1- مقطع من الرواية: “ملوك مرّوا من هنا”
شهر آب. الحرارة خانقة، والهواء كثير الرطوبة.
المياه في النهر القريب شحيحة في الصيف، وتجري في بطء إلى البحر الأزرق، حيث يلتقي آخر شعاع من الحياة مع الأفق الأغبر. هنا تستطيع الآلهة القديمة أن تسمع أنفاس الشياطين، التي تتحرّك بين أشجار البرتقال والنخيل. وهي أشجار ممصوصة عجفاء لا تعطي ثمراً…
على هذه الضفاف، مرّت آلهة كثيرة، لكنّها لم تمكث طويلاً، فقد غادرت إلى غير رجعة، وما يزال النهر في حديثه الأزليّ، يتمرّد على الجفاف والنسيان. فكأنّه صورة عن الخلود في رسم إغريقيّ.
وكان الملوك يمرّون من هنا، على ظهور جيادهم، ويأمرون عبيدهم وجنودهم بأن يقهروا الناس البسطاء، الذين ترعرعوا على الهضاب، ولم تكن يوماً لهم، بل كانت تتقاذفها الأيدي والأقدار. وقليلاً إلى الغرب، ترفع قلعة من حجر أسمر، بمهابة وجلال، فتكاد تسمع أحاديث العصور الغابرة، وتـرى العربـات المطهّمة، وهي تخطر بوقار، نحو البوّابـة المقفلة بإحكام.
لقد بنى الفاتحون كثيراً من القصور والقلاع، ولعلّهم كانوا يريدون أن يكون لهم مرقد تحت الشمس في بلاد صغيرة، لكنّها كبيرة كالشمس، وحزينة كأمّ فقدت وحيدها، ولجأت إلى الدموع والحرمان.
وفي تلك الحقول الصغيرة، عند ضفاف النهر، خيام بسيطة، يقطن فيها أناس من البدو الذين كانوا يعملون إمّا في الزراعة، أو مكارين، ينقلون الحصاد على ظهور دوابّهم. لكنّهم الآن، وبعد أن غزت قوافل الجراد تلك الناحية،انضمّوا إلى طائفة الجياع. والجوع لا وطن له، ولا هويّة، يدخل من كلّ باب، ويبسط جناحيه الأسودين على البشر، ليحوّلهم إلى أعواد هزيلة، تسير في الشمس والعاصفة، وترفع أصواتها الضعيفة إلى السماء، متضرّعة ولاهثة.
لقد جاء الجراد من شمال أفريقيا، وحجب نور الشمس، ففي عزّ الصيف، والحرّ لاهب، تظهر الغيوم داكنة، وكأنّ المطر قريب. وقد خلت الحقول من الزرع، فلو بحثتَ في البيادر المهجورة عن حبّة قمح، لما وجدتَها، وباتت الحبّة أغلى من الذهب، فمَن يأكل الذهب؟ ومَن يطعمه لأطفاله الباكين فيشبعهم، وينامون قريري العيون والبسمة على شفاههم؟
هبّت ريح غربيّة مفاجئة، فدارت الرمال دورات، كأنّها راقصات حزينات في ليلة وداع. وكادت الخيام تطير عن أعمدتها، ثمّ استكانت الريح قليلاً، وظهر عند إحـدى الخيام فتى بدويّ، وهـو يسير الهوينا، ويحمل جسده الهزيل، ويغطّي عينيه من الغبار الذي لا يزال يتطاير في الفضاء.
كان ذلك الصبيّ في السادسة عشرة من عمره، أو أكبر قليلاً، متعثّر الخطى، وتبدو عظام صدره وهي تكاد تخرج من قفصها.
راح ينقل خطواته ببطء على الرمال المحترقة، وينظر إلى الوراء، حيث كانت امرأة تناديه بصوت مبحوح:
هيّا يا عبدالله، افعل ما شئت لكي تحصل على بعض الخبز.
هزّ عبدالله برأسه وقال:
لا تقلقي يا أمّي… لا تقلقي… سنكون بخير.
ثمّ تابع الصبيّ سيره نحو القرية التي لا تبعد كثيراً، علّه يستطيع أن يجد بعض الفتات، والخبز في هذه الأيّام نادر وشحيح. والذي يملك رغيفاً يمكنه أن يشتري به قطعة أرض، أو قطيعاً من الماشية. والذين عاشوا في تلك الفترة يخبرون أنّ بعض الناس اشتروا قصوراً بحفنة من الطحين، وبعضهم كانوا يبيعون ذهب نسائهم برغيف.
الرغيف… هو الأعجوبة… الكنز الذي أوجده الله لكي يشبع الأفواه الفاغرة. ومن أجله تطاحنت أمم، وتقاتلت جيوش، وسقط رجال في ساحات الوغى. ولو اقتسمت البشريّة رغيفها، لما بكى أحد من العوَز، ولما تسلّحت قوى الشرّ بأسلحة الدمار.
أمم طويلة عريضة، تملك الأراضي الشاسعة، تطمع بأراضي دولة صغيرة مجاورة، وقد تكون تلك الأرض قاحلة لا ينبت فيها شيء. وكأنّ خوف الإنسان من أن يجوع يدفع به دفعاً إلى الحروب… وهو يجهل أنّ السلام هو الذي يعطي الجميع خبزهم ليومهم، وربّما لأيّام آتية.
كانت القرية هادئة، وليس فيها سوى قليل من الرؤوس التي تعلو وتتحرّك. رؤوس لا يملك أصحابها شروى نقير. يبحثون عن شيء أضاعوه،وينبشون القمامة من أجل هدف عظيم، هو الحياة.
الحياة تطلع من القمامة… من رائحة الموت، والموتى كثيرون، لكنّهم ما زالوا يتنفّسون ويسيرون على أقدامهم، ولا يعلمون متى تأتي الساعة.
2- قراءة د. أحمد نزّال
إذا كان العنوان هو أوّل العتبات للوصول إلى فهم أعمق للنّص، فإنّ ما يلفت القارئ في عنوان هذه القصة/ النّص هو أنّه جملة اسمية فيها الكثير من الدّلالة الصّالحة للتأويل في غير معنى: “ملوك مرّوا من هنا”.
العنوان باعث على تساؤل المتلقي، محرّض على القراءة، لأنّه يتحدّث عن غائب. فمن يكونون هؤلاء الملوك؟ وما هو الأثر الّذي تركوه؟
تسير القصة في اتجاهين متعارضين: رغبة الملوك في السّيطرة على الثّروات: الأرض والماء والثّمار والحصاد، والاتّجاه الثّاني صراع تخوضه الطبقة الفقيرة من أجل البقاء على قيد الحياة.
هذا الصّراع “التّاريخي”، ومحوره الرّغيف في هذه القصة، يحمل بُعدًا فلسفيًّا، في الإشارة إلى أن الحروب على مدى التّاريخ، لم تنجب إلّا الويلات والخراب ومزيدًا من التّدهور الأخلاقي، وأنّه لو أنفق شيءٌ قليلٌ ممّا ينفق على الحروب، على ما فيه خير الإنسانيّة لما بقي جائعٌ واحدٌ في هذا العالم.
تجري أحداث هذه القصة في زمن مضى، ولكنّ الإشارات كثيرة على استمرار مفاعيل هذا الصّراع حتّى يومنا هذا، فيكثر الأموات/ الأحياء الّذي ينتظرون قدرهم من دون أن يرفّ جفنٌ لكلّ قوى الاستعمار والهمينة…
هي دعوة صريحة إلى العودة إلى الضمير الإنّسانيّ، الّذي ينبذ العنف ويؤسّس لمجتمع العدالة واحترام الإنّسان أيًّا كان لونه أو جنسه أو مستواه. وهي دعوة لتكاتف البشريّة من أجل مواجهة الأخطار الطّبيعيّة الّتي تعرّضها للخطر.
وفي إشارة إلى هذه الأخطار يشير الكاتب إلى موجة الجراد الّتي غزت بعض الدّول، ومنها لبنان، في بدايات القرن الماضي، حيث أكلت الأخضر واليابس، وبات النّاس في حاجة شديدة إلى رغيف يسدّون به جوعهم.
يستخدم المؤلّف الفعل الماضي بحرفيّة عالية، وهذا ينسجم مع طبيعة القصّ/ الحكاية، كما أنّه يستخدم الفعل المضارع حينما يريد إيصال رسالة ضمنيّة أنّ أحداث تلك القصة قد حدثت، وما زالت تحدث حتّى يومنا هذا، وإن تغيّر الزّمان واختلف المكان.
وضمير الغائب، بدءًا من العنوان، يمنح الملتقّي فرصةً أوسع لمزيد من التخيّل، وبالتّالي يكتسب النّص عمقًا أكبر.
وحول مقاربة القضية الّتي طرحها الكاتب، فإنّ ما عاشته بعض المجتمعات في الآونة الأخيرة هو دليل واضح على استمرار هذا الصّراع، خصوصًا عندما نعيش أحداث هذه القصة يوميًّا، وما ينتج عنها من ويلات ومآسٍ… علاوةً على أنّ هذه القصّة هي مناسبة يستغلّها الكاتب لصرح قضايا اجتماعيّة تشكّل مدماكًا أساسيًّا لكيّ تعود البشرية إلى فطرتها الأولى الّتي يجب أن تقوم على العدالة والخير والتّعاون.
ولعلّ ما يثري تجربة الكاتب هو اطّلاعه المكثّف على الماضي والحاضر، والرّغبة بتكوين مشروع إنسانيّ نبيل.
***
*مشاركة الدكتور أحمد نزّال – لبنان في الجلسة الحواريّة حول رواية الأديب د. جميل الدويهي “حدثَ في أيّام الجوع” (تصدر قريباً في كتاب خاصّ من مشروع “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي).
*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي
النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع.