مسافات: رغم الواقع المكسور يبقى الحلم

 

 

   منيرة مصباح

 

انطلاقا من نظرية “كلايف” حول الفن بانه فوق الاخلاق، تحتم علينا ان نقول ان كل فن اخلاقي، فالاعمال الفنية هي وسيلة مباشرة للخير والجمال. وبمجرد ان نحكم على شيء بانه عمل فني، نكون قد حكمنا عليه بانه ذو اهمية قصوى من الناحية الاخلاقية، وبالتالي وضعناه قريبا في متناول الانسان.

واذا جاء الفن بالخير الذي يعلو الى حالة من النشوة الفكرية والجمالية يكون بذلك قد ابتعد عن الدعاوي التي لا تستطيع التمييز بين ماهو فن وما هو اسفاف.

من هذا المنطلق ابدا بالكتابة عن اعمال المخرج الفلسطيني سعود مهنا بعد ان شاهدت مجموعة افلامه الروائية القصيرة والوثائقية التسجيلية.

ورغم ان سعود مرتبط كلية بالسينما التسجيلية وملتصق بمحلية الانسان الفلسطيني، الا انه من خلال هذا الفن يمتلك تطلعات تجعله في بحث دائب عن كل ما هو فني وبالتالي اخلاقي، واقصد بالاخلاق الفضائل الكبرى كالحرية والعدالة بمفهومهما المطلق والذي يسقطه سعود على شخصيات افلامه المتمثلة بما يحيطه من الناس.

والتصاقه هذا يسافر به باتجاهات عديدة في المكان والزمان لنراه يتقاطع مع الذاكرة الزمنية والمكانية عبر التاريخ الماضي والحاضر والمستقبل وعبر فلسطين الماضي والحاضر والمستقبل وعبر الانسان باحلامه وآماله وطموحاته التي تتقاطع مع فرحه وحزنه ومآسيه.

ان الصدق في الفن هو وفاء الفنان لرسالته بوصفها ذلك النشاط الابداعي الذي لا يبدا الا حيث تنتهي الحرفة. والفن في جوهره هو فلسفة فعل بمعنى انه نشاط يشارك فيه المشاهد فيشعر بالغبطة او نشوة الانتصار على النفس وعلى المحيط وعلى المفروض، كما جاء في فيلم البداية حلم، وفيلم رغم الحصار وكثير غيره.

واذا كان الفن البصري هو الاكثر قوة من بين كل الفنون في التأثير على انسان هذا العصر فان الفلم الجيد يضعنا في خانة البشر الافضل.

لكن الفن السينمائي ايضا هو النافذة المفتوحة التي تجعل الانسان يدخل عقل الفنان ليس فقط من اجل كشف الشخصيات التي يبني من خلالها افكاره، انما ايضا من اجل معرفة كيفية رؤية الاخر، أي رؤية الفنان، لهذا العالم.

هكذا الفن عند الفنان هو مهمة لا يمكن ان تنتهي ففي توقفه انكار لذاته، لذلك فهو يقاوم كل حنين، ويعاود البحث ليبقيه مفتوحا على مصراعيه في بحث دائب عن الحقيقة الفنية الكامنة فيه.

ينطلق مهنا في افلامه من تصوير معاناة الشعب الفلسطيني داخل قطاع غزة ومخيمات الضفة الغربية، تلك المعاناة الاجتماعية والانسانية التي تستنطق الواقع بصمت وسخرية مريرة، الصمت الذي في فيلم ” البداية حلم” والغناء الملحمي في فيلم عائد الى جنين. هكذا يتقاطع الحلم مع الواقع عند المخرج الذي يرصد تفاصيل الحلم والرغبة، وتفاصيل البيئة والمعاش عبر مسار الماضي والحاضر والتطلع الى المستقبل.

اما في مشروعه الذي أطلق عليه اسم (الذاكرة الفلسطينية) والذي بدأ العمل فيه عام 1995، فيتناول تسجيل ذاكرة المدن والقرى الفلسطينية التي احتلت عام 1948 بقوة، لكن هذه المدن والقرى بقيت في ذاكرة شيوخها وعجائزها وفي ذاكرة اطفالها، حيث يقوم المخرج بتسجيل ذاكرتهم الغنية بالتفاصيل الانسانية المتعلقة بالمكان والزمان وبالسنتهم التي تتحدث عن التاريخ والسياسة والمجتمع. كل ذلك ليبقى هذا شاهدا على الحق وعلى العودة. ومنذ 7 سنوات يقوم بادارة مهرجان “العودة”، وهنا ساتناول فيلم “البداية حلم”.

في هذا الفيلم يختصر المخرج الكلام بالصورة التي تعبر عن الظاهر بعمق يجعل لكل التفاصيل البصرية دلالاتها ورموزها الخاصة التي تغوص في المشهد والحالة الانسانية المشبعة بالحزن والحب والالم والامل. انه حلم طفل يمثل احلام شعب كما يمثل احلام المخرج نفسه، ذلك الحلم الذي ينبع من معاناة واقع معاش لشعب مازال يحلم بالتحرير وبالغد الافضل.

انه الصمت المعبر أكثر من فيضان الكلمات، حيث استطاع المخرج ان يخترق ببطل فيلمه الذي لم يتجاوز 8 سنوات، كل لغات العالم ليصل الى اخلاقيات البشر في كل مكان، تلك المتمحورة حول الحرية والعدالة والحق.

لقد كان الطفل الممثل مدهشا في حركته امام الكاميرا، فعكس جمال وروعة وسر هذا الفيلم، الذي جاء مدخلا لسينما فلسطينية جديدة.

جمالية التشكيل   

اعتمد المخرج في هذا الفلم الى اقصى حد على الامكانات التشكيلية والجمالية لفنه السينمائي، موغلا قدر الامكان في الرمز والايحاء ولعبة الزمان والمكان اللذين يدخل فيهما الماضي على الحاضر، حيث يمضي بالاحاسيس والحالا ت الانسانية الى حيز الفن الرفيع المترامي الابعاد، والذي من خلاله يحاول ان يجد المعادل البصري الذي يساعده في ان يكون صادقا في التعبير عن هاجسه، وعن وجع الانسان الذي يعيش على الارض.

ويبقى الهمّ المتمثل في فكرة الحرية والعدالة الاجتماعية هي المنطلقات الفكرية التي يعتمد عليها المخرج في استنطاق الواقع لنسج مادة فلمه الاولى، كما يبدو التضاد الحاد بين ما هو مشتهى وراسخ في القلب والوجدان وبين ما هو واقع جاثم، هما المحرك الاساسي لكاميرته المرهفة التي تدور متنقلة مابين شاطئ البحر وقفص العصفور وحقل القصب. انها رحلة الطفل اليومية، الذي يعيش مع جدته، بين الامكنة الثلاثة حيث يواجه من خلالها الاسلاك والحواجز لكنه لا ينفك ينظر الى الافق الموصول بالبحر كانه يحلم برؤية العالم من خلفه، دون ان ينسى التطلع الى العصفور في القفص، كروحه الحبيسة، لكن عقله يفكر بكيفية التحرر الروحي والجسدي، وفجاة تبرق في عينيه فكرة، فنراه ذاهبا الى حقول القصب يخترقها ويبدا بقطع قصبة. نراقب الطفل بصمت وهو يصنع طائرة ورقية تمثل الوان علم فلسطين، وما ان ينتهي منها حتى نرى طرف خيطها في يده يركض بها على شاطئ البحر بسعادة وفرح وهي تحلق في سماء فلسطين، كأنه يمسك بحريته المحاصرة ما بين البحر وحدود بيته. بالطبع يرافق هذا عملية تحرير العصفور من القفص ليطير في فضائه على يد هذا الطفل الذي هو المستقبل.

الفيلم يحمل الكثير من الواقعية والعزلة التي يعيشها اطفال فلسطين. انه عن المكان والزمان والثقافة، كما انه يتصل مباشرة بمشاعرنا وبعمق شعورنا الانساني.

ان التداعي الحر للافكار والذكريات والرغائب من خلال المشاهد الصامتة، يقابله دوما الحصار، حيث يتقاطع هذان المساران في نقطة تكشف حقيقة الوجود وحقيقة الزمان بأبعاده الماضية والحاضرة والمستقبلية.

لقد شكل المخرج هذا الفيلم بواقعية تكوينية ممزوجة بالحلم، وفي محاولة جمالية حارة، بمعنى تقاطع الازمنة في نقطة واحدة هي البحث عن الجمال في كل المرئيات والبحث عن مركز لهذا الجمال تتوالد منه الاحداث واليه تعود، وفيه تندمج الازمنة. انها فلسطين الغائبة في الصمت، لكنها قائمة في المنظور لتكون المركز والمرآة التي يتحد فيها وجود الجدة والعصفور في القفص والكهل الجالس قرب السور والطفل الذي يمثل الحاضر والمستقبل حيث يبدا منه فيض الامل.

ففلسطين التي نذهب اليها بالمعنى عبر مشهدية كثيفة الترميز، تؤسسها اشراقات الذات لحظة التجلي عند المخرج، حيث يصبح الواقع اسطورة تدمج الارضي بالخيالي عبر مشاهد تروي افكاره واحلامه، وتروي عن ذلك الطائر الوديع الذي سقط في القفص، ولم يجد في النهاية سوى يد الطفل التي تفتح له الباب لينطلق محلقا في الفضاء الشاسع كما طائرة الورق.

الموسيقى

الموسيقى التصويرية لفيلم “البداية حلم” جاءت لتكمل هذا العمل الفني ولتدعم الحركة والصورة فيه، فالمشهد عادة يعطينا الحق في التحرك ضمن حدوده فقط لقراءته فنيا، بينما الموسيقى هي الفن الوحيد الذي يجعلنا ننطلق بافكارنا ومخيلتنا دون حدود وقد وعى المخرج هذا المجال الواسع للموسيقى كونه هو ايضا ملحن موسيقي، مما جعله يوظف الموسيقى بحساسية عالية مع حركة الكاميرا وراء المشاهد.

وقد ذكرني فيلم البداية حلم بأحد الافلام للمخرج الامريكي العالمي فرنسيس فورد كوبولا حيث تناول فيه أثر الحرب العالمية الثانية المرعبة على الانسان.

كما ان الموسيقى وطريقة دمجها مع المشاهد لدى سعود مهنا، اعادتني الى مقطوعة   “the flight of the walkyries”(طيران الوالكيريا)  للموسيقار الالماني الشهير “ريتشارد فاغنر”، مع الفوارق في الامكانيات التقنية والسينمائية والانتاجية بين الاثنين طبعا، والتي استعملها فرانسيس فورد كوبولا بشكل رائع في افلامه عن فيتنام.

سعود مهنا موسيقي ومخرج فلسطيني يؤمن بان الفن بكل تجلياته هو محاولة البحث الدائم لما يستطيع تقديمه للانسان عبر الكاميرا او الكلمة او النغمة الموسيقية، وكل ما يهدف الى تمرين الفكر والوجدان البشري على الفهم الصحيح لهذا العالم الممتلئ بالآلام البشرية وبالحروب المدمرة للجسد والروح معا، انها القيمة التي يحملها العمل الفني امام الانسان الذي من اجله تم انتاجه.

حصل المخرج سعود مهنا على العديد من الجوائز عن أفلامه الوثائقية.

حاصل على بكلوريوس في الإخراج السينمائي

مؤسس جمعية المخرجين الفلسطينيين

مؤسس مهرجان العودة السينمائي الذي يقام سنويا

 

اترك رد