المعلّم الكبير رمز لنا جميعاً
نستوحي دائماً شخصيّة سقراط، المعلّم الكبير، كذبابة تطنّ عندما يحاول أهل أثينا النوم، الأكثر حكمة بين البشر في عصره، العارف كثيراً، والجاهل لنفسه وكيف يكون المرء إنساناً.
كان لأفلاطون وأرسطو حظّ أوفر في التدوين، لكنّ سقراط الذي عاش قبل 2500 سنة من الآن، كان كبير الفلاسفة، في عصر ديمقراطيّ لم يرغب به، مثلنا تماماً عندما ننظر إلى الديمقراطيّة الملتويّة التي تقودها جماهير متحمّسة، تفقد صوابها، وتأتي بفاقدي صواب ليحكموا.
وما حدث في أثينا، في عهد سقراط، كان كوميديا بالفعل، فقد كان مطلوبًا من أيّ ذكر يزيد عمره عن 20 عامًا أن يشارك في السلطة، وكان يتمّ اختيار المرشّحين من خلال سحب أوراق. وكان هؤلاء المنتخبون عشوائيّاً قادرين على اتّخاذ قرارات كبرى، كالذهاب إلى الحرب.
سقراط كان مختلفاً عن هؤلاء، وعن كلّ تلك الحركة السياسيّة في زمانه، ويروى عنه أنّه في خضمّ مشكلة لم يستطع حلّها فكريّا، أثناء كونه جنديّاً يونانيّاً في الحرب ضدّ الفرس، رفض التحرّك. ظنّ الجنود الآخرون أنّه يقف في رهبة، أو يصلّي. ثمّ اكتشفوا أنّه ليس عاجزاً عن المشي، لكنّه يريد أن يمشي فقط في الاتّجاه الصحيح، وهو لا يعرف ما هو هذا الاتجاه.
أعتقد أنّ أشياء كثيرة تحدث لنا من هذا القبيل، سواء كنّا وحيدين أو مع الجماعة. وعندما نهتدي نضيع أيضاً.
ولم يكتب سقراط أفكاره، فضاع الكثير منها، ولولا تلميذه أفلاطون لما عرفنا شيئاً عنه، فقد دوّن هذا الأخير بعضاً من آرائه وأقواله وأعماله اليوميّة. وكان مثلنا كلّنا، عاجزاً عن المعرفة، والفرق بيننا وبينه أنّنا ندّعي المعرفة، وكان يعرف أكثر منّا ولا يدّعي، وكانت عنده مشكلة الحيرة، حتّى في موضوع القداسة، مع أنّه كان مؤمناً بالآلهة الإغريقيّة: “ما هي القداسة؟ لأنني لن أستسلم طوعًا حتّى أتعلّم”. هكذا يقول، لو طَرح أحدنا هذه الإشكاليّة – السؤال نفسه في عصرنا الحاضر، لكان عليه أن يتوقّع تكْفيره، أو اعتباره غير متديّن.
ديمقراطيّة مزيّفة
كما يحدث اليوم، من شعارات مزيّفة: المساواة، الديمقراطيّة، الحرّيّة، وحقوق الإنسان… كانت أثينا تعيش حالة من الديمقراطيّة غير الصحيحة، والتي تؤدّي إلى خراب المجتمعات، فليس من العدل أن ينتخب الناس حاكماً غير عادل!ولو اغتصب السلطة حاكمٌ عادلٌ من غير انتخاب، لكن أفضل بكثير من المنافق الذي تفرضه سلطة الشعب الأهوج. لكنّ الشعب الأهوج نفسه المغرور بالديمقراطيّة سينتفض على مغتصِب السلطة وإن يكن من الآلهة المعصومين، وسيعاقِب كلّ من يدافع عن “الخطأ”. لذلك سئم المواطنون في أثينا، أمّ الحضارة والشعر والموسيقى والفلسفة والحرب، من أسئلة سقراط، فاجتمعت الغالبيّة الحمقاء واتّهمته بمحاولة استبدال الآلهة، وإفساد الجيل الطالع.
وأغلب الظنّ أنّ سقراط تبنّى هذه الفكرة التي اعتنقها قبله هيرقليطس. وكان الأخير رافضاً لفكرة النظام الديمقراطيّ القديم، مفضّلاً أن يتولّى الرجال الواعون والمثقّفون إدارة البلاد. كما أنّ أفلاطون دعا، بعد سقراط، إلى فكرة الحاكم – الفيلسوف.
وقصّة سجن سقراط معروفة، وأصبحت مضرب المثل، بل ملهمة لطائفة من المفكّرين الشجعان الذين يواجهون المخارز بالعيون المجرّدة. كان سقراط مسجونًا. وخطّط أتباعه لهروبه، وفتح له الحارس باب السجن، فرفض المغادرة، فالحياة نفسها، في نظره، ليست بذات قيمة. وأغلب الظنّ أنّ الفيلسوف العظيم لم يشأ الفرار لكي لا يسجّل نقطة الجبانة على نفسه، وثانياً لكي لا يشوّه القانون، فيصبح الهرب حالة شائعة، وثالثاً، لكي لا يورّط أبرياء في قضيّة هربه، فينجو هو، ويحاكَموا هم.
هذا تحليل شخصيّ من قبلي، ربّما لأنّني أحبّ هذا الرجل، ولو عاد حيّاً، لمشيت خلفه كواحد من تلاميذه، وهو يشبه المعلّم الأكبر الذي جاء هو أيضاً إلى أورشليم قاتلة الأنبياء، وكلاهما واجه المصير نفسه من مجتمع لا يقبل الشجاعة والكلمة الحرّة.
كان سقراط بريئاً، ولم يرتكب أيّ جرم سوى الإدلاء بما رآه مناسباً أكثر للحياة السياسيّة والاجتماعيّة آنذاك، وهكذا يدفع العظماء ضريبة الدم في بيئة لا تفهم أبعاد فكرهم، وإذا فهمتها فبطريقة خاطئة. ولم يكن سقراط جباناً في المحكمة، بل واجه التُّهم برباطة جأش، ولم يكن القضاء خائفاً من تفكيره فقط، بل كذلك من الأثينيّين الآخرين الذين قد يقتنعون بما يدعو إليه. وهذه الظاهرة القضائيّة الصادمة نراها في كلّ العصور، حيث لا يكون العيب في الكلمة الحقّة نفسها، بل في مَن يسمعونها ويتغيّرون من خلالها. إنّها ضريبة الرسل والباحثين عن الحقّ والفضيلة!
قتلتْ أثينا رجلاً يدعى سقراط القائل: “إذا كنت ستقتلني، فلن تجد بسهولة شخصًا مثلي”. وصوّتت الأغلبيّة الديمقراطيّة بالإجماع على إعدامه بشرب السمّ. فمضى من الكهف إلى النور، وهو الكهف نفسه الذي شكّل إحدى نظريّات تلميذه أفلاطون، ومفادها أنّ سجناء محبوسين في كهف، كان يمكنهم رؤية ظلال الحرّاس العابرين المنعكسة على الحائط، وأصداء العالم من خلفهم. وتمكّن أحد هؤلاء السجناء من الفرار، فلاحظ عند خروجه إلى العراء سطوع الضوء – المعرفة، وكان الضوء غير مريح بعد سنوات من العيش في الظلام.
ويجادل أفلاطون بأنّ السجين الهارب سيدرك أنّ الحياة في الخارج أفضل بكثير من الحياة داخل الكهف. وكان يعود ويشجّع السجناء على تحرير أنفسهم والنظر حولهم. لكنّ الراحة المتأتّية من إيمانهم بعالم الظلال والصدى، هي قوّة هائلة لا يمكنهم التغلّب عليها.
يقول أفلاطون إنّ السجناء، وبسبب الخوف ممّا ينتظرهم خارج الكهف، سيردّون بعنف على الأسير المفرج عنه، الذي يطالبهم بالخروج من الظلام ومعانقة النور، وقد يقتلونه من أجل الحفاظ على السلام الذي يعتقدون أنّه موجود.
أعتقد أنّ أفلاطون كان يلمّح إلى معلّمه سقراط، الذي خرج من كهف أثينا ليصرخ بالحقيقة: هبّوا إلى الشمس، إلى العراء، إلى الحرّيّة، غير أنّ الناس الذين اعتادوا على العيش في نظام معروف ومحدّد، كدائرة مغلقة، رفضوا دعوته، بل قتلوه للحفاظ على السلام الذي اقتنعوا بأنّه كائن في دواخلهم.
سقراط رمز لنا، ولما نعانيه ونختبره كلّ يوم!