بائع اليانصيب

بقلم: الأديب مازن. ح. عبود

mazen-1كانت عجقة بيع وشراء في “كفرنسيان”. نزلت شرطة “كفرنسيان” لتنظيم السير. لم يكن عديد الجهاز كبيراً. فقد تألف من شرطيين أكل الدهر وشرب على بذلتيهما اللتين ما عادتا تعكسان حالة الهيبة. 

راح “حلوم” يصدح في المارة بثقة: “تعالوا خذوا مليارين. من يريد مليارين؟؟ ملياري ليرة لبنانية فقط لا غير!! مبلغ مرقوم، فلوس كثيرة!!”. وكانت الناس في “كفرنسيان” توافي إليه. وكل يأخذ مليارين ويمضي. فقد كان الغنى حلم الناس في تلك المحلة القابعة في مجاهل الزمان. الكل في تلك المحلة كانت تراوده أحلام البطولة والغنى والشهرة والنفوذ. داسوا على الإحباط بالوهم. وعبروا إلى المشتهى بسلالم الأمل.  اطلقوا العنان لمخيلاتهم. فأمتزج الواقع باللاواقع. فزالت الحدود ما بين العالمين. سيارة “بو لولو” مثلا كانت لا تشبه أي سيارة أخرى. اعتقد بأنها شغلت بال الناس لأنها تطير. والسيارة لم تكن تطير بل تسير. قال إنه لا يبيعها مهما كانت الأثمان.  والصحيح أنه لا يبيعها لانعدام الطلب عليها.

كانت “كفرنسيان”، في يقين كبار السن، جمهورية منعزلة لها بوابات محدودة على العوالم.  وتتصل بالسماوات عبر قمم الجبال وبما تحت الأرض عبر المدافن، وبالغيب عبر سحرتها الذين كانوا يتقنون فنون التخاطب مع الرصد والأرواح ويجلبون لها اللعنات.

أدمن شبيبتها الموسيقى الغريبة والهواتف الذكية والنوم المـتأخر وحشيش الكيف. سكن الضياع قرانيهم.  فراحوا يتوهمون كثيراً ويعملون قليلا. بارت أراضيهم. وفرغت مدارسهم. فراحت “كفرنسيان” تصغر.  أعلن كل منهم دولته. واستقلت دويلاتهم وتباعدت. وما عادت تتصل ببعضها البعض. ظهر فكر غريب أفتى للرذائل.  فأضحت الرذائل لا تختلف عن الفضائل. هوت جسور التواصل بفعل الفردية. فازدادت وتيرة المشكلات. كان الناس في “كفرنسيان” يعيشون ويسكرون ويتناسلون ويلهون ويرقصون ويسهرون كما في العصر الحجري. إلا أنهم كانوا تعساء. فقد كانوا معزولين.  كان وضعهم مقززاً.

يقال إنّ الوحش استقر عندهم.  استفاق لمّا أيقظه “بو عكر”، وسلب كنزه المرصود عند صخرة.  فكان أن تعكّر صفو حياتهم.  تغذى من الخوف، واستقر في الفراغ.  وتسلّح بالتكنولوجيا الفتّاكة.

تزايدت الهوة ما بين التقدم التكنولوجي والتقدم الروحي.  ومن الهوة خرجت كل أنواع الشياطين الأخرى التي استقرت في الناس، وراحت تضرب كل شيء من حولها.

صار أناس “كفرنسيان” يمشون ولا يتطلعون إلى وجوه بعضهم البعض.  عادوا إلى مغاور أجدادهم. وكانوا، إذا ما تبادلوا الكلمات، ينظرون أرضاً مغبة أن تلتقي وجوههم. كانت هذه جهنم. خرجت من تحت أرض “كفرنسيان” مشكلات منسية.

صار الوهم السلعة الرئيسية التي تباع وتشترى في سوق تلك المحلة.  غلب الاستهلاك على كل شيء حتى على الأخبار.  فانحسرت الحقيقة لحساب الوهم.

 وسمع “برهوم” مجدداً صوت “حلوم” الذي كان ينادي على المليارين.  لم يقترب منه البتة. بل آثر البقاء بعيداً والتأمل في ما يجري في  “كفرنسيان” التي كانت سائر العالم والمشرق أيضاً.

اترك رد