جميل الدويهي: قدَم الفيل

 

لم تصدّق عواطف أنّ طرازاً جديداً من اللباس قد وصل إلى السوق في بيروت، فركبت حافلة “الأحدب”، وأسرعت قبل أن تنفد البضاعة الآتية من باريس، وقد تهافت الشبّان على المتاجر، فأفرغوها من البناطيل الجديدة، وشاع اللون الأصفر آنذاك، فتحوّلت الفتيات السائرات على الدروب، إلى قناديل تشّع في المساءات.

ولم تصدّق عواطف أنّها حصلت على سروال من نوع “قدَم الفيل”، تتّسع فتحتاه عند الكاحلين لمسافة تزيد عن ثلث المتر. وعادت الفتاة من بيروت في الحافلة الراجعة بإذن الله، وقد غصّت بالركّاب، وبصعوبة وجدت لها مقعداً قرب امرأة عجوز، تتحدّث بالشخير.

وأدّى شراء ذلك السروال إلى أزمة في الحيّ، فعندما كانت والدة عواطف تغسل لها بنطالها وتنشره على حبل الغسيل، كانت تغيب الشمس، بسبب اتّساع الفتحتين عند الكاحل، وكانت والدتي التي تشمّس الكشك على المصطبة، تهرع إلى أمّ عواطف سائلة إيّاها، برحمة زوجها، أن تزيح البنطلون قليلاً لتعود الشمس فتضيء على البشريّة.

وكنت أنا من الأولاد الفقراء، ولم أتمكن من مجاراة الموضة التي شاعت في السبعينات. وكنت أشتري ثياباً عاديّة، وبناطيلي واسعة عند الخصر، وضيّقة من تحت، ما كان يسبّب إحراجاً لي، وأنا أنظر إلى أتراب يتخايلون بقدَم الفيل، بينما أنا منشغل بشدشدة الحزام حول خصري، لكي لا يسقط سروالي سهواً من مكانه، وتكون الفضيحة. وكانت عواطف تنظر إليّ بكثير من التعجرف، وتقول لي: ألن تحصل على سروال حديث؟ وكنت أرتبك وأجيبها، كالهارب من نفسه: سأفعل… قريباً جدّاً… قريباً إن شاء الله.

نظر إليّ معلّم في المدرسة التي كنت أتعلّم فيها، وهي مدرسة لأبناء العمّال والفلاّحين والرعاة، فلاحظ كآبتي، وكأنّه فهم أنّني مُحبط من شيء ما. وكان ذلك المعلّم واحداً من خرّيجي دار المعلّمين، بعد حصوله على شهادة “السرتفيكا”، لكنّه كان عظيم الفهم والمعرفة، وتوقّع لي مستقبلاً باهراً في علومي. وكان لا يحبّ أن يراني مهموماً، فسألني عن حالي، فأجبته بضحكة باكية: البنطلون يا أستاذ… الحداثة كما تراها، على كلّ جسد إلاّ على جسدي الهزيل.

نطق معلّمي بكلمات، لم أفهمها في ذلك العمر، وما تزال تطنّ في أذنيّ حتّى اليوم: إنّ الزبد يذهب جفاء!

ومضى عنّي، وهو عاتب عليّ.

وبين ليلة وضحاها، انحسرت تلك الحداثة، وأصبح ارتداؤها تكراراً مملّاً لما سبق، وباتت هي نمطاً قديماً، وغير مقبولة، فسبحان مغيّر الأحوال. كيف حلّت موسيقى الروك محلّ الدلعونا والهوّارة؟ وأصبحت الهمبرغر والبتزا أكثر ابتلاعاً من الكبّة والتبّولة، تحت شعار الحداثة؟ وكلّ من يغنّي الآن قصيدة “الأطلال” أو “رسالة من تحت الماء”، أو “لا تسألوني”… هو رجعيّ، متزمّت، عتيق، من عصر حجريّ. وبات الكثيرون من المدّعين بالمعرفة ينظرون إلى الجميل على أنّه قبيح، ويفلسفون الطلاسم على أنّها بَدْع، وهم لا يفهمون منها شيئاً.

كان البنطال القديم ذو اللون الأزرق مطويّاً في خزانتي، فهرعت إليه، وأرتديته بفخر، بعد أن قطعت عنه الهواء طويلاً، تماشياً مع العصرنة، حتّى ضجرتْ هي من نفسها، وخلعتْ عنها معتقداتها السطحيّة، وعادت الروح إلى القماش المهلهل، على قياس بساطتي وطفولتي. وعلى الرغم من هذا التحوّل الذي أعتبره انتصاراً، فما تزال عواطف تنظر إليّ بسخرية، وتقول: عجباً، أليس هذا هو السروال الذي كنت ترتديه، مخالفاً ما كان مألوفاً وشائعاً؟… إنّه قديم، فلماذا لا تشتري سروالاً آخر حديثاً، فتماشي العصر، وتكبر في عيون الناس؟!

***

*مشروع أفكار اغترابيّة للأدب الراقي – سيدني

النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع

اترك رد