أقامت جامعة الروح القدس – الكسليك وأسرة الاديب الراحل جان فيليب كميد قدّاسًا إلهيًّا لراحة نفسه، في الذكرى السنوية الثانية لرحيله، في كنيسة الروح القدس في حرم الجامعة في الكسليك، تلاه إعلان “جائزة جان كميد للتفوّق الجامعي” في مكتبة الجامعة، أثناء احتفال نظّمه مركز “فينيكس للدراسات اللبنانية” في الجامعة، في حضور نقيب المحرّرين جوزف القصيفي، رئيس اتحاد بلديات كسروان – الفتوح رئيس بلدية جونيه جوان حبيش، الأب جاد القصيفي ممثلًا رئيس الجامعة الأب طلال هاشم، نائب رئيس مجموعة “اندفكو” ربيع افرام، مديرة مدرسة راهبات العائلة المقدسة المارونيات – ساحل علما الأم داليدا الحويك، وعائلة الراحل وأبناء بلدته وأصدقائهم وعدد من الأدباء والشعراء والفاعليات الدينية والثقافية والتربوية والاجتماعية.
زغيب
استهل الاحتفال الذي قدمت له الإعلامية بيرلا نجّار بالنشيد الوطني، ثم ألقى الشاعر هنري زغيب كلمة قال فيها: “تحتفي به جامعة بعض رسالتها أن تحفظ التراث، وتحافظ عليه ذاكرة تستوطن المستقبل، فإِذا به معنا اليوم في رحاب تراثه، وإذا بنا نتحلّق حوله في جلسة استذكار، هو الذي وسم أصدقاءه، أَقْرَبيهم وغائبيهم، شهادات من قلبه سكبها في حبره النقي. وَسَمَهُ الإِيمان رسولًا متصومعًا لأَدب لبنان اللبناني. ولا فرق في الإيمان بين مترسِّل في صومعة القلم، ومتعبد في خلوة غفوى على تلَّة عنَّايا”.
وأضاف: “هذا كاتب من عندنا، أيقونته صوغ من محبة، وكَرَمُه كرْمٌ من عطايا، فلا الدالية تبخل، ولا تتمنَّعُ العناقيد. ممتلئ كسنبلة من حب، متواضع كبنفسجة من نور. لا يومه كان يكفيه ولا أسبوعه، فكان في يومه يبحث عن الساعة الخامسة والعشرين، وفي أُسبوعه يبحث عن اليوم الثامن. وكم نصَّع قلمه نصًّا في تكريم السوى، وكان متعته العطاء ولا منَّة. حسْبه أن يبذر العطاء، ويحصدَ الوفاء، وغالبًا ما كانت البيادر تبادله الوفاء”.
سلموني
وألقت الشاعرة فيكتوريا سلموني كلمة استهلتها بالقول: “أستاذي جان، ليس من عادتي أن أتأخر عن موعدك الأخضر، فمن عشر سنوات بتمامها كتبت لي في جريدة “الأنوار” رسالة من قارئ مجهول، أجّلتُ الجواب عنها ليقيني أنك حاضرٌ دائمًا، فلم يخطر بالبال أنّ مالئ الدنيا وشاغل الناس سيغيب يومًا. وأشعر بك الآن وأنت تطلّ علينا من ملكوت السماء، مبتسمًا سعيدًا باجتماع هذه الوجوه التي أحبّتك، مستمعًا إلى جواب رسالتك الذي تأخر عقدًا كاملاً”.
وأشادت بـ”شعر الراحل ومزاياه. وعطفًا على كتابه “أضعته العمر”، قالت: “يا ليتنا نقدر أن نضيع أعمارنا مثلك إبداعًا وبحثًا ورعاية لصغار الطير تأوي إليك هزيلة ضعيفة الريش، فتفرد أجنحتها وتدلّها على درب النسور إلى القمم”.
عبود
ثم تحدث الإعلامي وليد عبود عن سمات الراحل، ومسيرته الأدبية والإعلامية والإنسانية. وقال: “حقيقي، بعيد من الاستعراضية ومن “الشو أوف” كما نعبّر اليوم. عيناه المتحصنّتان بنظارة تقولان أمورًا كثيرة باللمعة الموحية، والومضة الخارقة المخترقة. رقيق رائق ولائق لا يهوى كثرة الكلام. يتكلّم بهدوء لكن بثبات، بصوت خفيض لكن بحجّة قوية. يقول لك ما يريد، وما يفكّر به بما قلّ ودلّ وحتى بأسلوب السؤال. وهو إن قسا احيانًا، لكنه يعرف كيف يوصل إليك الرسالة بأقل قدر من الأضرار”.
مطر
وكانت كلمة للشاعر سهيل مطر أكد فيها أنه “كبيرًا كان ولم يتكبّر، رجل الياسمين والبنفسج، تواضعًا ووداعة، ظاهرة في الأدب ويهرب من الظهور والتظاهر. موظفًا كان، لا عند زعيم بل في خدمة الإنسان ولبنان. لا تغريه مراتب ولا رتب ولا رواتب. ولا تخرسنه الرتابة القاتلة، رئته ما تعودت أن تتنفس إلا عطر الحرية والورد، وما اعتاد يومًا أنفاس الذل والزواحف”.
القصيفي
النقيب القصيفي قال: “متفوّقًا كان جان كميد. ولأنه كان كذلك، اقتفى أثر المتفوقين، ينافسهم، يباريهم، يساجلهم، يغرف من معين ابداعاتهم. ثم يبتعد بهدوء ليرسم طريقه بأسلوبه الأنيق، الذي يختصر عصارة ثقافته، التي رفدته بكل أسباب التمايز. فلم يكن مقلدًا، بل مبتكرًا، يسكب جموح خياله، وفرادة صوره، في عقود من در الكلم، تطوق جيد نثره الذي يلامس ذرى الشعر، وتزين معصم شعره بسوار الدهشة”.
وأضاف: “لن أستفيض في الحديث عن جان كميد الصحافي، ولا تعداد صفاته، ولن استرسل في اغداق الإطراء عليه، بل اكتفي بالقول إن المهنة تشرفت بانتسابه إليها، والانخراط في عالمها، لأنه كان المثل والمثال: أدبًا، خلقًا، احترامًا لنفسه وللآخر المختلف أو المؤتلف. وطنيًا كان، لم يشرك في حب لبنان. لم يمد يدا الا لخالقها، واكل خبزه بعرق قلمه. ولفرط تواضعه، كان بئرا عميقة. كل سر يستودعه فيها يصبح مفقودا، لأنه الأمين الأمين على ما يؤتمن. وهذا ما حمل مؤسسة الجيش على الوثوق به، كاتبًا لخطب قادتها، وركنًا من أركان مجلتها. ستُخلد يا أستاذ جان بجائزة التفوق الجامعي. بورك ما قررت العائلة”.
شلهوب
وألقى كلمة عائلة الأديب كميد حفيده شربل شلهوب الذي اعتبر أن “هذه المناسبة لا لذكرى شخص قد رحل، بل للاحتفال بمسيرة شخص أبى أن يكون الموت نهاية، حيّ في أدبه وفكره، خالد في ذاكرة الناس ووجدانهم”.
وبعدما تحدث عن معاصرة الراحل كبار أدباء لبنان وشعرائه، قال: “كان جان كميد مثل النبراس في الظلمات صوتا نادى بالعلم والفكر والمعرفة، كان صحافيا أمينا، ناقدا رقيقا في ملاحظاته، شاعرا مرهف الأحاسيس وكاتبا مرموقا عاشقا للغة الضاد، لبناني المنشأ، عربي الهوية، أممي الانتماء، ابن الوطن الأكبر، ابن الإنسانية جمعاء”.
وختم: “لأن جان كميد أكبر من أن تنهيه المنية، ولأنه نهج وفكر، قررنا بمبادرة العائلة أن نطلق جائزة جان كميد للتفوّق الجامعي، كي يبقى جان كميد، حتى بعد وفاته، داعمًا للعلم والثقافة كما أراد يومًا. وما كان هذا الإنجاز ليحدث لو لم تضع جامعة الروح القدس كل إمكاناتها في تصرفنا ونحن لها من الشاكرين”.
الأب القصيفي
كلمة الجامعة ألقاها الأب القصيفي ممثلًا رئيس الجامعة الأب هاشم، شدّد فيها على أن “ما يمتازُ به نتاجه المتنوّع هو هذه اللُّمَعُ الفكرية والروحية والعاطفية والاجتماعية التي تأسِر القارئ أسرًا يُفضي به إلى الحرية المستمدّة من الخالق. غير أنّ هناك خيوطًا خفيّةً حينًا ومنظورةً حينًا آخر، تربط هذه اللُّمَع بعضها إلى بعضها الآخر: الخيط الأول فكريّ، وهنا أورد حرفيًا ما يقول جان كميد في كتابه “جولات في آفاق الفكر والأدب”: “أن تقوم محاولة لحشد الطاقات الفكرية في لبنان وتوجيهها نحو ما يخدم رسالة لبنان الحضارية هو واجب المؤتمنين على وديعة الفك في هذا البلد الذي تكاد الأمواج المتلاطمة فيه ومن حوله أن تتيه به عن رسالته هذه وتجعله موئلاً لكل شيء إلاّ للفكر والحضارة وعناصر السموّ بالكائن البشري”، والخيط الثاني هو خيط أخلاقي، روحي. إن جان كميد يكرّس مفهومًا للحضارة اللبنانية يميّزها عن الغرب المثقل بالمادية والمراهن على العقل الذي أحبطه ولم يبلغ به شاطئ الخلاص، كما يميّزها عن الشرق الغارق في الغيبيّات والمشيح عن الفكر الذي يمدّ الحضارة بمعظم مقوّمات الصمود والبقاء. إنها الحضارة اللبنانية التي ينبغي أن تقوم على الفكر المتوَّج بالمحبة والسّمو. أما الخيط الثالث فهو الاعتراض الشديد على من يحاول تجاوز اللغة العربية، على من يحاول التغرُّب والتفرنُج، متناسيًا جذوره وأصوله”.
وأضاف: “لا شكّ في أنّ ما ورد أعلاه يتلاقى ورسالة رهبانيتنا، الرهبانية اللبنانية المارونية، منذ نشأتها، وها هي جامعة الروح القدس – الكسليك، دوحة ثقافية تمتدّ جذورها حتى الأعماق في تربة هذا الوطن، وتتفرّع أغصانها السامقة في كلّ اتجاه، شرقًا وغربًا، جنوبًا وشمالاً، لتنشئ جيلاً لبنانيًا خالصًا ينفتح على الجميع، ويحول ما يستمدّه إلى كيانه الخاصّ، رابطًا الأرض بالسماء، مسهمًا في تتويج ما ينتجه الفكر بالإيمان والمحبة والرجاء”.
معرض وثائق وصور
وواكب الاحتفال معرض وثائق وصور من مجموعة جان كميد ووالده المحامي فيليب كميد.