جميل الدويهي: بيت الهدهد (قصّة قصيرة)

 

كان يُسمع في قرية “بيت الهدهد”، على مدار الأيّام، نوع من الكلام البسيط الذي لا يتجاوز المعرفة السطحيّة لأناس لم يبلغوا من العلم سوى القليل. ففي الصباحات، كان الفضاء يمتلئ بأحاديث الزرع والضرع والقطاف، وفي المساءات كان أهل القرية يتسامرون في المواضيع نفسها، وقلّما يتطرّقون إلى أمور أخرى لا ترتبط بحياتهم الزراعيّة.

لكنّ تلك الليلة، كانت مختلفة، فقد أخبرت أمّ مسعود “أنّ فارس الرشواني، سيعود من نيويورك، بعد أن أكمل علومه في “الفلفَسة”، وأصبح أستاذاً كبيراً، وسيعمل في الجامعة” – كما سمعتْ من والدته أمّ فارس عند نزلة الطاحون…

وانتفض أحد الساهرين مصحّحاً لأمّ مسعود: “حسب علمي أنّ فارس الرشواني سافر إلى أستراليا”… فوضعت المرأة يديها على خاصرتيها، مستنكرة هذا الادّعاء بالفهم عند الرجل: “ولو يا جبّور، هكذا تريد أن تحتقرني أمام الجمع؟!… ما الفرق بين أستراليا ونيويورك؟ هما مدينة واحدة”…

وانكفأ الرجل، ليس رغبة في السكوت، بل لاعتقاده أنّ المرأة على حقّ، فهو لم يفتح كتاباً في حياته، ليعرف إذا كانت نيويورك وأستراليا مدينة واحدة أم لا.

ويعود فارس الرشواني، بقيافة مختلفة عن قيافة الناس العاديّين: بذلة من الجوخ الأسود، وربطة عنق، وتسريحة شعر مرتّبة، وكلام أنيق وهادئ، حتّى أنّ بعضهم لم يكن يفهم عليه ماذا يقصد في كثير ممّا يقوله.

وما كادت تنقضي أيّام، حتّى تحوّلت القرية تحوّلاً جذريّاً، من العمل في الحقول والرعاية، إلى القعود والكسل، فبارت الحقول، وتوقّفت المطاحن. وخلت أكياس القمح والخوابي، وباتت حاجة السكّان الريفيّين إلى المدينة أكثر من أيّ وقت مضى للحصول على الأغذية.

علمَ أمير الناحية بما حدث في تلك القرية الصغيرة، واستدعى وزيره للتشاور في الأمر، فقال له الوزير إنّ ما جرى هو حالة طبيعيّة حتّمتها الظروف. فبعد أن رجع فارس الرشواني إلى مسقط رأسه، ورأى منه المجتمع ما رأى من الفهم والمعرفة، تخلّى السواد الأعظم عن أعمالهم البدائيّة، وأصبحوا يقلّدون فارس في هندامه ومنطقه، ويخبرون أنّهم هم أيضاً ضليعون بالفلسفة، بل هم فلاسفة… وأصبح من العيب أن يتنازلوا عن رتبة فيلسوف إلى رتبة مزارع، خصوصاً بعد أن تطوّروا، وغيّروا أحوالهم في غمضة عين.

وسأل الأمير مستشاريه عمّا يمكن عمله للعودة بتلك القرية إلى أيّامها الماضية، فترجع الأرض جنّة خضراء تفيض بالخير، وتدفق الكروم والأعناب، وتدور الطواحين هادرة في الأودية، وتمتلئ الأهراءات بالبركة… فحكّ المستشارون رؤوسهم، ولم يهتدوا إلى حلّ. لكنّ الوزير الذي كان حاضراً قال:

اسمح لي يا سموّ الأمير أن أدلي برأيي في هذا الوضع الغريب والمريب، فنحن لا نستطيع أن نعاقب أهل القرية، أو نجبرهم على تغيير سلوكهم، فإنّهم لم يرتكبوا جرماً شائناً أو مخالفة، فكلّ ما فعلوه أنّهم وجدوا في شخصيّة فارس ما كانوا يشتهونه في شخصيّاتهم، فإذا بالرجل يصبح قدوة ومثالاً لهم. وقد أغاظهم أنّ واحداً منهم فيلسوف وهم ليسوا فلاسفة.

صفن الأمير هنيهة، ثمّ قال: وماذا نفعل للنجاة من هذه المصيبة؟… وأنت تعلم يا وزيري أنّ جميع الناحية تعتمد على “بيت الهدهد” في الحصول على الغذاء، فهي مثل أهراء روما في الزمان القديم… وبقاء الحال على ما هي عليه كارثة. فما تقترح؟

أجاب الوزير بسرعة البرق، وكأنّه كان قد أعدّ الجواب من قبل، فقال: إمّا نقطع لسان فارس الرشواني، فيمتنع عن الكلام الفهيم، أو نسجنه لفترة محدّدة فيغيب صوته، وينقطع نفسه، وتختفي فلسفته التي جاء بها من خارج البلاد، فأحلّت غضب الله علينا.

اقتنع الأمير بما سمعه من وزيره الحكيم، لكن ْمن المستحيل أن يعمد إلى قطع لسان فارس من غير تهمة تدينه، ففضّل أن يسجنه لمدّة طويلة، كأهوَن الشرّين.

مضت فترة من الزمن، فعادت قرية “بيت الهدهد” إلى نشاطها المعهود، وانتعشت، وتخلّى أهلها عن القعود، واكتفت بما تنتجه من رزق وفير، كما غمرت المنتجات الزراعية الناحية وأسواقها. والأهمّ من كلّ ذلك أنّ الفلسفة اضمحلّت، ولم يعد أحد يتظاهر بأنّه فيلسوف.

وكم كانت الفرحة كبيرة عند الأمير، عندما وقف على شرفة قصره المطلّ على الوادي، فرأى الحركة تدبّ في مفاصل الأرض، والحمير والبغال تنقل الصناديق المنتفخة بالفواكة، والأكياس الممتلئة بالقمح!… فتنفّس الصعداء، والتفت صوب وزيره قائلاً:

أشكرك أيّها الوزير الخبير… لقد كان الحُكم على فارس الرشواني بالسجن قمّة العدالة والقانون، فإنّ عودته إلينا من المهجر كانت مأساة حقيقيّة، وحبسه في القلعة، هو عندي بمثابة شاطئ النجاة لسفينة نوح، التي ضاعت طويلاً  في خضمّ  الطوفان.

***

(*) جميل الدويهي : مشروع أفكار اغترابيّة للأدب الراقي

 النهضة الاغترابية الثانية – تعدّد الأنواع

اترك رد