دكتور كلوفيس كرم – أميركا  قارئًا رواية “حدثَ في أيّام الجوع” للدكتور جميل الدويهي: عقد وجودية ترافقها بارقة أمل

 

 

 مقطع من الرواية: عبدالله في السجن

عبدالله الآن في السابعة عشرة من عمره، ولا يذكر أنّه اقتنى لعبة، أو صنع طيّارة من ورق، تطير به إلى وراء الغيم والخطوط المرسومة، وتلقي به على شاطئ بعيد، فيه الأحلام وقصر يجاور القمر.

إنّه واحد من الذين يولدون من أحزانهم كلّ يوم، ويقرأون فقط في كتاب التجربة المرّة، ويكتبون فصولهم على خيام البؤس… جاهل في أمّة جاهلة…  فقد طوى زمان الجوع كتاب العِلم، وساد الانحطاط، وأقفلت أبواب المعاهد لتنفتح أبواب العدم على مصراعيها… وما هو الفرق بين العدم وحديد العبوديّة؟ كلاهما وجه لحالة واحدة… الموت ليس دائماً نهاية الحياة، فهناك موت آخر هو الحياة نفسها. وبعض الأحياء يتمنّون لو أنّهم لم يبصروا النور في عصر جريح، هو كنسر مقصوص الجناحين، لا يطير إلاّ ليرتطم بالأرض، وتكون خيبته أمرَّ من بئر مهجورة ليس فيها ماء.

اعتدل عبدالله في سجنه الضيّق، وهي المرّة الأولى التي يجد نفسه محصوراً داخل مكان ليس فيه هواء، ولا نور… عتمة محيطة بروحه تمنعه من التنفّس. ورائحة عفونة تنتشر في الزوايا. وعلى جانب الغرفة سرير من الحديد الصدئ والمتداعي… وعلى السرير فـــــراش أصفر اللـــون

تناوب عليه مساجين ومساجين، ولم يعرف الماء والصابون منذ أعوام. وعلى الجانب الآخر من الغرفة سرير أكبر قليلاً، هو لرجل في العقد السابع من عمره، محكوم بالسجن خمس سنوات، انقضى شهران منها.

نظر السجين الصغير إلى أعلى، حيث تكون السماء عادة، وفيها قمر ونجوم تضيء، فاصطدم رأسه بفراغ، سقف من الباطون الرماديّ، ينحني في شكل قنطرة، ولا يمكن لقنبلة أن تشقّه. والأمل الوحيد المتبقّي، نافذة صغيرة لا يمرّ من خلالها جسد إنسان، ففي وسطها قضيب من الحديد، وهي ضمانة للسلطة، ولعدالتها المزيّفة…

ضوء الشمس لا يكاد يخترق النافذة، التي ترمز إلى العبوديّة لمن يقبع وراءها، وإلى الطمأنينة لمن يعيشون هناك في البعيد، فهي تمنع المدانين من الإفلات، وتضمن أنّهم لن يعيثوا في الأرض فساداً، ويضيفوا إلى فوضى الكبار بعضاً من فوضاهم المزعجة.

لو كان جميع أهل البلاد في السجون، أو منفيّين إلى خارج البلاد، لهانَ على الرؤوس الكبيرة أن تقتسم الغنائم من غير أن يكون هناك شهود، أو متدخّلون يسألون ويعترضون. وليس أغرب من بلاد  يكون فيها أبناؤها مجرمين عن بكرة أبيهم، وحاكموها أبرياء وأنقياء من جنس الملائكة.

يبدو أنّ الأرض كلّها محصورة بين جدران أربعة، جدران ترتفع وتقسو على القاطنين فيها، وأينما نظر المرء، تراءى له أنّه في قلب زجاجة، وعليه أن يحطّمها بيديه لكي يخرج إلى فضاء الحرّيّة. والأرض في هذه البلاد، على صغرها، مملوكة لحاشية هي الجراد الذي لا يشبع ولا يرتوي.

***

2- قراءة د. كلوفيس كرم

تستحضرني، وأنا أقرأ ، مقطعاً من رواية الأديب د. جميل الدويهي “حدثَ في أيّام الجوع”، بعنوان “عبدالله في السجن”، قصّة “سيزيفوس، للأديب الفرنسي ألبير كامو، فإنّ سيزيفوس نزلت عليه لعنة الآلهة الأبديّة، بأن يحمل الصخرة على كتفيه صعوداً إلى قمّة الجبل، ثمّ أن يدحرجها إلى قعر الوادي من جديد والنزول لحملها إلى أعلى القمّة… وهكذا دواليك.

وبينما نقرأ قصّة الدويهي، يلوح لنا سيزيفوس يصعد إلى قمّة الجبل ويترك الصخرة تتدحرج إلى الأعماق دون أيّ نتيجة. فعبدالله في السجن، نزلت عليه لعنة الأمّة المستعبَدة، فهو لم يعد له حتّى إمكانيّة أن يحلم، وأن ينظر إلى ما فوق، إلى كوّة تطلّ منها الشمس… وهذه هي الحال في وطننا – السجن الكبير.

ففي نظري، إنّ عدميّة صعود سيزيفوس إلى الجبل، ودحرجة هذه الصخرة التي ليس لها أيّ معنى إلى الوادي، ترافقها بارقة من الأمل، حيث أنّ ألبير كامو، يجعل سيزيفوس عندما ينزل من الجبل قادراً على أن يحلم بأنّه حرّ في النزول إلى الوادي، رغم أنّ أمر الآلهة لا مفرّ منه، وبأنّ العبوديّة التي هي أبديّة، ومن صنع الآلهة، يمكنه في حلمه أن يتخلّص منها ولو إلى حين، حتّى الصعود من جديد.

وفي قصة الفتى عبدالله هناك عقدة وجوديّة من الصعب جدّاً الخروج منها، وهذا ما أوحى به أديبنا الجميل الدويهي. وفي الوقت نفسه فإنّ لا مستحيل تحت الشمس، وتمكّن عبدالله، ومعه رفيقه العمّ أحمد، والشعب كلّه، من قطع حديد الزنزانة بشفرة صغيرة. وهذه الشفرة هي الأداة، والقوّة، والعزيمة والإيمان التي بها تتحقّق معجزة القيامة.

وهنا يمكنني أن استذكر ما حصل لي، عندما قرّرت الخروج من لبنان، منذ ثلاثة عشر عاماً. فعندما يُظلم الحرّ تُغلق أبواب الدنيا في وجهه، فلا تعود له إمكانيّة الحلم… وهذا الحلم هو الخطوة الأولى التي تمهّد لانتصار الإنسان ومعانقة النور، بعدما تضيق به سبل العيش والكرامة، ولو كان في قمّة الظلمة.

إن الدكتور جميل الدويهي يعطينا أمثولة عن الواقع الأليم الذي تعيشه بلاد الأرز والفكر والحضارة، فلقد تمكّن منها بعض الأقزام… ولكنْ لا بدّ لتلك القبّة الحديديّة أن تنكسر، لأنّ قوّة الأحلام لا يمكن طمسها. وهذا هو ابن إهدن، ابن نبع مار سركيس، يأبى إلاّ أن يعطينا في كتاباته الفكريّة والفلسفيّة حفنة من من حلم ونور، فهو يعلم جيّداً أنّ من الرماد انبعاث طائر الفينيق.

وتعود إليّ، بينما أكتب هذه المطالعة، أنّ عبدالله مقصوص الجناحين، وكأنّه واحد من أبطال جبران في “الأجنحة المتكسّرة”، فها هو الفتى السجين، يحاول قدر المستطاع أن يحلّق في قبّة الظلام، لكنّه يرتطم بالقسوة كلّما حاول أن يتّجه نحو الفضاء. واستشعرَ الدكتور الدويهي في قصّته المحاولة نفسها التي قام بها سيزيفوس عندما كان يفكّر أثناء دحرجة الحجر بأنّه حرّ… وهذا الأمل بالحرّيّة، ولو كنت في سجن السجون، هو قيمة الحياة… فنلسون مانديلا، أثناء فترة سجن طويلة كان يشعر بأنه الحرّ الوحيد في كلّ أفريقيا، وكلّ الشعب آنذاك كان مستعبداً. وهذا الأمل بالتحرّر من غياهب الأسر هو الفكرة الوجوديّة الجميلة التي يعلنها الدكتور الدويهي، ويحثّنا على الأيمان بأنّ وراء كثافة العتمة إشراقة الروح، وليس بالحلم فقط يمكننا كسر الجمود، بل بالإرادة والسعي، ولو بجناحين مكسورين لأن نطير… فلا بدّ أنّ طائر الفينيق سيعطينا جناحين من ضوء ولهب، فيلين الذهب، ويذوب الحديد، وتتحطّم صلابة الموت، لتظهر الحياة من جديد.

***

*من كتاب الجلسة الحواريّة حول رواية الأديب جميل الدويهي ” حدث في أيّام الجوع” – مشروع الأديب د. جميل الدويهي للأدب الراقي – سيدني النهضة الاغترابية الثانية – تعدد الأنواع.

اترك رد