“الساطور الأحمر” (قصّة قصيرة)

 

 د. علي حجازي

 

الازدحام على طريق المطار شديد، والسيارات العابرة باتجاه المستديرة تسير ببطء شديد، نظرت إلى الساعة فألفيتها السابعة والنصف صباحاً. أخذتُ افكّرُ في التأخير الذي يُسجّل قبل الوصول إلى مركز عملي المحدّد بالثامنة، بدء الدوام  الرسميّ. وسرعان ما انطلقت مني زفرة طويلة.

السيارة التي أضاء سائقها مصباحيها تطلق زموراً متواصلاً مزعجاً. كاد يصدم أكثر من سيارة وهو يتلوى مثل أفعوان خائف.

“ما به هذا؟ وما هذا التصرّف الصبيانيّ غير المسؤول؟ (همست).

عند محاذاته لي حدجتُهُ بنظرة غضب، لأنني اعتقدت، لدى سماعي الزمور أنّه ينقل جريحاً. ولمّا أبصرته منفرداً شرعتُ ألعنُ هذا  “الشبّيح” الذي يظنُّ نفسه أفضل من العالقين في هذه العجقة الشديدة.

قررت اللحاق به راغباً في معرفة السبب الذي دفع به إلى هذا السلوك المستهجن. خاصةً،  إنّني تجاوزت الثامنة بدقيقة أو أكثر.

انعطف يساراً فتبعته. الزمور المزعج يخترق الآذان، الاستياء ظاهر على وجوه العابرين مثلي. فشرعتُ أتساءل:

“هو الآن ينعطف إلى الطريق المؤدّي إلى جهة المطار، لعلّه نسي شيئاً مهمّاً فقرر العودة إلى البيت (قلت)، ولكنّه توجّه إلى اليمين، فلحقت به.

الناس في جانبي الطريق يحدّقون  بدهشة إلى سيارتين مسرعتين، الأولى صوت زمورها يصل إلى مسافات بعيدة، وأنا في الثانية أتابعه،  ولا اعرف إلى أين؟

فجأة انعطف يميناً، أوقف سيارته وأسرع يعدو. ركنتُ سيارتي ودخلت بوّابة المدرسة التي سبقني إليها.

في غرفة تحمل شارة: “غرفة الدوام والأساتذة” أبصرتُ السائقَ يوقّع، وبقرب الدفتر شخص يرقبه، وعيناه مصوّبتان إلى يد السائق التي بدت ترتجفُ تلك اللحظةَ.

تقدّمت أكثر ، فرأيت توقيع السائق تحت الخط الأحمر الذي وضعه الشخص الواقف هناك ، والذي بادر ه بالقول:

-لقد تأخرت يا أستاذ

-الذنب ليس ذنبي حضرة الناظر، فعجقة السير قويّةٌ.

-لا دخل لي بذلك، سيُحسم من راتبك.

تجلّدتُ مكاني، وأخذت أهمس في سرّي”أستاذ”!    حقيقةً، الذنب ليس ذنبه، وأنا شاهد على ذلك، بي رغبة شديدة في تقديم الاعتذار منه، ذا، لأنّني وصّفته بنعوت مسيئة “شبيح، وتصرّف صبياني”.

توجهّت إلى الناظر:

-أشهد بأنّه كاد يصدم أكثر من سيارة من أجل الوصول قبل وضعِكَ هذا الخطَ الأحمرَ  بذلك الساطور الذي تحمله الآن وهو ينزُّ دماً .

-أنت تشبِّه القلم الأحمر بالساطور؟ أهو الذي طلب إليك أن تشهد؟

-لا، فأنا لا أعرفه من قبل، وتبعته إلى هنا لأشهد على ما قد يتسبّب به ساطورك الأحمر هذا، من حوادث كثيرة بعضها قاتل.

قبل عودتي إلى متابعة سيري ، ألقيت نظرة خاطفة إلى دمعتين همتا على وجنتي الأستاذ، ورحتُ أستعيدُ مشهدَ الدمعتين اللتين همتا على وجنتي زميلي في العمل لحظة إبصاره الخطّ الأحمر الذي وضعه ذلك الموظّف المكلّف بمراقبة الدوام، والذي شبّهت القلم الأحمر في يده، يوم ذاك، بالساطور الذي  يقطع به أرزاق أطفال ذلك الموظّف الذي قال له ابو ساطور :

-ستّ دقائق تأخير تعني ثلاثة أيام حسم

-ثلاثة أيام! يا ويلك من الله! أليس عندك حسٌّ إنسانيٌّ؟

-لا تجادل، فالدوام مقدّس. أجاب ابو ساطور

-“لا همّ ، فليحسم ما يشاء، فلن أسرع زيادة عمّا هو مسموح به. العوض على الله” (همست)، وشرعت أتذكّر ما نشره مفتّش على صفحته يشكو   الظلم اللاحق به لحظة إبلاغه بدفع بدل محضر ضبط السرعة الذي سجّلته الكاميرا الموضوعة على الأوتوستراد الذي كان يسابق الوقت فيه ليصل إلى غرفة الدوام قبل الثامنة صباحاً، رغبةً منه في وضع الخط الأحمر على دفتر الدوام المكلّف بمراقبته. بل وضع الساطور الذي يقطر حبراً أحمر على الدفتر ، ودماً من رقاب افراد أسرة ذلك الزميل .

يومها همست ،وأنا أرقب وضع هؤلاء البشر الذين يقيسون الوقت ولا يلتفتون إلى الإنتاجيّة التي يقدّمه الإنسان الذي قد يُمضي وقتاً من دون فائدة. وفي ساعة قد ينتج ما ينتجه غيره في ساعات. ثمّ ما بال هؤلاء  يفرضون  عقوبات تفوق تلك التي يستحقّها المخالف، رغمأ منه، بل أين النظرة الإنسانيّة التي تراعي الأوضاع الصعبة والقاهرة التي تُفرض على هؤلاء البشر؟

اخذت أردد ما قاله زميلي الموظّف: “أين الحسّ الإنسانيّ”؟ هل فقد البعض إنسانيّتهم

في هذا الوطن”؟

قبريخا في 4/ 9/ 2022   

اترك رد