1- نصّ من الرواية: تمرّد سلمى
الصبر لا يعيد كرامتي المهدورة على الأرض، يحرسها اللصوص والملاعين، ويتقاذفها الأغنياء بأقدامهم، وليس بأيديهم… كلّ ذلك، لأنّني صرت خادمة لإنسان جشع، وتغيّرت هويّتي من فتاة بريئة إلى امرأة تعلكها المأساة، وترميها على الرصيف… لو كنت أشحذ في الشارع لقمة أو حبّة زيتون، لكنت أفضل بكثير ممّا أنا فيه، ولَمَا كـان الندم يمضغ أحشائي.
-هوّني عليك يا ابنتي… لا تغضبي وتنفعلي… هذا هو قدرنا… القدر مكتوب على جباهنا من قبل أن نولد…
قالت الأمّ ذلك، وانتابها سعال، فقرّبت إليها سلمى كوباً من الماء. شربته على عجل، واستلقت إلى الوراء منهوكة القوى.
قالت الابنة: لا أصدّق أنّ كلّ ما نعيشه مكتوب علينا. يمكننا أن نختار أحياناً، فالله خلق لنا عقلاً لنفكّر، ولا نسلّم عمرنا كلّه للأقدار… إنّ الذين جعلوا القدر حجّة لسقوطهم، هم الضعفاء الذين يبحثون دائماً عن غطاء لخيباتهم. وأنا كنت من هؤلاء، لكن ليس بمشيئتي، بل دفعني الزمان إلى الهاوية، وصرت أحقر من نبتة يابسة على جدار العدم واليأس… لو أخبرت عبدالله بما يفعله منصور بي، لعلّق مشنقته على الشجرة… لكنّه شابّ بريء، لا أريد له لأن يتورّط في جريمة… والموت عندي أهون بكثير من أن أفضي له بكلّ ما في قلبي من دمار… وأنا الآن أموت ألف مرّة، وليتني قتلت نفسي ولم أجدها مخضّبة بالوحول!
-لم أكن أعلم يا ابنتي أنّ طباع منصور سيّئة إلى هذا الحدّ… جارتنا أمّ سليمان جاءت به إلينا، وقالت إنّه رجل صالح، وستكونين معه في أمان، فصدّقتُ زعمها، وحدث ما حدث…
-إنّه محتال وخبيث، ولا يكلّف نفسه عملاً، بل يلجأ إلى هذا وذاك، ويخادع للحصول على المال… وعندما سُدّت أبواب الرزق الحرام في وجهه، اهتدى إلى طريقة هي الأكثر سوءاً وفجوراً من كلّ طــــرقه الملتوية.
وكنت الضحيّة تحت يد الجلاّد.
-لا تقولي ذلك… نجّانا الله من العاقبة والفضيحة!
-سلّمتُ أمري إلى الله، وهو يأخذ حقّي، ويحاسب كلّ امرئ على أعماله. والله يعرف كم أنا ضعيفة، وكم إنّ جسدي الهزيل لا يحتمل قساوة الدنيا!…
لاذت سلمى ببعض السكون، وانزوت وهي مطرقة،كأنّها غائبة عن العالم. إنّها المرّة الأولى، منذ تزوّجت من منصور، التي تجرؤ فيها على شكوى مغلّفة بالثورة… فقد كانت في الماضي تصطنع الرضى، ولا ترفض أمراً مقضيّاً، ولا تتذكّر أنّها انتفضت ضدّ الواقع المرير الذي يحيط بها، ويشدّ بأصابعه على عنقها، فتكاد تختنق.
إنّه عالم منصور ومَن يشبهونه… وهل لمنصور شبه؟ وهل يعامل أحد امرأته كما يعامل هو زوجته؟ وهل هو من الرجال الذين يموتون ولا يقبلون بأن تكون المرأة التي يحبّونها ذليلة ومهانة؟
لا. هو ليس من هذه الفئة، بل مستهتر، غليظ الطباع، ساخر من كلّ ما يراه أو يسمعه، طامع بالمال وبأيّ طريقة، ولو بإهراق ماء الوجه…
عادت سلوى من زيارة أمّها، تخبط قدماها الأرض خبط عشواء، وهي تترنّح، وتكاد تسقط. كان في عينيها لمعان غريب، هو التمرّد بذاته… فهي قد ولدت من جديد امرأة مختلفة، وجعلت من ضعفها طاقةً كنور الشمس. وكأنّها قرّرت أن تحطّم بيديها الطريّتين شرنقة السكوت التي التفّت حولها، خلال الشهور الماضية. وتسلّحت بالموقف الشجاع… لكنّها لا تعرف ما هي الطريقة التي ستواجه بها منصور فيما بعد. فقد تتشاجر معه، وتقتله أو يقتلها… وقد يتفاجأ الرجل اللئيم من تغيّر طباعها، وتعامُلِها معه بطريقة لم يعهدها من قبل، ورفضها المطلق لإرادة الشرّ، وتحوّلها بسحر ساحر، من طفلة بريئة وهادئة، إلى امرأة قويّة ومعاندة، تهشّم الوجود بأظافرها، وتهاجم أيّ عدوٍّ لدودٍ يتربّص بها.
نزلت دمعتان من مقلتي سلمى، فمسحتهما على عجل. لم تكن الدمعتان علامة على الضعف والاستسلام، بل عمادة جديدة، وولادة من أتون المعاناة…
إنّ الإنسان الذي لا يملك القدرة على أن ينهض من رماده، وينتفض على الظلام والاستبداد، لا يستحقّ أن يعيش في ظلال الشرف… والحرّيّة التي تخرج من العتمة، ومن سلاسل الحديد والصدإ، لتنشر الشمس في الأرجاء كلّها، هي الأيقونة التي ترتفع بها النفوس إلى فوق، إلى حيث لا تصل أيادي المستبدّين.
2- قراءة د. سحر نبيه حيدر
يطرح د جميل الدويهي في هذا النص، المُقتطع من رواية “حدث في أيّام الجوع”، مفاهيم جوهريّة أساسية لا يمكن التغاضي عنها أو إغفالها. تطال هذه المفاهيم محاور عدة: العنف، الحرية، الكرامة، الثورة، القدَر… يضعُها تحت المجهر علنا ننتفض من موتِنا البشري ونتحرّر من عُبودية المادة وهيمنة الأنا وإلغاء الآخر.
ينطلق من ظاهرة العُنف تجاه المرأة، وهي قضية تاريخيّة لا حدود لها ولا يمكن حصرُها في نوعٍ أو شكلٍ أو فئة أو جنسيّة أو حتى عُمر. تساؤلات كثيرة تُثير جدليّة قديمة مُتجددة، تشكّل علامات استفهام حول مكانة المرأة، خضوعها، خنوعها: هل بيع الجسد، مسألة آنية، ظرفية أو مكانية يحرّكها الجوع وتُمسِك بخيوطها حروب أو مؤسسات أو الفقر والعوز!؟ هل الذكورية حِكرٌ على “منطقة” ما أو حقبة زمانية محدّدة، أم أنها محصورة حُكمًا ضمن حدودِنا الشرقية!؟ وهل المقايضة “بالأرواح” والنفوس والفئات “المستضعَفة والمُهمَّشة” مُقابل المال أو “لُقمة خُبز” أو حتى الرّبح السريع، مقرونة أبدًا بالوضع الاقتصادي أو السياسي او الاجتماعي للإنسان؟! أم أنها ثقافةٌ مُهترئة، تُهيمن على العقول الصّدئة، تتحكّم بها تربيةٌ متخلّفة ونفوسٌ مريضة وقلوبٌ لا تعرف معنى الإنسانية….
هذه “الرواية” تختصر واقعًا أليمًا نحياه نحن ومن نحبّ في وطنٍ يحتضر. بطلتنا “سلمى” أنموذج لكثيرات اغتصب القدر براءتهن وسلب منهن إنسانية انصهرت تحت أقدام البؤس واليأس والظُلم، لكنهن أبين إلا أن يقفن في وجه القهر. “هي حكاية كلّ امرأة تتعرّض للبيع في سوق النخاسة الجديد. وماذا يبقى من المرأة إذا فقدت كرامتها، وأصبحت بضاعة معروضة؟” (ص 75). منتفضات ثائرات على كلّ ما خضعن له في وقتٍ ما ولظرفٍ فاق قدرتهن على مقاومته في حينه. تمرّد سلمى أنموذج لتمرّدنا الداخلي وصرختِنا المكتومة، رسالةٌ لوعينا الهارِب من ذاته يستنهضُ البَوح والتمرّد والمقاومة “تحوّلها من طفلة بريئة وهادئة، إلى امرأة قويّة ومعاندة، تهشّم الوجود بأظافرها” (ص79).
أين نحن من ثقافة الإنسان ووجوده وكيانه وفرادته؟!
أين نحن من تحرُّر الفِكر والعقل لا تحرُّر الأبدان والانحِلال والتفلّت!؟
يعود الدكتور “الجميل” لينقلنا في هذا النصّ القصير إلى مسألة أخرى تخاطب كلّ واحد منا في عُمقه، مسألة القدَرية والجبريّة. اعتدنا على سماع مقولة “هذا قدرُنا” وكأن الأمور تجري دائمًا وفق مشيئة ما، لا طاقة لنا على ردّها أو تغييرها. تحترق أرواحُنا وأفكارُنا ويطمُسها الظلام وتدوسها أقدام من تجاهلوا أننا كراماتٌ تسير على الأرض، لا أحجار يلعب الوهم والفقر والطمع بمصائرها…مسألة التسيير والتمييز، مسألةٌ قديمة، شغلت المفكرين والفلاسفة على مدى عصور، ولم يصل الكثير من الباحثين إلى نقطة عمليّة في سَبر أغوارها، يُثيرها د. جميل الدويهي بوضوحٍ فاضح على لسان سلمى “لا أصدّق أنّ كلّ ما نعيشه مكتوبٌ علينا”. يأتيها مستندًا على خلفيته العلمية الفلسفية والأدبية والدينية، مؤكدًا على نقطة مهمّة ألا وهي فكرة النسبيّة. نحن أي البشر، لدينا إرادة نسبيّة نميّز بها أعمالَنا اليوميّة وتجعلنا مسؤولين أمام الآخر عمّا يصدر عنّا من تصرّفات. هذه الإرادة تعطينا الحقّ في مؤاخذة غيرنا ومؤاخذة أنفسنا. وهي نسبيّةٌ محكومةٌ بظروف قد تكون خارجة عن إرادتنا، مدفوعةٌ بعوامل خارجة عنها. ربما كانت قوانين الطبيعة او “المُصادفة” التي لا نعرف قوانينها أو حتى مجموعة أمور لم نفهم كُنهها نعزوها إلى القدَريّة: “إنّ الذين جعلوا القدَر حجة لسقوطهم هم الضعفاء الذين يبحثون دائمًا عن غطاء لخيباتهم” (ص 77). تظهرفي رواية الدويهي تحت مظلة الجوع والمرض وربما الضعف والقوة البشرية، وعوامل كثيرة ليس من السهل حصرها. لكن وبحسب رأي الكاتب إنّ الإنسان قادرٌ على تجاوز بعض الأمور وتشكيلها متى احتكم إلى صوت الضمير وسلك الطريق الأصعب ربما، ولا بدّ من أن ينقذه من الضلال المحتّم: “لقد غيرت نفسي، ونفضت عني غبار الماضي، اعتزلت كلّ تصرّف أحمق ومنافٍ للنظام وعدت إلى حياة العقلاء…” (ص 87-88).
إنّه أدب الحياة ورسوله هنا، صلبٌ عنيد يأبى التسليم… إنّه الدويهي، رائدُ النهضة الاغترابية الثانية، يُحاكي واقعًا نعيشه، يحياه “هو” في غُربته. حاملًا جُرح الوطن وصمةَ صدقٍ يُناغي فيها عقول من أدمنوا الانصياع… يحاول بثباتٍ وعزيمة رفع بيارق العزّ في زمن الانكسار. يحلُم بوطنٍ نصنعُه جميعنا بالإرادة الحق، إرادة التغيير ونظرتنا الإيجابية للأمور وتوقنا إلى الحرية وعدم الرضا والاستسلام الأعمى. يحضّنا على رفض الواقع المرير من خلال رواية تجسّد الواقع بلغةٍ منمّقة، ” المهمة ليست سهلة ومحفوفة بالمخاطر” (ص82)، ويدعونا على لسان أبطاله إلى “تحطيم شرنقة السكوت والتسلّح بالشجاعة”(ص 78). يؤمن بإمكانية أن ننتفض ونميّز وننحرف عن المسار “المقدّر” لنا إن نحن شِئنا… هي مسألة شخصيّة تقوم على مدى تحمّل الانسان- الفرد لمسؤولياته، حيث تفوق لغة العقل والمنطق الواعد على لغة القلب والخُنوع الأعمى.
لم يتأفّف يومًا بل شرع بثباتٍ وعزم وسعة إطلاع في بناء صرحٍ حضاريّ يقوم على أعمدة مطمورة تحت الأرض غير طامعٍ بمجدٍ أو شهرة، فالناس “يرون الصرح الكبير ولا يرون قط الأعمدة المطمورة”، نراه شامخًا غير متعالٍ في زمن قلة المروءة وانهيار المبادئ والقيم، يحيا الحبّ الحقيقي. حُبٌ غير مشروط، وإن كان حبيبُه “مختلًا”، مشوّهًا (وأعني به هنا حُبّ الوطن)، حُبٌ مُتجدد يولد في كلّ مرةٍ بحلةٍ جديدة من خلال رواية أو قصص قصيرةٍ أو حتى شِعر “المحنة هي التي تُظهر معنى الحُبّ”.
جميل الدويهي عاشقٌ حتى الوجع، متفانٍ إلى أقسى درجات العطاء، لم يغادر الوطن ذاكرته. يحلُم به أجمل من ذي قبل، في زمنٍ “تخلّى فيه الناس عن انسانيتهم وتمسّكوا بحبل النجاة ولو على حساب الآخرين، يستميتون من أجل النزر اليسير” (ص 20). زمنٌ بات فيه الصدقُ جريمة والدفاعُ عن الحق مناقضًا للفضيلة. زمنٌ تحكّمت به القسوة وساد فيه التسلط الهمجي وطغت عليه عنجهيةٌ واهنة… نحيا التمرّد ولا نتمرّد. يُناضل على طريقته ” فلا أحد ينال المجد الا بسلام الكلمة ولا أحد ينجو برصاصة الشرّ” (ص 66). يحرّضنا على التمرّد “تجبرنا العتمة على الرحيل فنجد مكانًا آخر فيه شمس، ونمزّق ثياب الليل عن أجسادنا” (ص 67) لأننا “إذا فقدنا كرامتَنا لا يعود للحياة معنى” (ص 76).
جميعنا تحيا في أعماقه ثورة قد تكون مُختلفة لكنها من المؤكد ثورة على القمع والظُلم واللا إنصاف. نعاني من جَورِ مُرعب وتئنّ إنسانيتنا بصمتٍ مُدقع. نزغرد للموت ونفرحُ لرغيف خُبر “نتنٍ” نلناه “حظوة” تحتاجُه أفواهُنا الصارخة من جوعٍ أدمناه..
تمرّد سلمى نداء استغاثة أطلقه د. جميل الدويهي محذّرًا من عواقب الرضوخ الأعمى:” إن الإنسان الذي لا يملك القُدرة على أن ينهض من رمادِه، وينتفض على الظلام والاستبداد لا يستحقّ أن يعيش في ظلال الشرف” (ص 79).
“حدث في أيام الجوع” أم حدث في زمن “الوجع”!؟ نعم يا سادة هو زمن الجوع… جوعٌ إلى الحرية الفكريّة والتحرّر الملموس من محكومية المادة…
جوعٌ إلى العُنفوان والكرامة والرقي الإنساني…
جوعٌ إلى وجودِنا وكرامتنا وكياننا.
إنه الوجع، إنه الموت البطيء الذي لا يشفى إلا بقوة مِبضع حاذق..
نحن أمام مسألة خطيرة، فلنعِ ِونتمرّد. فلنفتح أعينَنا ونُعلي الصوت ونُعلن الثورة الحقيقية، ثورة الحقّ في الوجود، علنا نُمسي نقطة فاصلة على غرار د. جميل الدويهي. ولنقف متّحدين متحدّين كلّ طغيان علّنا نصنع التغيير بأقلامنا وأفكارنا وصحوة ضمائر ملّت الانتظار. ولتكن سِمتُنا “عِمادة جديدة ووِلادة من أتون المعاناة” (ص 97)
قبل أن أختم اسمحوا لي أن أشدَّ على يد الصديق الصادق د. جميل الدويهي وأرفع معه الصوت قائلةً: “أيها الناس، رفقًا بالزجاج الشفّاف، لأنه إذا خُدش تشوهت صورتُكم فيه… وإذا تكسّر، تجرّحت أيديكم وضمائرُكم النائمة. فاهتدوا واتركوا للصدق حرية الكلام”.
***
*مشاركة د. سحر نبيه حيدر في الجلسة الحواريّة حول رواية الأديب د. جميل الدويهي “حدثَ في أيّام الجوع” (تصدر قريباً في كتاب خاصّ من مشروع “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي).
*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي – سيدني النهضة الاغترابيّة الثانية- تعدّد الأنواع.