الكتاب نفسه ليس بصغير الحجم أبدًا، لو قورن بكتب بودلير الشعرية، أو بكتب ذلك العهد.
يوجه القارئَ بطريقة لا تناسب “المقدمات” عادة، إذ لا يقودنا صوب دروب القصائد، وإنما يقوم بما يمكن تسميته بالدعاية السلبية تمريرًا لفِعْلته الشعرية، التي تخالف السائد الشعري، بما فيه شعر بودلير نفسه.
يكتب، في هذه الرسالة، كما لو أنه يعتذر، أو يتحايل بالأحرى، ما دام أنه يتحدث عن كتابه على أن لا خطةَ بناءٍ له : كتابٌ مقلوب، لا يُعرف “رأسه من ذيله”، كما تقول العبارة العربية كما الفرنسية، الواردة في الرسالة؛ لكن الأمر لا يضير بودلير إذ يعتبر أن الذيل هو بمثابة الرأس، والعكس صحيح. يستعذب بودلير هذا القلْب، بل يطلبُه، ما دام أنه يجلب، بجمعِه هذا، “صيغًا مدهشة” للجميع، بمن فيهم صديق الشاعر، والشاعر، والقارئ. من هذه الصيغ، أن في إمكان الشاعر إيقافَ أحلامِ اليقظة، والصديقَ عن متابعة المخطوط الشعري، والقارئَ عن فعل القراءة، متى شاؤوا، إذ كلُّ قصيدةٍ قائمةٌ بنفسها، أو “كيانٌ”، حسبما أحب أن أقول.
هذه الرسالة لم تكن معدَّة للنشر، ولا لأن تكون “مقدمة” هذا الكتاب، وإنما أُضيفت إلى الكتاب عند نشره إثر وفاة الشاعر، بعد أن كان بودلير قد أرسلها قبل سنوات عند الابتداء بنشر نصوصه الأولى هذه عند أوساي نفسه؛ كما باتت الرسالة أكثر من ذلك : أول بيان تعريفي بالقصيدة بالنثر. فما فيها ؟
يؤرخ بودلير بنفسه لكتابته، بل يدلُّنا على واعزِ كتابته في صيغة “اعتراف”، حسب لفظه : خطرتْ على باله هذه القصائد أثناء تصفُّحِه، ربما للمرة العشرين، لكتاب آلويسيوس برتران (aloysius bertrand) الشعري : “غسبار الليل”. وقد طلبَ، واقعًا، إنشاءَ “مثيلٍ” للكتاب السابق، ما عنى في حساب بودلير : “وصف الحياة الحديثة، أو بالأحرى (وصف) حياةٍ حديثةٍ، وأكثرَ تجريدية”، وفقَ ما قام به برتران في زمنه، وهو “تصوير الحياة القديمة”.
ما يستوقف في كلامه -وهو ما لا يلتفتْ إليه كثيرون من دارسيه ودارسي هذه القصيدة- أكثر من مسألة:
- تشديدُه على الحياة الحديثة بالإطلاق، أو على حياةٍ حديثةٍ بعينها؛
-
طلبُه الوصف سبيلًا في بناء القصيدة؛
-
إقدامُه على وصفِ طريقةِ برتران في كتابة شعره بـ”الصنيع”، أي كونه وسيلة بنائية تامة للقصيدة.
هذه التأكيدات تلتقي لتلبي، عند بودلير، شروطَ “مثالٍ” مستحوِذ على عقول شعراء كثيرين، وهو ما حلموا به : “أعجوبة (بناء) نثرٍ شعري، موسيقيٍّ من دون إيقاعٍ أو قافية، مرنٍ للغاية، وصادمٍ للغاية، لكي ينسجم مع الحركات الغنائية للنفس، وتموجات الأحلام اليقِظة، وانبثاقاتِ الوعي”. هذا ما ينبثق من العيش، من مراودة الحياة في المدن الكبيرة، تبعًا لعلاقاتها المتعددة، ولا سيما في “أيام الطموح” التي يشهدُها بودلير.
هذا التطلع يحسبه بودلير في عداد “الحسد”، لكنه لم يجلب له السعادة المرجوة، أي القدرة على الإتيان بشبيهٍ شعري لما أنجزَه برتران. ذلك أن ما كتبَه بودلير، في نهاية المطاف، لم يشبه صنيعَ سابقه، وإنما أتى مختلفًا عنه، وفق لفظه. لا يقول هذا من باب التباهي، وإنما من باب الفشل، إذ إن ما طمحَ إليه كان صنعَ قصيدة موافقة تمامًا لصنيع برتران. أفي إمكاني قبول أسفِه الأخير، أم أن عليَّ اعتباره من التواضع أو من التداري المسبق مما قد يُحدثه كتابه الجدبد بعد “فضيحة” كتابه السابق : “أزهار الشر” ؟