صدر عن دار نلسن في بيروت ومؤسسة أنور سلمان الثقافية كتاب “خليل حاوي الديوان الأخير قصائد غيــر منشـورة”. في ما يلي كلمات: الناشر سليمان بختي”قصة هذا الكتاب”، د. وجيه فانوس ” خليل حاوي مُحَلّقًاً فِي فَضاءاتِ العَيْشِ والشِّعرِ والأُمَّةِ (في الذِّكرى السَّنَوِيَّةِ الأَربَعين لاحتِجابِهِ الكَئِيبِ)، محمود شريح “خليل حاوي كما عرفته في سنواته الأخيرة”، إضافة إلى قصيدة “يا صبيه ” لخليل حاوي من الكتاب. زيّنت الغلاف الخلفي كلمة للشاعر شوقي أبي شقرا في عنوان “الشاعر القدوس”.
كلمة الناشر “قصة هذا الكتاب”
سليمان بختي
في الذكرى الأربعين لرحيله نعود إليه، شاعر الرؤيا، نعود إلى كل تلك الرؤى الصادقة التي تجمّعت في تجربته. هذا “الديوان الأخير” الذي بين أيدينا اليوم بقصائده غير المنشورة وغير المجموعة في كتاب من قبل هو ثمرة جهد عمره أكثر من عشر سنوات. حاولنا دائماً أن نجمع هذه القصائد التي كتبها الشاعر خليل حاوي في سنواته الأخيرة ولم تسعفنا الظروف ولا الأيام آنذاك. هذه السنة كانت مؤاتية وبهمّة عائلة الشاعر الراحل خليل حاوي وجهود جمانة حاوي ابنة ايليا، شقيق خليل. بدأ العمل يشقّ طريقه نحو التحقق. جُهّزت القصائد وكان من المأمول أن يكتب الدكتور وجيه فانوس (1948-2022) المقدّمة لها ويحقّق القصائد ويدقّقها. وهو بفرح غامر رحّب بذلك أيما ترحيب لا بل لمست خلال لقاءاتي معه مدى حماسته واهتمامه بالكتاب. “هو أستاذي ومعلّمي وشاعري الأثير”، قال. وأخبرني تفاصيل جميلة عن علاقته مع حاوي. تذكر كيف زاره حين نال منحة تفوّقه في الجامعة اللبنانية لمتابعة الدراسات العليا في جامعة كامبردج وفرح بها لأنها جامعة أستاذه. قال له حاوي: “يا معلّمي الأستاذ يللي علّمني بجامعة كامبردج مات، خلّينا نشفلك محل تاني”. وتحوّلت المنحة إلى جامعة أوكسفورد. تذكّر أيضاً وجيه فانوس كيف دخل إلى مكتب خليل حاوي في الجامعة الأميركية بعد غيابه ليحلّ محلّه في تدريس مادة النقد الأدبي، وكيف شهق باكياً حين رأى في فنجان قهوته تفلاً أسود. في اتصالنا الهاتفي الأخير، قبل رحيله بأسبوع، سألني عن المهلة القصوى لإنجاز المقدمة وتحقيق القصائد، فقلت: “حين تنجزها”. رحل وجيه فانوس بعد أيام ولم تزل القصائد معلقة في حاسوبه. قال لجمانة حاوي وعلى طريقته “حاسس انو الجمعة الجاي رح شوف خليل وإيليا…”. أروي كلّ ذلك لأنه جزء لا يتجزأ من قصة الكتاب، ولأقول أن الأقدار تدخّلت وتبدّلت الطرق. واننا استعضنا عن مقدمته بمقالة كتبها في 13 حزيران 2022 في الذكرى الأربعين لوفاة حاوي. وقام بتدقيق القصائد وتحقيقها د. محمود شريح. هذه القصائد، التي يضمّها هذا الكتاب وأغلبها بخطّ يده، تقول لنا الكثير من الأشياء ومنها أن حاوي عاش حياته وحياة أمته على وقع قصائده. وانه عاش في حياته على حافة كل شيء وفي عمق كل شيء. شاعر الذات – الموضوع، شاعر الإنسان – المجتمع، شاعر عصف الروح وصِدق الرؤى، شاعر الرؤيا الحضارية. وكان أيضاً شاعر كل ذلك التفاعل الخلاق والمأسوي مع قضايا أمته. هذه القصائد هي جزء من آثاره وتجربته، وربما، تتساوى قيمتها التوثيقية بقيمتها الفنية، وتكتسب أهمية على صعيد آخر وهو معرفة ماذا كان يكتب خليل حاوي في سنواته الأخيرة، وماذا كانت أفكاره وانهماكاته، وما هو الشكل الذي يترصّده في تجربته الشعرية. أراد خليل حاوي لهذه الأمة ما أراده لها رجال النهضة وروّادها من تقدّم وإصلاح ولكن دون ذلك أهوال.
أودّ أخيراً، أن أجزل الشكر لكل من ساهم في ورشة هذا الكتاب وجعله ممكناً في زمن يكاد المستحيل يسيطر فيه على كل شيء في حياتنا. وأخصّ بالشكر الشاعر الكبير شوقي أبي شقرا الذي كتب كلمة طيّبة على الغلاف عن شاعرٍ عرفه وأحبّه وصادقه. والى الفنان التشكيلي الكبير شوقي شمعون الذي رافقت رسومه القصائد كل الشكر والتقدير. والشكر موصول إلى مؤسسة أنور سلمان الثقافية بشخص راعيها نشأت سلمان على التعاون الوثيق والنشر المشترك والتعاضد في سبيل حبر جديد وكشف جديد وضوء جديد من بيروت وفي بيروت والى بيروت ودورها الكبير والمستدام في الحداثة والإبداع والتنوير.
بيروت، حزيران 2022
***
خليل حاوي مُحَلّقًاً فِي فَضاءاتِ العَيْشِ والشِّعرِ والأُمَّةِ (في الذِّكرى السَّنَوِيَّةِ الأَربَعين لاحتِجابِهِ الكَئِيبِ)
د. وجيه فانوس(*)
لَعَلَّ مِن أَبرزِ ما يَنمازُ بهِ خليل حاوي، أنَّ الذّاتَ الإنسانيَّةَ في كَيانِهِ، كما تِلكَ الشِّعريَّةَ، لمْ تَكُنْ انغِلاقِيَّهً، باتِّجاهِ النَّرجِسِيِّ فِي الفَردِيِّ، الجُزْئِيِّ مِنهُ أو الخاصِّ أو الشَّخْصِيِّ، على الإطلاقِ؛ بِقدرِ ما كانَت استِيعابِيَّةً انفِتاحِيَّهً، بِاتِّجاهِ الجَمْعِيِّ، في مَا هُو مُشتَرَكٌ شُمُولِيٌّ وكُلِيٌّ، يَرتَبِطُ بالأمَّةِ. ولَعلَّ خليل حاوي هُوَ الفَريدُ، بِجَدارَةٍ، مِن بَيْنِ قِلَّةٍ، تَكادُ تَكونُ نادِرَةً في تارِيخِ الشِّعرِ العَرَبِيِّ، تَمَكَّنَت، صادِقَةً، وبِكُلِّ نَقَاءٍ ذاتِيٍّ وصَفاءٍ شُعُورِيٍّ وَوُضُوحٍ بَيانِيِّ جمالِيٍّ، لا أَنْ تَسْتَوْعِبَ الجَمْعِيَّ فِعلاً، وأَنْ تَتَفاعَلَ مَعهُ ومِن خِلالِهِ حقّاً؛ بَلْ إنَّ الذَّاتيَّ فِيها لَمْ يَكُنْ سِوى مَجالٍ رَحبٍ لِتَجلِّي هَذا الجَمْعِيَّ وتَشَكُّلَهِ فِي الوُجودِ الشِّعرِيِّ. ولَئِن ذَكَرَ حاوي، فِي إِحدى المُقابَلاتِ الصَّحَافِيَّةِ الأدبِيَّةِ، التي أُجْرِيَتْ مَعَهُ، أنَّ الشَّاعِرَ الحَقَّ هُوَ ذَاكَ الذِي يَعِيشُ أُمَّتَهُ بِكُلِّ وُجُودِها، يُعَايِنُ آمالَها، ويُعانِي عَذابَاتَها، ويَعِيشُ أفراحَها وإحباطاتَها، لِيَكُونَ مُعبِّراً عَنْها ورَائِياً لِلْمُقبِلِ مِن أيَّامِها وحتَّى لِما سَيُكْتَبُ مِن صَفَحاتِ تارِيخِها؛ فَإِنَّ خليل حاوي طالَما رَأى فِي الشَّاعِرِ العَرَبِيِّ العَبَّاسِيِّ أَبي الطَّيِّبِ المُتنبِّي، أُنْموذَجاً عَن هَذا الشَّاعِرِ، الَّذي تَمَكَّنَ أَنْ يَكُونَ أُمَّتَهُ فِي شِعرِه؛ فَإنَّ المَسارَ الحَياتِيَّ والفَنِّيَّ، الَّذي عاشَهُ خليل حاوي، يُؤكِّدُ أنَّهُ لَمْ يَتَفَوَّقَ عَلى أَبِي الطَّيِّبِ المُتنبِّي في هَذا، وَحَسْب؛ بَلْ تَجاوَزَهُ بِمراحِلَ عَديدةٍ ومَدِيدَةٍ وأَساسٍ فِي هذا المِضْمارِ.
يَتَوافَقُ، مُعظَمُ، إِنْ لَمْ يَكُنْ جَمِيعُ مَنْ عَرَفُوا خليل حاوي، مُباشَرَةً، فِي شُؤونِ عيْشِهِ اليّومِيَّةِ، وكَذَلِك الباحِثُونَ الَّذِينَ تَعَمَّقُوا فِي دِراسَةِ حياتِهِ والتَّشكُّلاتِ العامَّةِ لانْفِعالِهِ الذَّاتيِّ، عَبْرَ الغَوْصِ التَّحلِيلِيِّ المُرتَكِزِ عَلى مَفاهِيمِ عِلْمِ النَّفسِ، وَمَعَهُم أُولَئِكَ الَّذِينَ سَعَوا جاهِدينَ إِلى النَّظَرِ فِي شِعرِهِ، صَنْعَةً واسْتِحداثاً وابْتِداعاً، بالغَوْصِ في عَناصِرِ تَكْوينِهِ المَعرفِيِّ والثَّقافِيِّ، ومِن خِلالِ تَحلِيلِ طاقاتِهِ الانْفِعالِيَّةِ والفَنِّيَّةِ؛ عَلى أّنَّهُ عاشَ حَياتَهُ الشَّخصِيَّةَ ساحَةَ عَمَلٍ لِتَفعِيلِ مُعاناتِهِ فِي هَذا الالتِحامِ الكُلِّيِّ للذَّاتِيِّ بِالجَمْعِيِّ؛ وَلِصّوْغِ هَذِا الالتِحامِ عَبْرَ مَا يَمْتَلِكُهُ، بِكُلِّ اقتِناعٍ إِيمانِيٍّ مِنْ رُؤْيا حَضارِيَّةٍ، يَعتَقِدُها لِنُهُوَضٍ عُرُوبِيٍّ؛ فَكانَ الإنٍّسانُ الفَردُ وشَاعرُ الأمَّةِ فِيهِ واحِداً؛ وَكُثُرٌ يَرَوْنَ فِي هَذا أَحَدَ أَسْبابِ رَوْعَةِ خليل حاوي وَتَفَوُّقِهِ.
رَأى خليل حاوي أَنَّ مَهَمَّةَ الشَّاعِرَ العَرَبِيِّ الحَدِيثَ تَكْمُنُ فِي قُدرَةِ هَذا الشَّاعِرِ عَلى أَنْ يَنْفُذَ بِحَدسِهِ وَتَجْرُبَتِهِ إِلى أَعماقِ قَضايا العَصرِ. وَهَذِهِ المَهَمَّةُ، أَو المُحاوَلَةُ، هِيَ وَكَما يَرى حاوي نَفْسُهُ، «مُحاوَلَةُ مَسِيرَةٍ تَقْتَضِي القُدرَةَ الفائِقَةَ عَلى مُعانَاةِ الحَياةِ بِقَدرِ مَا تَقْتَضِي القُدرَةَ عَلى التَّعبِيرِ عَن تِلكَ المُعانَاةِ». فَالقَضِيَّةُ لَدَيْهِ لَا تَنْحَصِرُ فِي المُعاناةِ أَو التَّجْرُبَةِ في الشِّعرِ؛ بَلْ إِنَّها تَمْتَدُّ مِن مَوْضُوعِ التَّعبِيرِ عَنِ المُعاناةِ، إلى عَيْشِ شِّعرِيَّةِ هَذِهِ المُعاناةِ. إِنَّهُ التَّعبِيرُ الَّذي يَهْدُفُ إِلى تَوْصِيلِ المُعاناةِ/الرُّؤيَا إِلى المُتَلقِّي أو المُسْتَقْبِلِ. وَحاوي نَفْسُهُ اعتَبَرَ أنَّ «مَهَمَّةَ التَّوْصِيلِ» هِيَ مَهَمَّةُ الشِّعرِيِّ، وتَرْتَبِطُ عُشْوِيّاً بِمَهَمَّةِ أَصالَةِ التَّجْرُبَةِ فِي الأَهمِيَّةِ التَّكوِينِيَّةِ والفاعِلِيَّةِ، على حَدٍّ سَواء.
وَمِن هُنا لَمْ يَعُد الرَّمزُ أَو الأُسْطُورَةِ، فِي شِعرِ خليل حاوي، مُجَرَّدَ عُنْصُرَيْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلى غِنَىً ثَقافِيٍّ وَمَهارَةٍ تِقَنِيَّةٍ فّذَّةٍ فِي التَّعبِيرِ؛ إِذْ أَصبَحا مِنْ عَناصِرِ التَّحرِيكِ الوُجْدانِيِّ العَمِيقِ فِي ذاتِ المُتَلقِّي المُسْتَقْبِلِ. اسْتَطاعَ خليل حاوي، عَلى سَبِيلِ المِثالِ وَلَيْسَ الحَصرِ، فِي «سِنْدِبادِهِ» أَو «لْعَازَرِهِ» أَو «جِنِّيَّتِهِ»، أَنْ يُحَطِّمَ المَفْهُومَ التَّقلِيدِيَّ لِلرَّمْزِ أَو الأُسْطُورَةِ، بِأَنْ تَمَكَّنَ مِنْ أَنْ يَصهَرَ جَمِيعَ هَذِهِ المَفاهِيمِ التُّراثِيَّةِ بِبُعدِهِ الوُجُودِيِّ الذّاتيِّ؛ مُحَقِّقاً مِنْ كُلِّ هَذا فِعلاً شِعرِيّاً جَدِيداً، هُوَ «سِنْدِبادُ» القَصِيدَةِ و«لْعازَرُها» و«جِنِّيَّتُها».
عاشَ خليل حاوي وُجُودَهُ الحَياتِيَّ والفنِّيَّ مَساحَةً كُبْرى لِلتَّفاعُلِ مَعَ الآخَرِ، أَكانَ هَذا الآخَرُ مُتَمَثِّلاً فِي العائِلَةِ، أَو الأَصدِقاءِ، أَو الطَّلَبَةِ والمُريدِين، أَو القَريَةِ، أَوِ المَجمٌوعَةِ الأَكَّادِيمِيَّةِ، أو الفِكْرِ السِّياسِيِّ، أَو الوُجُودِ القَوْمِيِّ، أَوِ العُمْقِ الإِنْسانِيِّ الشَّامِلِ. لَمْ يَكُنْ خليل حاوي، مَعَ كُلِّ واحِدَةٍ مِن هَذِهِ التَّمَثُّلاتِ، إِلاَّ التَّعبِيرَ الصَّادِقَ والرُّؤْيَوِيَّ عَنْها؛ وَالأَمْثِلَةُ عَلى هَذا تَسْتَغْرِقُ العَدِيدَ العَدِيدَ مِن تَصَرُّفاتِهِ الحَيَاتِيَّةِ وَكُلَّ شِعرِهِ، بِما فِي ذَلِكَ مَنْظُومَاتِهِ الأُولَى، الَّتي وَضَعَها فِي مَطْلَعِ فُتُوَّتِهِ وَمَشْرِقِ صِباهُ، بِالعَرَبِيَّةِ المَحكِيَّةِ فِي بَلْدَتِهِ «الشُّوَيْرِ»؛ وَحَتَّى تِلْكَ الَّتي يُشِيرُ مِنْ خِلالِها إِلى بَعضِ حَمِيمِيَّاتِهِ العاطِفِيَّةِ أَو انْطِباعَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ.
كُلُّ الكَوْنِ كانَ وُجُوداً جَمْعِيّاً فِي ذاتِ خليل؛ وَلَمْ يَكُنْ لِهَذِهِ الذَّاتُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ مَسْرَحاً وَساحَةً وَمَجالَ فِعلٍ وَتَفاعُلٍ، لِما تَراءى لَها مِن جَوانِبِ هَذا الكَوْنِ. لَا وُجُودَ لِلذَّاتِ الفَردِيَّةِ، إِذَنْ، عِنْدَ خليل حاوي، سِوى مِنْ خِلالِ تَجَلِّيها وَتَفاعُلِها عَبْرَ الذَّاتِ الجَمْعِيَّةِ؛ بَلْ لَا وُجُودَ لِلذَّاتِ، عِنْدَ خَليل، إِلَّا بِالجَمْعِيَّةِ. وَلَعلَّ أَجْمَلَ مَا رَآهُ خليل حاوي مِنَ الذَّاتِ الجَمْعِيَّةِ، كانَ فِي تَجَلِّيها فِي حَياةِ الأُمَّةِ ومِن خِلالِها.
صَحِيحٌ أَنَّ المُتَنَبِّي اشْتُهِرَ بِأنَّهُ مُعَبِّرٌ عَن أُمَّتِهِ وطُموحاتِها وآمالِها وأَشْوَاقِها؛ غَيْرَ أَنَّ الصَّحِيحَ، هَهُنا، أَنَّ الذَّاتَ الفَردِيَّةَ عِنْدَ المُتَنَبِّي، كانَت الحَافِزَ وَالدَّاعي إِلى الِإعرابِ عَنِ الذَّاتِ الجَمْعِيَّةِ؛ وَلِذا، لِمْ يَكُنْ مِنَ المُتَنَبِّي إِلَّا أَنْ قَادَ ناسَهُ إِلى رُؤاه الذَّاتِيَّةِ وَمَجالاتِ أَحلَامِهِ الشَّخْصِيَّةِ وَآمالِهِ الخاصَّةِ وآلامِهِ الجَسَدِيَّةِ، وَكَذلِكَ فَضاءاتِ طُمُوحاتِهِ وَخَيْباتِهِ وَمُعاناتِهِ وَمُعايَناتِهِ المُضْمَرَةِ وَالمُعلَنَةِ؛ فَأَحَسَّتِ الأُمَّةُ أَنَّ بِإِمكَانِ مَا يُقدِّمُهُ المُتنبِّي، أَنْ يَكُونَ مِرآةً لِذَاتِها وَانْعِكاساً لِحَقِيقَتِها. أَمَّا مَع خليل حاوي، فَالأَمْرُ يَختَلِفُ كَثِيراً، وَلَعلَّهُ يَتَناقَضُ؛ إِذْ الشَّاعِرُ، هَهُنا، يَنْطَلِقُ، فِي أَساسِ التَّجربَةِ الشِّعرِيَّةِ، مِن ذاتِ الأُمَّةِ أَو الجَماعَةِ؛ جاعِلاً، من ِشاعِرِيَّةِ ذَاتِهِ الفَرديَّةِ، وُجُوداً يَعيشُ مُعاناةَ الأمَّةِ، وعَيْناً تَرى أَحوالَها، ولِساناً يُعبِّرُ عَن اختِلاجاتِها، وإِحساساً يَسْعَى إِلى تَمَثُّلِ رُؤاها. فَكانَتِ الأُمُّةُ، مَع خليل حاوي، وَلَيْسَ الفَردُ، عَلى الإِطلاقِ، هِيَ المُوَجِّهُ والهادِي والدَّليلُ؛ وَلَعلَّ هَذا ما قادَ خليلاً، فِي نِهايَةِ المَطافِ، إِلى اتِّخاذِ قَرارِ الرَّحِيلِ، إِذْ أَحَسَّ أَنَّ الأُمَّةَ كانَت فِي خِضَمِّ هَذا القَرارِ، وَكانَت عِنْدَ حافَّةِ مِشوارِ رَحِيلٍ كَئيبٍ مُفْجِعٍ!!
لَعلَّ خليل حاوي تَعَرَّفَ عَلى بَعضِ أَساسِيَّاتِ هَذا التَّماهِي المَلْحَمِيِّ، بَيْنَ الذَّاتِ الفَردِيَّةِ وَالأُمَّةِ، مِن خِلالِ آراءٍ لِلزَّعِيمِ أَنْطُون سعاده وأَفْكارٍ لَهُ، وخاصَّةً تِلكَ التي نُشِرَتْ لَاحِقاً فِي كِتابِ «جُنونِ الخُلودِ»، فخليل لم يكن غريباً لا عن وجود سعاده ولا عن فكره، إذ كان من الأعضاء الأول المنتسبين إلى الحزب القومي؛ لَكِن مَا مَيَّزَ خليل حاوي، فِي هَذا المَجالِ، وَما بَرِحَ يُمَيِّزُهُ، أَنَّهُ كانَ الشَّاعِرَ العَرَبِيَّ الوَحِيدَ الَّذي عاشَ هَذا التَّفاعُلَ بَيْنَ الذَّاتِ والأُمَّةِ فِعلَ وُجُودِ حَياةٍ ومُنطلَقِها، وَلَمْ يَكْتَفِ بِمُجَرَّدِ التَّعبِيرِ عَنْهُ عَبْرَ كَلِماتٍ جَوفَاءَ وَأَقْوالٍ لَا تَتَعدَّى حُدودَ التَّنْظِيرِ المُصْطَنَعِ.
وَحدُهُ خليل حاوي، بَيْنَ الشُّعَراءِ العَرَبِ المُعاصِرِينَ جَمِيعاً، اسْتَطاعَ أَنْ يَصِلَ إِلى رِحابِ تَوَحُّدِ الذَّاتِيِّ بِالجَمْعِيِّ؛ وَلِذَلِكَ فَإنَّهُ كانَ الشَّاعِرَ الوَحِيدَ الَّذي لَمْ يَجِد بُداً مِنَ المَوتِ، فِي لَحظَةٍ كانَت أُمَّتُهُ فِيها تُشْرِفُ عَلى المَوْتِ. نَعَمْ كانَت قَصِيدَتُهُ الأَخِيرَةُ، تِلكَ التي كَتَبَها بِبارُودِ بُنْدُقِيَّتِهِ، عَلى جَبْهَتِهِ وَفِي مِحجَرِ عَيْنِهِ اليُمْنَى، هِيَ أَعظَمَ دَلِيلٍ عَلى تَوَحُّدِ الذَّاتِ بِالأُمَّةِ؛ لَكِّنَّها، فِي الوَقْتِ عَيْنِهِ، أَكْثَرَ الأَدِّلَّةِ إِيلاماً وَفَجِيعَةً؛ إِذْ وَجَعُ الأُمَّةِ وَسَوادُها حَجَبا، فِي ذَلِكَ الحِينِ، كُلَّ إِمْكانِيَّةٍ لِرُؤْيَةِ الرَّاحَةِ وإِشْراقَةَ الفَجْرِ خارِجَ فِعلِ المَوْتِ!
بيروت، 13 حزيران 2022
***
خليل حاوي كما عرفته في سنواته الأخيرة
محمود شريح
كان أستاذي الطيّب الذكر خليل حاوي يدعوني إلى المشي معه في حرم الجامعة الأميركية في بيروت إثر فراغه من محاضرته عن النقد الأدبي وكان ذلك عشيّة كل أربعاء إثر ثلاث ساعات يعرضُ فيها تاريخَ النقد الأدبي ونظرياته من أرسطو إلى كوليروج ومن الجرجاني إلى محمد غنيمي هلال، فكان يحلو له أن يسمعَني ما كان كتبَه من قصائدَ حديثة نظَمها أذكر منها “يا صبيّة” و”زحفتْ إليك من الأعالي” و”صبيّة مكتهلة”. رافقت حاوي على مدى ثلاث سنوات، من أيلول 1979 إلى حزيران 1982 فكان خير ناصح ومُرشد ومُعين.
كان يقرأُ عليّ القصيدة في صورتها الأولى ثم يعدّلها في مشوار معه جديد، وكان ذلك عادته قبل أن يستقرّ على صيغتها النهائية ويكون راضياً عنها، وها هي هنا الآن كما تركها بخطّ يده قبل مغادرته هذه الدنيا وهي لم تتسع له.
لكن أستاذي لم يكن يبخل عليّ بمرافقته ليلاً في أزقّة رأس بيروت فكانت تلك الصحبة من أجمل لحظات حياتي إذ حدّثني فيها عمّا في مكنون نفسه من ذكريات مرّ عليها ماضٍ سحيق، كما روى لي عن ولائه لأفكار أنطون سعادة وأنه لم يخرج قيد أُنملة عن تعاليمه، ولعلّ دواوينه الثلاثة نهر الرماد والناي والريح وبيادر الجوع تشكّل مجتمعة استعارة متصلة الحلقات لفهمه الدقيق لأُسطورة أدونيس – تمّوز كما جسّدها سعادة في الصراع الفكري في الأدب السوري مع إضافته إليها بعداً فلسفياً مستمدّاً من دراسته الفلسفية وانحيازه إلى كانط في مؤلّفه نقد العقل المحض. من هنا فرادة حاوي وتمايزه على خارطة الحداثة العربية.
بيروت، حزيران 2022
***
يا صبيّه
خليل حاوي
يا صبيّه!
يا صبيّة!
كيف ألهبتِ رمادي وصقيعي
كيف اطلعتِ صبيّا
في عروقي وضلوعي
طلعة حرّى طريّه
وغسلتِ الزهو في عينيه
من هول العشيّه
يا صبيّه!
يا صبيّة!
ومدى الزهو تجلّى
جسد في زهوه دون غلاله
وصبيّ طافر يمرح فيه
يرتعيه
يتملاّه حلاله
جسد دون غلاله
حوله ذابت متاهات المدى
ومتاه الظن ما خلف المدى
وصدى الأمس وغصّات الصدى
جسد دون غلاله
حوله الأرض تجلّت
هالة هلّت وهاله
أشرقتْ فيها الظلال
خلعتْ ثقل الجبال
خلعتْ ثقل العشيّه
خلعتْ هول العشيّه
يا صبيّه!
يا صبيّة!
14/ 4/ 1981
***
(*) الأستاذ المشرف على الدِّراسات العليا في المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة في الجامعة اللبنانيَّة.
اعتاد الدكتور الراحل وجيه فانوس (1948-2022) أن يكتب دائماً في ذكرى رحيل شاعره وأستاذه خليل حاوي. وكانت هذه المقالة آخر ما كتب في الذكرى الأربعين لرحيله.