د. مصطفى الفقي
صدر لي كتاب عام 1997 كتبته وأنا سفير لبلادي في العاصمة النمساوية سميته (ليالى الفكر في فيينا)، وذكرت في مقدمته أن المدن كالبشر لكلٍ منها جاذبية خاصة ومزاج مختلف، وضربت أمثلة بمدنٍ انبهرت بها عندما زرتها في مقدمتها لندن وبعض المزارات الصيفية شمال إيطاليا،
كما أن آخر عاصمة للخلافة الإسلامية وهي مدينة «إسطنبول» قد أثارت دهشتي لجمالها وأنا أرى المآذن والقباب والقصور الفريدة ترتفع في سماء تلك المدينة الرابضة على المضايق التي تربط البحرين الأبيض والأسود،
كما أذهلتني مدينة في الهند تسمى (سملا) وهي التي جرى فيها توقيع اتفاقية تقسيم شبه القارة الهندية في نهايات أربعينيات القرن الماضى، فهي مدينة رأسية ينتقل فيها الناس بالحبال القوية ترفعهم إلى مستويات رأسية مختلفة من الجبل الذي يمثل الأرضية الأفقية لتلك المدينة الفريدة التي بهرتني وجعلتنى أدرك أن الإنسان هو قاهر\الطبيعة في كل مكان،
كما أن أول زيارة لي لباريس عام 1973 في طريق عودتي من لندن لقضاء إجازة نصف المهمة الدبلوماسية في العاصمة البريطانية، جعلتني أنظر إلى باريس وجمالها والمقاهي الصاخبة على جانبي شوارعها التي تشهد بوضوح على أن عاصمة النور هي من أجمل مدن الدنيا، وأظن أنى لو كنت أجيد الفرنسية لاتخذتها مزارًا موسميًا مثلما يفعل صديقى العزيز الأستاذ منير فخرى عبد النور وزير السياحة ثم التجارة والصناعة في حكومات سابقة، ولكن هناك تعبيرا ألح على خاطرى وأنا في زيارتى الأخيرة للعاصمة الإيطالية روما حيث تأكد لى الانطباع الذي أحمله لتلك المدينة رائعة الجمال والتي تبدو فاتنة العصور وحاضنة التراث وعاصمة الرومان منذ قرون عديدة، فهي (المدينة المتحف) بمعنى الكلمة، تفوح منها رائحة التاريخ ويطل من ضيائها مزيج عجيب بين الشرق والغرب، فهي مدينة تراثية متجددة تجمع الماضى والحاضر جنبًا إلى جنب، وما أكثر المدن التي أعجبتنى في رحلة العمر فمدينة (أخن) الألمانية والتي يسميها الفرنسيون (إكسلاشابيل) وهي مدينة مرتبطة ببداية نشأة القانون الدولي منذ عدة قرون قد بقيت محفورة في ذاكرتى عبر السنين،
كما أن مدينة (ميونيخ) لا تقل روعة عن المدن الألمانية الكبرى بدار الأوبرا الفخيمة التي تتوسطها ولا يتفوق عليها إلا أوبرا فيينا الشهيرة، وبالمناسبة فإني أرى المدن نوعين: نوعٌ يبهرك على المدى القصير في زيارة خاطفة ونوع آخر يشدك للحياة فيه لسنواتٍ قد تطول، لأنك تجد روحك متوافقة مع نمط الحياة فيها وإيقاع الوجود على أرضها،
ولعل مدينة لندن التي أسميها في تاريخى الشخصي (أم المدائن) هي النموذج الذي ارتبطت به وعشت فيه خمس سنوات في مطلع حياتي ومازلت أحتفظ فيه بمسكن الخاص منذ عام 1971 حتى الآن، فهي مدينة أممية لا تفرق بين أبنائها وزوارها وتبدو وكأنها مدينة عالمية مفتوحة للجميع بلا تفرقة أو تمييز، كما أن التحفظ البريطانى كأحد مكونات الشخصية الأنجلوسكسونية يعطي الحياة هناك بعدًا إنسانيًا هادئًا لا يشعر به إلا من عاش فيه وفهم أعماقه التي تضرب بجذورها لترتبط بعصر النهضة الأوروبية والتي كانت إيطاليا على الجانب الآخر هي النموذج الأبرز له،
أما العاصمة النمساوية فيينا فهي أنظف مدن الأرض، وقد عشت فيها سنواتٍ أربعا، عانيت خلالها من الجليد الدائم والرياح الباردة، ولأنني مصري قادم من الجنوب فقد افتقدت فيها التلوث السمعي والبصري وأشعرتني نظافتها الشديدة وتنظيمها الدقيق أنني قادم من كوكبٍ آخر أرتبط به وأحن إليه، ورغم أنها مدينة الموسيقى وبلد موزارت ورفاقه من كتيبة الموسيقيين العظام إلا أنها تفتقد روح لندن وباريس. فهي مدينة مثالية يمنعها الحياء والحياد من أن تكون طرفًا فاعلاً بقوة في السياسات الأوروبية والدولية وذلك رغم وجود الوكالة الدولية للطاقة الذرية على مشارف نهر الدانوب الذي بدأ يعانى الجفاف هذا الصيف وسط تلك المدينة الفاتنة، وليس يعنىي ذلك أننى لم أنبهر بمدنٍ أمريكية وآسيوية، ولكنها كانت دائمًا بعيدة عن الوجدان رغم ما تحتفظ به من رقائق التراث وتراكمات التاريخ، فالولايات المتحدة الأمريكية تجسد أمامي التقدم التكنولوجى الكاسح والثروة الهائلة ولكن أقدم مبنى في مدنها أحدث من معظم البيوت الأثرية في القاهرة الفاطمية أو المملوكية،
وبالعودة إلى قاهرة المعز يمكننا أن نسجل أنها متحف مفتوح بامتياز، فمنطقة الأهرامات وأبو الهول هي أكبر متحفٍ على كوكب الأرض، وشارع المعز يمثل وحده متحفًا إسلاميًا كبيرًا عظيم الشأن والقيمة،
نعم إن القاهرة هي أكبر متحفٍ متعدد الحضارات متنوع الثقافات متكامل الديانات على وجه الأرض، إنها المدينة التي ورثت الحضارة الفرعونية الملهمة والثقافة اليونانية المؤثرة والسلام الرومانى الذي نسج خيوطه في الإسكندرية وامتدت آثاره لتشمل قلب العالم المعاصر تأكيدًا لوحدة ثقافات دول البحر المتوسط وشعوبه المتميزة،
إن المدن المتاحف لاتتوقف عند حد، فمدينة (الأقصر) المصرية وحدها تحتوى على ما يصل إلى ربع التراث الإنساني القائم على وجه البسيطة حتى الآن، وليست تلك كلمات نطلقها من بلد الأهرام والكرنك وأبوسمبل، ولكنها شهادة سجلها اليونيسكو ويؤكدها في كل مناسبة،
ألم أقل في كتابي المشار إليه منذ سنوات إن المدن كالنساء لكل واحدةٍ شخصيتها وجاذبيتها وعطرها، فالتنوع سنة الحياة وفلسفة الوجود، والمدن كائناتٌ يمتد تاريخها ويعيش حاضرها ليستمر مستقبلها، إنها شواهد التاريخ وحواضر الأمم في كل زمان ومكان.
*الأهرام 6 سبتمبر 2022