بقلم: الشاعر محمد رفعت الدومي
ينتصب ليل الدومة كمأذنة مهجورة خلال وشائج جلية، وشائهة، من الخواء الروحيِّ القاتل، وتتجلي ألوان البهجة في أدني بقعةٍ في الظلِّ حدثاً باهظاً، ينخرط في لهجات المتعبين غابة من الأيام قبل تحققه، وغابة من الأيام بعده، وتجد الحضرة الشومانية، حتى بعد أن واجهت إلغاءها، التعبير عنها في الكثير من النبض الشهير في أوردة الليالي الخوالي، والقادمة، التي وزعت، وتوزع، نقاط البهجة في أفق الدومة الآسن .
وحتي كتابة هذه السطور، لا يزال الريش يتطاير من جيوب ذاكرة الدومة الكلية، فينساب في سطحها شلالٌ من العصافير لا يصدأ، ولا يواجه إلغاءه، تكريماً لذكرى الأخوين ” أحمد ومحمد أبوشومان” المرحومين ..
يدق الأخوان أحمد ومحمد أبو شومان طبلتيهما على نحو مذعور، ولكنه حميم، قبل سلة من الأمتار من مظان الحضرة، فتستقبل النساء وفادتهما بالزغاريد، تستخف بعض الصغار نار المرح الداخلي فينزعون ثيابهم، ويصير الصخب ممتلئاً حتى كأنه هدوء، ويندمج مع الهمس، والأسرار الخفية، وأصداء البيوت، وحفيف الأشجار في الحقول، ونقيق الضفادع، وخفقات أجنحة الفراشات السحيقة، وانتفاضات البهائم في الحظائر تنفض الغبار والحشرات عن جلودها، فيشتعل الليل كفضيحة، وتصبح نار المرح الداخلي تعبيراً محمياً لا يتسع له الكثيرون .
يدق الأخوان لدقيقتين طبلتيهما وقلبي، واقفين في صدر المكان وقلبي، ثم تهبط حدة الإيقاع تدريجياً، حتي يتفتت تدريجياً إلى شكوك غامضة، تتابع خفوتها، ثم، فجأة، تتلاشى، لتتماسك من جديد عقب انتهاء طقوس العشاء، وتنتظم حلقات الذكر انتظاماً ركيكاً في البداية، لا يلبث أن يحتشد، وتتحول الأجساد إلى جمل روحية، عندما يتأكد العم محمد أبو شومان من إمساكه التام بأزمة الرجال المترنحين على الحافة الغامضة، وفي لحظة معايرة بعناية خاصة، يبدأ في ترديد العديد من الحكايات الأسطورية عن السيد أحمد البدوي، الذي .. أبو بطن واسعة، والذي شرب ماء البحر برشفة واحدة ليعيد طفلاً غريقاً إلى أمه، والذي .. كان المريدون يلتقطون بيض طيور الفردوس من صومعته ، وفي الحقيقة، لم يقل العم محمد لنا وللتاريخ، هل كان ذلك البيض نيئاً أو مسلوقاً أو مشوياً في نار جهنم؟ أو لم أفهم علي أية حال، ولكن ذكرى مشابهة، وهزي إليك بجذع النخلة، تدفعني إلى يقين بأنه كان نيئاً، ليدرك الذين يفضلونه مسلوقاً أو مشوياً قيمة العمل!.
وتعبر الأساطير تباعاً من نفس إلى نفس، خلال الفجوات الذهنية، تحت درع ثقيل من الاعوجاج الفكري، دون عائق، بل والإيمان الطليق في صحتها، أو هكذا يظن الحمقى، هم أكثر خبثاً بالتأكيد الزائد عن الحد، وهم لا يصدقون إلا ما يرون ويلمسون، لقد اتخذوا من التعايش السلميِّ مع كل المعتقدات درعاً يحرسون به بقاءهم، تقليد دوميٌّ خاص، وهذا يقودني إلى حكاية طريفة، ورائجة، للعم محمد أبو شومان، تعكس المشهد كاملاً، وتشوهه تماماً .
كان العم محمد ذات ليلةٍ مستغرقاً في حالته تماماً ، وكان يردد ، بنغم سكَّري :
ساكن طنطا ، وفـ مكة صلاااااتو ! –
واقتحمت حالته، فجأة، زوجته، الخالة صديقة، مذعورة، وألقت عليه نبأ شجار عائليٍّ كان لا يزال نشطاً حول بيوتهم، وأضافت، أن العم “حلاتو” كان في زيارة للدومة، وتدخَّل كطرف أصيل في المعركة، فتحلل تعبير الرضا على وجهه إلى غضب، ويبدو أنه لم يتمكن من الانسحاب من حالته في الوقت المناسب، وربما كان الغيظ، وربما الذعر من تهور العمِّ حلاتو، هو ما جعله يصعد بالإيقاع إلى ذروة العنف، واستأنف الإنشاد بشكل مروع، وهو يتساءل، بنغم عدائي :
وايش دخَّلو فيها حلااااااتو ؟!! –
تعليق حقيقيٌّ ، بشكل متعصب على أفكارنا السابقة عن الزنادقة، وخبث الزنادقة حيال الحياة .
هناك بعدٌ آخر لشخصية العم محمد أبو شومان العم محمد أبو شومان مؤذن المغرب الدوميِّ في رمضان .
بعدٌ ثالثٌ لا ينتبه إليه الكثير من الدوميين ، أروع مؤذني المغرب في رمضان على الإطلاق .