يؤسفنا أن نسمع كلّ يوم تصريحات توحي لنا بالإحباط، عن تراجع الدور الثقافي للبنان، سواء المقيم أو المغترب، فكأنّ الهجمة العشوائيّة على الثقافة توهم أصحابها بأنّهم سبقوا، وتركوا الآخرين وراءهم يلهثون من التعب والإرهاق.
يحدّثنا البعض عن أن بيروت “كانت”، ولبنان “كان”… والبعض الآخر من غير المثقفين أصلاً، وفّرت لهم المساواة أن يكونوا في عداد المحاضرين عن الثقافة، وهم أبعد الناس عنها، فصوّروا أنّ جاليتنا مثلاً، اللبنانية تحديداً، مقصّرة في الحقل الثقافيّ. وشعوري الشخصيّ، وآخرين معي، أنّ هناك عمليّة ثار منظّمة من كل مشروع مضيء، عبر محاولة تصويره على أنّه غير موجود ولا محلّ له من الإعراب. وهذه الثأريّة التي يحركها الحسد والشعور بالعجز أفرزت حقائق مزوّرة، وركّبت في عقول الكثيرين أنّ لبنان الثقافيّ اضمحلّ. وهذا غير صحيح إطلاقاً. وما نراه من نشاط كلّ يوم يمكن وصفه بالمعجزة، وعدد المنتديات والمؤسسات العاملة في حقل الثقافة والأدب والفكر، لا حصر له. وما تزال صحف لبنان وإذاعاته وجامعاته ومدارسه التي تعد بالآلاف علامات فارقة، وسطوعاً كعين الشمس، والسينما اللبنانية تغزو مهرجانات العالم وتحصد الجوائز، وما فعلته فرقة مياس اللبنانية علامة فخر على صدورنا جميعاً… والموضة اللبنانية تسابق باريس وروما، ومصممو الأزياء اللبنانيون يخيّطون لمشاهير العالم… والفنّ اللبنانيّ بجميع اللغات يغزو الأمم… وعلى الرغم من أن دولاً عربية يبلغ دخل الفرد فيها مئة ضعف دخل الفرد في لبنان، ما زالت المطابع في بيروت تعمل، والكتب تُطبع، والندوات تقام، وخرّيجو الجامعات اللبنانية بالآلاف كلّ عام… وفي لبنان اليوم مئات الشعراء والكتّاب والباحثين والأكاديميّين، وهو الأوّل في هذا المجال قياساً إلى عدد سكّانه، أما في المغتربات، فلا يمكن أن نتصور لبناناً آخر مختلفاً، والمهاجرون حملوا معم تقاليدهم وتراثهم وأحزابهم وعادات القرى والمدن، وأسسوا هم أيضاً المنتديات الثقافية في مختلف أصقاع المعمورة، فأيّ دياسبورا أخرى فعلت ما فعلته الدياسبورا اللبنانية؟ وأيّ دياسبورا جعلت سفراء لها من محامين وأطبّاء ومهندسين في النازا، وأساتذة جامعات، وأدباء مزروعين في القارّات؟
كلّ هذا، ولبنان في حالة حرب ودمار وانهيار منذ العام 1975، وما يزال يتنفس من تحت الأنقاض فكراً وعطاء إنسانياً.
رجاء، لا تعتقدوا أنّنا أهل اليأس، وأنّكم بكلمتين من نوع “اللهو الخفي” ، ومن غير أرقام وإحصاءات ودلائل ساطعة يمكنكم أن تؤثّروا على عقولنا وفهمنا… وهذه النغمة التي راجت أخيراً، وبعض مروّجيها للأسف لبنانيون، يريدون الانتقام من أبناء وطنهم، ومن إبداعاتهم، أو يسعون وراء تكريم سطحيّ، لا تنطلي علينا. وهذا التقزيم لدور لبنان الحضاريّ مردود على أصحابه، ومن العيب أن نسكت عنه كلّ مرّة، وكأنّنا أمام راجح الكذبة، نصدّقها ونستسلم لها… أو نصدّق أنّ إنجازات ضعيفة وأقلّ من عاديّة هي من نوع غزو الفضاء، بينما المنجزات الضخمة هي من صنف لا يُحسب في الميزان.
نحن نحترم أبناء عمومتنا من العرب، ونشدّ على أيديهم، ولا ندّعي التفوّق، ولا نميّز بين بيروت والقاهرة ودمشق والرباط وبغداد، فكفى تمييزاً بحقّنا، وهو تمييز يقوم على خدعة لفظيّة، تفضحها الوقائع والمنجزات على الأرض… وما نقوله ليس من باب العنصريّة أو التحيّز ، إنّما للإضاءة على حقيقة من الإجحاف والظلم أن تُشوّه، وأن يتغوّلها المتسرّعون والناقمون.
***
*جميل الدويهي: مشروع أفكار اغترابية للأدب الراقي – سيدني 2022