جميل الدويهي: صناديق ليست للبيع

 

أحمل صناديقي وأرتحل، من رصيف إلى رصيف.

ليس في صناديقي ذهب ولا فضّة، بل قليل من النور.

اشتريتُ سيّارة شحن لأنقل صناديقي، وصرت أجوب المدن والقرى، وأعرض بضاعتي على المارّة.

كنت أصرخ عاليًا: أعطيكم النور مجّاناً، لأنّني مجّاناً أخذت.

نظر إليّ الصيارفة وقالوا: أنت تنافسنا على الأنوار التي تخرج من سبائكنا. وأشاحوا بوجوههم عني. ونهرني التجّار الأغنياء بفجور: أنت تمنعنا من البيع، فإنّ الدنانير قلّت في خزائننا، ويبسَ الخير في حقولنا.

ثم جاء إليّ الجاهلون وقالوا: لماذا نأخذ نوراً منك، وليس له طريق إلى أرواحنا؟ أفلا ترى أنّ ثيابنا العتمة؟… ثمّ انصرفوا عنّي غاضبين.

واقترب منّي الكاذبون، فعرفتهم من وجوههم الكثيرة، يغيّرونها كما تتغيّر الفصول، فقالوا: إذا كنت تعطينا وجوهاً، فسنأخذ منك. لكن لا تتحدّث أمامنا عن الصدق والوفاء والفضيلة… فتلك أشياء كانت من قديم العصور، وفرضتها علينا التقاليد والمعتقدات البالية، ولو كانت ذات نفع لما رأيتَ الشرور تُخيّم على الأرض…

نظرت حولي، فرأيت أنّ ما يقولونه عين الحقيقة، فالكذبُ على الأشجار، وفي الكتُب والعناوين والألقاب… وفي الماء والهواء… وارتعبتُ عندما وجدت أنّ الكاذب لا يُعاقب على كذبه، بينما الصادق يعاقب على صدقه. أمّا الذين يحبّون الصادقين فقلائل جدّاً.

وما إن أداروا ظهورهم ومضوا ساخرين مستنكرين، حتّى ظهر لي الحسود. كان يعرُج، فسألته عمّا حدث له، فأخبرني بأنّ إحدى قدميه أصيبت في شجار مع جار له، فقد احتجّ لأنّ جاره عنده حقل مليء بالفاكهة، وحقله جافٌّ تأوي إليه الغربان. ولاحظت أنّ قدمه التي يعرج منها فيها حدوة حصان.

وبينما كنت أتأمّله في خوف، كان هو ينظر إلى صناديقي بعينين ملؤهما الحقد. وسألني: ماذا تبيع؟

قلت: لا أبيع شيئاً.

قال: محال. هل يعرض إنسان شيئاً في السوق من غير أن يبيعه؟

قلت: أنا أعطي من غير مقابل، لأنّني لا أعطي شيئاً من عندي؟

قال: مَن هو الذي يعطي إذن؟

جاوبت: أنتَ لا تعرفه. ولو شرحتُ لك عنه، لتعجّبت منّي، وكأنّني أحدّثك عن الماء الذي يصدر من العطش، أو عن العطر الذي يخرج من الشوكة.

وبينما كان الحسود يبتعد عنّي، كان لا يزال يلتفت إلى الوراء، فخشيت على الصناديق أن تتخلّع، ويتبعثر ما فيها على الأرصفة، فيذهب هباء.

وحدث في ذلك اليوم بالذات، أنْ غفوت على قارعة الطريق من جرّاء تعبي في الليالي الماضية، وبينما أنا نائم سمعت جلبة شديدة كأنّها صوت رعد. فأفقتُ مذعوراً، ورأيت صناديقي محطّمة، فصرخت بأعلى صوتي، وبكيت على فقدان أعزّ ما أملك من كنوز.

كان الحِبر يسيل في الشارع، وأنا حائر وحزين… وأخذ بعض المارّة يجمعون حطام الصناديق ليجعلوه حطباً للنيران في مواقد الشتاء…

***

*جميل الدويهي: مشروع “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي -2022

النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع

اترك رد