جميل الدويهي: لعنة الشعر القديم

 

 

نشرت على موقع www.jamildoaihi.com.au

قسم: مقالات متفرّقة

 

 

يتعرّض الشعر القديم لحملة من السخرية والاستهجان والتحقير، غير مسبوقة، وتؤشّر إلى مدى الهبوط الذوقيّ، والانحدار الذي وصلنا إليه، في زمن الوجبات السريعة، والخلط بين المذكّر والمؤنّث، والمساواة البلهاء، والديمقراطيّة الفارغة والغبيّة.

وأصبح التباهي بالحداثة من سمات العصر، وكأنّ شعراء الوزن ليسوا حداثيّين، وكأنّهم ما زالوا يرتدون الجلباب والكوفيّة، ويلوّحون بالسيوف والرماح، ويهجمون على القبائل، ويبدأون قصائدهم بالوقوف على الأطلال.

وقد رأيت كثيراً من شعراء القصيدة التقليديّة، يفرطون في أناقتهم، ويرتدون ربطات عنق فاخرة، ويرشّون عطور “لانفان” و”إيف سان لوران” و”أراميس” على قمصانهم المنتقاة بعناية، ورأيت في المقابل العديد من شعراء الحداثة لا يتمتّعون بأيّ ميزة حداثيّة، ما عدا “شِعرهم” الذي فلقونا به، وكأنّ الله خلقهم وكسر القالب.

وما هو عيب فعلاً أن تأتي الإهانات والشتائم من شعراء كانوا يرسبون في صفّ العروض، فانتقموا من الوزن بأن اتّجهوا إلى المورد الأقرب، والطريق الأسهل. ويمكن لهؤلاء الذين يشتمون أن يكذبوا على جميع الناس، إلاّ النقّاد الفاهمين، والدارسين المتعمّقين… فهؤلاء لا تنفع معهم ألاعيب خفيّة، ولا عصا فرعون. وفي العلم والإحصاءات، ثبت أنّ 99 في المئة ممّن يكتبون القصيدة الحداثيّة لا يعرفون النظم على العروض، أو لا يتقنون النظم على العروض…

وفي رأينا أن الذهاب في الطريق الأقصر ليس عيباً، لكنّ العيب القول إنّه الطريق الأطول، والأكثر وعورة، ولا يسلكه إلاّ المختارون الذين هم في درجة القداسة.

هكذا نقولها، صدقاً، وكما خلقتَني يا ربّ. ففي العلم ليس من مواربة، ولا يمكن لطبيب خبير اكتشف أنّ دواء خطيراً على صحّة الإنسان، أن يسمح ببقائه على رفوف الصيدليّات، كما لا يجب اتّهام هذا الطبيب، لا بالغرور ولا بالفوقيّة إذا قال الصدق.

هذا لا يعني أنّنا ضدّ القصيدة الحداثيّة، ولدينا برهانان على صحّة موقفنا، البرهان الأوّل، هو أنّنا نعجب بالعديد من شعراء الحداثة ونمدحهم، فالمشكلة لم تكن يوماً في المبنى، بل في المعنى، ويمكن لإنسان أن يكتب نثراً ويبدع أكثر من الشعر. والبرهان الثاني، أنّنا نكتب القصيدة الحداثيّة، وننشرها، ولا نعيبها أو نحقّرها، فكيف نكون ضدّها ونحن معها؟

فالقضيّة إذن، هي احترام الآخر، واحترام الذات أيضاً، والتوقّف فوراً عن التجريح بشاعر لأنّه اختار نوعاً يحبّ أن يكتبه. فالذين كتبوا القصيدة العروضيّة أو التفعيليّة، ومنهم نزار قبّاني، ومحمود درويش، والجواهري، وسميح القاسم، وسعيد عقل والأخوان رحباني… ليسوا من عصر الخيمة والمهباج والغزو وخدر عنيزة. ولا مَن كتبوا قصيدة الحداثة هم من عصر الفضاء والمجّرات البعيدة ومن عالم الفانتازيا.

وهناك سرّ مهمّ أستطيع أن أكشفه بصفتي أكتب النوعين معاً وأعرف الفرق بينهما، وهذا السرّ، يتعلّق بمقدار التعب والجهد المبذولين في كلتا القصيدتين، فالقصيدة التفعيليّة لها ضوابط ومعايير وقواعد، تصعب حتّى على الشعراء المتمكّنين، وقد تستغرق كتابة بيت عروضيّ ساعات من الجهد والتفكير، لإيجاد اللفظة المناسبة في الوزن المناسب، حفراً وتنزيلاً، بينما في قصيدة الحداثة، نعتمد الكتابة الآليّة، أي ما نفكّر به نكتبه، وقلّما تعترضنا صعوبات بالغة، فقصيدة العروض مثلاً قد تستغرق كتابتها ساعة أو ثلاث أو ستّ ساعات، أو عشرة أيّام وعشرة أشهر… بحسب طولها ووزنها وموضوعها، وقصيدة النثر تكتب في دقائق، وهي غالباً ما تكون قصيرة. فالفرق بين القصيدة القديمة والشعر الحرّ كالفرق بين موسيقيّ يعزف على النوتة، ويحرص على تنظيم قطعته فتخرج صحيحة من غير نشاز، وبين عازف آخر يضرب على أيّ وتر، من غير قواعد، ولا يهمّه إن جاءت موسيقاه منتظمة أم مرتبكة.

وقد رأيت شعراء يكتبون قصيدة نثريّة، ويعتمدون على القافية من دون الوزن، وهذا يدلّ على رغبتهم في كتابة الشعر القديم المقفّى، ولكن بسبب عجزهم عن العروض لم يتمكّنوا من إنجاز النصف الآخر الأكثر صعوبة. وقد كتبتُ كثيراً عن هذه الطريقة التي تنقل الشعر إلى مستوى السجع، وهو غير مستحبّ عند العرب.

إنّ الشعراء الحقيقيّين هم الذين بدأوا بالكتابة منذ نعومة أظفارهم، فقد ولدوا شعراء، وعاشوا مبدعين. وكم هو صعب على الشاعر أن ترافقه أينما حلّ، لعنة التمييز والعنصريّة، لا لشيء، إلاّ لأنّه يحلّق في غير سربه، ويذهب إلى حيث لا يجرؤ الكثيرون.

ولقد بلغ الحقد على شعر التفعيلة إلى حدّ اعتبار كلّ شاعر يكتبه، مغضوباً عليه، وفارّاً من العدالة، وخارجاً عن كلّ تصنيف عادل، فلا يحقّ له أن يكون حداثيّاً، ولو كتب أيضاً قصيدة النثر وأجاد فيها.

***

*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع

اترك رد