د. إلهام كلّاب
رئيسة جامعة اللّاعنف وحقوق الإنسان في لبنان
بقدر ما اجتذبني سريعًا العنوان الثاقب لهذا الكتاب “دين العقل و فقه الواقع” في تقاطع عباراته وتصادمها وتفاعلها والتوق إلى آفاق تلاقيها .
بقدر ما استغرقتني طويلا” قراءة محتواه الغزير، المتنوع، المتشعب، المفاجئ و الفريد.
ما يثير إعجاب القارئ و تقديره أولا”،هو إستهلال حوار ديني فسيح الضفاف بإطار منهجي و مفهومي نفتقده في العديد من المؤلفات العربية في هذا المجال، و هو ما يتميز به د. شعبان في كل ما صاغه من مؤلفات.
في هذا الكتاب يتقاطع صوتان جليلان يتشاركان أو يتبادلان التساؤل و المعرفة، الإيمان و الحدس، القلق و اليقين، النقد والتعجب، و حتى الفكاهة، حصيلة احتكاك فكري سابق، و إلفة إنسانية عريقة، و نضج في الكلمة و عمق في الإصغاء.
هو كتاب يجتاز كل المسافات و التساؤلات الدينية و الفكرية و الاجتماعية و السياسية، برصانة مفكر انحنى خصب سنابله على الآخرين، و بخفة فارس بارع يجتاز تلابيب الفكر الإنساني و يخترق ثوابته بالمعرفة و السماحة، بالقول و بالإصغاء.
لذا ينساب الكتاب بسلاسة بين حواجز و أسلاك شائكة انتصبت بين العقل و الدين في مقاربة هادفة للمقدس و الشريعة والقانون و الطائفة و العنف و الفقه و المرأة و العصمة و غيرها مما لا يختصر في هذه الدقائق القليلة المتاحة لهذه المداخلة.
في متابعة النص من داخل ، أي من منهجية و إيقاع و تقنيات الحوار ، نجد الكاتب يصغي إلى السيد أحمد حسني البغدادي بإنصات و احترام، و يتوجه إليه بنقاش هادف و صادق، يحاول من خلاله صقل الفكرة كي تتجوهر و تفيض إيحاء ، دون أن يفارق ذهنه السؤال الأساسي الذي اختطه لنفسه في مؤلفاته الغزيرة في مواجهة النص الديني بتساؤل رحب و هدف إصلاحي ورؤية معاصرة.
لقد كرّس د. شعبان حياته و فكره للبحث عن الحقيقة و لتكريس اللقاء الإنساني مهما تنوعت الآفاق في جولات فكرية رصينة وسيعة الأبعاد،بين الحوار و الاجتهاد و التعايش و الحرية و الدين و الماركسية و الحضارة و المواطنة و السلطة و الهويات ، لذا شكلت كتاباته “قاموس الواقع العربي المعاصر” المتسائل المتحرك،قاموس يجمع و لا يبعثر، يثير التفكير و يفكك ضيق الهويات.
يتميز هذا النص خاصة” بالدينامية (في الحوار المتنامي) بالشمولية (في المعرفة و عمق الثقافة)، بالصدق (في القول و المواجهة)، كما بمحاولات التخطي المتواصلة في مواجهة أسوار التقاليد و الشرائع و بإحترام الإختلاف الذي غذى شعلة الحوار الحر و بغزارة المراجع المتنوعة.
الدقائق ظالمة و لكن دعوني أتوقف سريعًا عند نقطتين:
الدينامية ومحاولات التخطي .
هي دينامية الفكر و اليقظة الذهنية بين شيخ جليل فقيه عالم و مرجعي، و مفكر علماني عريق، فسيح العقل،عميق المعرفة، غزير الثقافة، رشيق العبارة، حداثي معاصر، في مسار حواري متدفق، متعرج أو دقيق في أويقات إستعادته و مواقع تردده وتحرره.
وهي محاولات التخطي للخلفيات المتناقضة في خريطة التدين، ولبعض مظاهر الدين التي لا تدل عليه ، كاختزاله إلى متناقضات، واستغلاله للعنف والحروب، و استدعاء العصبيات التي تلاقي أرضًا خصبة في الشرائع الدينية.
يسير الكاتب ببراعة و معرفة و دقة وانفتاح على هذه الأرض الملغمة بالتحريم والتجهيل والتكفير، مبشرًا بدين المعرفة و العقل و الإنسانية مقابل دين الجهل والخرافة والعصبيات.
وفي إحساسه العميق بالمسؤولية التاريخية يدعو إلى السماحة لتقبل الاختلاف وقراءة التراث بعين معاصرة هدفها الإنسان أولًا.
يستوقفني في محاولات التخطي موضوع المناظرة ١٤ بعنوانها الجريء “هل المرأة عورة وناقصة عقل ودين”؟
وهو موضوع حساس و شائك في ظل فقه ذكوري و تقاليد اجتماعية متخلفة و استعلائية، يواجه الشيخ البغدادي الحديث عن دونية النساء بأن الإنسان مفردة حياتية ترمز إلى الرجل و المرأة و الكرامة الإنسانية الواحدة، و لكن الصدام الكبير أو التحالف التاريخي الظالم هو بين قوانين أحوال شخصية جائرة و أحكام دينية ظالمة…
قد يجد العديد من القضايا المذكورة في هذا الكتاب حلولًا ممكنة و تبقى العقبة الكبرى هنا، في قيود تكبل عقول الرجال قبل أن تكبل مصائر النساء في الدين والدولة.
أخيرًا،
في عالم عربي اليوم تتقهقر فيه المعرفة و يتكاسل العقل وتنمو وتبرعم العصبيات، يأتي هذا الكتاب ليعيد إلى العقل مغامرة التساؤل وللإيمان رفعة الروح وقيمة الإنسان.
***
*ألقيت في ندوة حوارية في عمان لمناقشة كتاب المفكّر والأكاديمي العراقي عبد الحسين شعبان، دعا إليها منتدى الفكر العربي الذي يترأسه الأمير الحسن بن طلال.
*جريدة الزمان (العراقية) في 10 أيلول / سبتمبر 2022.