١-مقطع من الرواية: شعب أسير
هنا الأرض التي تغيب فيها الشمس على مدار الساعة، فكيف نبحث عن مكان؟ أنهدم الجدران السميكة بأيدينا العارية؟ أم نقتلع الحديد بأضراسنا؟ أم ندعو المساجين الآخرين إلى الثورة، وهم عاجزون عن السير بسبب قلّة الطعام والشراب؟ إنّهم مثلنا يحبّون الصباح، وهو بعيد عن أحلامهم وطموحهم. أنا وأنت محكومان لفترة قصيرة، وهناك المئات الذين قد يكونون ولدوا في السجن، ويعيشون فيه حتّى الرمق الأخير. أمّا الناجون حقّاً، فهم الذين حكموا عليهم بالإعدام، فأولئك ساروا من الموت إلى الموت… ولن يعودوا إلى الحياة أبداً… إنّ الـنـاس جميعاً مذنبون…
نحن كلّنا أسرى، لكنّ السجون درجات، فهناك سجون استعباد، وهناك سجون الحرّيّة خارج القضبان، حيث تكون حرّيّة المعذّبين أبشع من العبوديّة. ونحن هنا سجينان عند آلهة يظنّون أنّ الشرائع في أيديهم… ولو فهموا الشرائع جيّداً، لكنّا نحن الحاكمون وهم المحكومون…
٢- قراءة الأستاذ سليمان يوسف ابراهيم:
نحو الأسْر بالإنسانيَة!
يأخذكَ عنوانُ النصّ إلى صورتين مجتمعيّتين عاريتين: شعبٌ أسير يفترضُ حاكمًا آسرًا. شعبٌ يقول، هو اسمُ جمعٍ يشمل مفردًِا، كمًّا من الناسِ كبيرًا، في حالة ظلم. أسير، صفةٌ بدأت في العنوان امتدّت على السياق كلّه أشكالاً متعدّدةَ الشعور بالغثيان بالتقيّؤ!
شعبٌ أسير، يتكلّم عليه الكاتب بنوعين. الأسرُ وراء القضبان، وأسرٌ من دونها… شعبٌ ما له من أحد الأسرين من بدّ! الأسران صنيعُ حكّام يقول فيهم الكاتب “آلهة يظنّون أنّ الشرائع في أيديهم”. والمشكلةُ في ما يطنّون، أنّ الشرائع في اعتبارهم، لخدمتهم دون الشعب، بل في رأيهم أيضًا، تُخضِع الشرائع الشعبَ لخدمةِ “عظمتهم”، يتخمون والشعبُ يجوع!
يُظهرُ النصّ الناسَ كأنّما يفقهون واقعَهم. أقلّه أولئكَ المسجونين خارجَ القضبان، فيتمنّون الموتَ على الذلّ. هم في حريّةٍ، لكنّهم محكومون بالعَذاب، بحياةِ قهرٍ، يتوقون إلى النجاةِ منها ولو بحكم إعدامٍ عدليّ. فالموتُ أشرف من الهوان. هم ناسٌ شرفاءُ مدركون، لا يستطيبون إلاّ كرامةَ عيشٍ أو الموتُ أشرف!
وبعضُ ناسٍ، شعبٌ، مفردٌ ذاتيّ، يعمّم كائنَه عيشُ حالةِ أسرٍ تهيمن على الجميع. هؤلاء تعوّدوا الخنوع، تآلفوا معه. أيّ “شرف” منهم يُرتَجى؟ أيّ أملٍ بنهوض؟
نصّ الدويهيّ هذا، تخاله حوارًا ساكتًا بين الحريّةِ والسجن، المتحدّثان هما الموضوعان نفسُهما، والضدّ يُظهر قبحَه هنا الضدّ! يحصر الكاتب الحريّة بالسجن الكبير، بالعالم الآسرُه الحاكم الظالم: “إنّهم مثلنا يحبّون الصباح، وهو بعيد عن أحلامهم وطموحهم… حيث تكون حرّيّة المعذّبين أبشع من العبوديّة”. هذا أسماه “سجن الحريّة”. طباقٌ واجع إن قلبتَه بانت بشاعتُه: حريّةُ السجن… أوّاه، ربّاه خلّص!
في مكانٍ دعوةٌ إلى ثورة… أيّةُ واحدةٍ إن لم تكن في الفكرِ أوّلاً، في فكر المتنوّرين، العارفين أنّهم الملحُ في الأرض، ديوجين كلّ حاكم قنديلُه يقودُ إلى سطوع الضوء في النفوس!
تحضرُني قولةٌ شائعة: كما تكونون يولّى عليكم. هل فسادُ الحكّام طارئٌ على شعبهم، أم هو وليدُهم، على أساس الحاكم خارجٌ من بني قومه؟ ألا يصنعُ شعبٌ حاكمَه؟ أمَا هو يأتي به إلى السلطة؟ إن كان هذا، وُجبت تهيئةُ الحاكم منذ تنشئته في الجماعة… كأن يجبُ العمل على تنشئة الجماعة فلا يخرج منها إلاّ الصلاّح إلى الحكم، فيضمحلّ الفساد ونُعدم الفاسدين!
أعود وأكرّر حاجةَ كلّ مجتمعٍ إلى “الأنتلّيجنسيا”، النخبة المثقّفة، لتكون العمودَ الفقريّ في تأسيس إدارة الجماعة وسياستها! لتكون المرجع المضيء في ترّهات العالم المغرية… فيترفّع الحاكم وتستقيم الشعوب، مسلكًا وعلاقات!
شعبٌ أسير، ليكن أسير الصلاح… أسيرَ القيم والفضائل، فيخرج من سجون النفس إلى فضاءات الإنسانية!
***
*مشاركة الاستاذ سليمان يوسف ابراهيم في الجلسة الحواريّة حول رواية الأديب د. جميل الدويهي “حدثَ في أيّام الجوع” (تصدر قريباً في كتاب خاصّ من مشروع “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي).
*مشروع الأديب د. جميل الدويهي أفكار اغترابية للأدب الراقي سيدني ٢٠٢٢.