د. جوزاف ياغي الجميل
حدث في أيام الجوع” قصة من التاريخ الاجتماعيّ دبّجها يراع الأديب المهجريّ الدكتور جميل ميلاد الدويهي.
في هذه القصة نقاط كثيرة جديرة بالملاحظة والإضاءة. ولكن الأبرز بين هذه النقاط الصلة الوطيدة المحكمة الربط بين الماضي والحاضر. فهل يعيد التاريخ نفسه؟
التاريخ الظاهر في القصة هو مرحلة الحرب العالميّة الأولى، في لبنان، حين أعلنت الدول الكبرى حصارها على المنطقة، من الخارج، وأتى الجراد ليحاصر الداخل، ويقضي على كل أمل پالحياة الحرة الكريمة. فبدأ زمن الجوع، واستمات المواطن اللبناني، في سبيل لقمة عيشه.
إنها حياة مغمّسة بالذلّ، والجوع.
إنها حياة اللاحياة. وفي ذلك يقول الدويهي: “أصبحت لقمة العيش تساوي الوجود…واضطر الناس إلى قتل حيواناتهم الأليفة وأكلها”(ص ٨).
أنْ تكون حياة الإنسان مرتهنة بلقمة…واللقمة مفقودة، على مائدة الكرامة الإنسانيّة المغتصبة، فهذا هو الموت قبل الموت. كثيرة مشاهد الجوع، في القصة. والأسوأ منها أن يضحّي الإنسان بحياته، في سبيل إطعام عائلته. وهل أقسى من موقفِ أمِِّ تدفع ولدها إلى السرقة، على الرغم من الأخطار المحدقة . يقول الصبي:” ولماذا تدفعين بي دفعا إلى الإثم؟” فتجيب الوالدة:”أنت الوحيد الذي يستطيع أن ينقذنا من الموت”(ص ١٣).
الخوف من الموت جوعاً دفع الصبيَّ إلى السرقة. حاول أن يسرق نعجة فضربه الراعي، وكاد يقتله.
الخوف من الموت سبّب عراكا بين الأب والراعي كانت نتيجته موت الاثنين.
إنها ثنائية الجوع والموت، مأساة حاول الاديب الدويهي أن يعاقب شخصيات قصصه للجرائم التي ارتكبوها بحق أنفسهم، وبحق الإنسانية: كان الراعي قاسياً، قتل الرحمة في داخله، وضرب عبد الله ضربا مبرحا، حين سرق نعجته، فقتله أبو عبد الله. ومات الأب بدوره متأثرًا بجراحه.
كان عبد الله سارقا، ومهرّبا، فضُرب وعُذّب وسُجن، ثم استطاع الفرار من السجن.
الامّ لم تنجُ، أيضاً، من العقاب، لأنها حرّضت ولدَها على السرقة، وباعت ابنتها من أجل لقمة العيش. خافت على نفسها وعلى أولادها من الموت جوعا، فماتت مرات ومرات، في مقتل زوجها، وبيع ابنتها، وسجن ابنها، قبل أن تلفظ الروح، على يدي زوج ابنتها، منصور.
هذا في الظاهر، أما التاريخ الباطن فهو تاريخ جديد، حاضر، يبدأ بعد انفجار مرفأ بيروت، في الرابع من آب ٢٠٢٠. وتشير إليه افتتاحية الكتاب، حيث يقول المؤلف:” شهر آب. الحرارة خانقة”
هذا الزمن البسيط يكشف إطار القصة كلها: اختناق ليس بسبب حرارة الطقس المرتفعة، بل بسبب اختناق نفسي أصاب الكاتب، إثر تلك الفاجعة الرهيبة.
إنه التاريخ الجديد، بعد مرور مائة سنة ونيف على الجوع المادي، في الحرب العالمية الكبرى.
إنه زمن الجوع المتجدّد في ذات الإنسان اللبناني، بعدما سيطر واقع الفساد، على حياته، وأصبحت “السرقة وظيفة” ترتكب في وضح النهار، لا في الليل، وغابت العدالة الاجتماعية وانتشر القتل الماديّ والأخلاقيّ والنفسيّ.
في التاريخ الباطن الجديد مظاهر نقد اجتماعي يبدأ بالسخرية من واقع الحال، في لبنان، في القرن الحادي والعشرين،، ولا ينتهي.
يقول الاديب الإنكليزي جورج برنارد شو:”إن الحضارة لن تتقدم بغير النقد، ولا مناص لها كي تتجنّب العفن والركود من إعلان حرية المناقشة”.
والمناقشة، في القاموس الدويهي، تعني الثورة، الثورة على الذات وعلى الآخر، في آن.
تغوص القصة في محيط النقدين الاجتماعي والسياسي، وتكشف عري المجتمع، والآفات التي يتخبّط فيها، بعدما غابت العدالة الاجتماعيّة، وانتشرت ثقافة الفساد والإفساد.
ولكنها تطفو، على سطح الواقع/الحلم، حين يمنح الكاتب شخصياته حرّية التصرف، في مواجهة قدريّة فوقيّة طاغية. وحرية التصرف تعني السير في اتجاهين متضادين: الرضوخ أو الثورة، الجريمة أوصحوة الضمير. وحين تصبح الجريمة رديفة للثورة، تنكسر مرآة الواقع، ويبدأ الحلم.
بين الواقع والحلم كان تمرّد سلمى، والأصح أن نطلق عليه ثورة; لأنها رفضت وحشية زوجها، منصور، وواجهته حتى القتل، قتله هو. وكأن قتله كان انتقاما لكل النساء المستعبدات، وتدميرا لطبقة اجتماعية/سياسية فقدت معنى القيم الإنسانية.
أكثر من ذلك، كان قتل منصور، أو إعدامه، صرخة الحرية في مواجهة الأغلال، بل صرخة الخير، في وجه الشر، والموقفَ الأخير في سردية طغى عليها الصراع واليأس والموت النار في نهاية القصّة رمز الحرية. النار التي أشعلت الغرفة البحرية، الخاصة بمنصور، وحوّلتها إلى رماد، هي نار المعرفة البروميثيوسية التي أعطاها لكاوا الحداد، خرجت من قنديل الحكمة الديوجينية، وأصبحت نار التشكل/الأصل، نار الكينونة.
“حدث في أيام الجوع” ليست قصّة سردية تاريخية فحسب، بل قصّة فلسفية اخترقت جذور النفس البشرية، إلى الأعماق، وأرّخت لتاريخ إنسانيّ جديد، عماده الهدم في سبيل البناء، بناء حضارة القيم والنور على أنقاض مدن التيه والموت والظلام.
***
*تضاف إلى كتاب خاص بالجلسة الحوارية ، يصدر قريبا من أفكار اغترابية.