جميل الدويهي: زيارة إلى المصرف

 

كانت زياراتي إلى المصرف قليلة جدّاً، وأتذكّر أنّني توجّهت إليه مرّة أو مرّتين، بعد أن أودعته مبلغاً بسيطاً من المال، جنيته من بيع سيّارة قديمة ورثتها عن والدي، ولا أستخدمها، واقتصرت تنقّلاتي على الحافلة، أو سيّارة “الفيات” الصغيرة التي توفّر الوقود. ولكن بعدما علمت أنّ المصارف قد سرقت أموال المودعين، خفت على دراهمي القليلة، وأسرعت إلى مدير البنك راجياً منه أنّ ان يعيد إليّ وديعتي.

كان جالساً إلى مكتبه الخشبيّ الفخم، ويدخّن السيجار الكوبيّ، فينفخ بدخانه إلى فضاء الغرفة… هو رجل في الخمسين من عمره، تبدو عليه ملامح الثعالب، لكنّه متعجرف، ويرتدي بذلة أنيقة… وفي يده ساعة مذهّبة، وخاتم كبير تظهر منه حبّة عقيق غالية الثمن.

كان هندامي مختلفاً عنه بالتأكيد، فأنا عامل في مصنع للنجارة، ولقمة عيشي أحصل عليها بتعب وشقاء، وبعد أن أبتلع كثيراً من المرارة.

سألني: ماذا تريد؟

فأجبته: أموالي…

فقال: لم نعد نعطي المواطنين أموالاً.

استغربت وسألت بنفور: تعطون؟! وهل أنتم تعطون من مال أبيكم، أم تعيدون ما أودعه الناس عندكم بالأمانة؟… هذا دفتر حسابي عليه الشروط جميعها، ومن ضمنها بند يؤكّد أنّ الوديعة هي أمانة يستردّها الزبون ساعة يشاء، ومن غير قيد أو شرط.

-هذا كان من زمان، فنحن عندنا مشكلة مع الدولة.

نظرت إلى ثيابي الرثّة، ونفضتها أمامه كمن ينتف ريشه، وقلت له بصوت فاجر: هل أنا الدولة؟ وهل تراني غير مسكين يبقّ الدم من أجل رغيف؟… إذا كانت عندكم مشكلة مع الدولة، فلتذهبوا أنتم وهي إلى جهنّم، أمّا نحن الفقراء، فما ذنبنا لكي ندفع ديون الدولة من جيوبنا؟

أطفأ سيجاره، وتنحنح قائلاً: أعتذر منك أيّها السيّد… ليس عندي وقت لأضيّعه في نقاش معك… عندي عمل كثير، فأرجو أن تغادر حالاً ، وإلاّ طلبت من رجال الأمن أن يخرجوك بالقوّة!

اشتهيت أن أهجم على الرجل، وأضربه بين عينيه… لكنّني مسالم، ولا أؤمن بالعنف وسيلة لاسترداد حقّي، فانكفأت مهزوماً، وخرجت من مكتبه وأنا مهموم، أجُرّ خيبتي ورائي، وأفكّر في الغد، وكيف سأدفع أقساط ولدي الوحيد إلى المدرسة؟… لقد وقعتُ بين سندان الحكومة ومطرقة المصارف، ودار في خلدي أنّ هناك مؤامرة بين الطرفين يدفع الشعب ثمنها.

وبينما أنا خارج من المصرف إلى موقف السيّارات، شعرت ببرودة مفاجئة في قدميّ، فرفعت سروالي، واكتشفت أنّ جوربيّ قد سُرقا من غير أن أشعر. طار صوابي لشدّة المفاجأة، وعدت راكضاً باتّجاه مكتب المدير، وكان يهمّ بإغلاق الباب، فدفعتُه بيديّ واقتحمت المكان… ظنّ الرجل أنّني عدت إليه لأقتله، فأخذ مسدّساً من جارور مكتبه، وصوّبه عليّ، فرفعت يديّ وأنا أرتجف…

قلت له بصوت متعثّر: صدّقني أيّها السيّد المحترم… ما عدت لكي أعتدي عليك… لكنْ فقط لأعرف منك، كيف سرقتَ جوربيّ من غير أن أخلع حذائي؟…

سدّد المسدّس إلى وجهي، ونظر إلى وسط جسمي، وهو يقهقه ويقول: وأنت لم تخلع سروالك أيضاً!

***

*مشروع أفكار اغترابيّة للأدب الراقي

النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع

 

اترك رد