النصّ من الرواية: البيع والشراء
فتيات في عمر الورود… خلقهنّ الله آيات في الجمال، تُباع الواحدة منهنّ بدراهم قليلة… وسمعتُ أيضاً عن بيع الأولاد والفتيات الصغيرات… ألم تسمعي بذلك يا أمّ سليمان؟
اتّكأت العجوز على عصاها، وأجابت: بلى سمعت. والمتاجرة بالفتيات لا تحدث هنا فقط… وروى بعض الناس أنّ امرأة أرادت أن تبيع واحدة من بناتها، فاستهجن المارّة فعلتها، وعرضت على أحد الأغنياء أن يأخذ الابنة هديّة لكي ينقذها من ذلّ المجاعة.
كانت سلمى قد تعافت من مرضها، وعادت الحياة إلى جسدها. ولمّا سمعت الحديث الذي دار بين أمّها والمرأة الزائرة، برزت على وجهها علامات القلق والاشمئزاز. وتراءى لها أنّ ما حدث لأولئك الفتيات المسكينات قد يحدث لها ذات يوم، وعبثاً حاولت أن تطرد صورة الفتاة التي تخلّت عنها أمّها من خيالها… مسكينة تلك الفتاة… واقفة مع أمّها وهي ترتعب. الدمعة يابسة على وجهها، وأمّها لا يرفّ لها جفن. تقودها رغماً عنها إلى السوق لتعرضها على الشارين. والشارون رجال لا يرحمون، في عيونهم جوع. والفقراء منهم ينظرون إلى الجسد النحيل بعيون مفترسة. يشتهون ولا يستطيعون أن ينالوا ما يشتهونه. الجسد هو طعام أيضاً للذين لم يأكلوا من خبز الروح. عيون تكبر وتكبر أمام رغيف الجسد، وعيون أخرى تتحجّر وتغضب لأنّها لا تنال من الحياة ما تريده، فيفرغ الشارع من معناه، وتفرغ الدنيا من مضمونها. والأغنياء لا يقلّون شراهة عن الفقراء، وما يميّز الغنيّ عن الفقير حفنة من المال، أو قليل من الطعام… بعض الناس هم أيضاً تحوّلوا إلى جراد، فمنهم جراد يلتهم كلّ ما يقع تحت نظره، وجراد حملته الرياح إلى صحراء لا نبات فيها.
قالت أمّ عبدالله للمرأة الزائرة: كلّ ما أصابنا من شرور وراءه الحكّام. قاتلهم الله…
همهمت المرأة بصوت خشن: صحيح يا أمّ عبدالله… قاتلهم الله ورماهم في الجحيم… يبيعون شرفهم للوصول إلى السلطة. يلهثون وراء الغرب ويستجدونه، حتّى إذا شعروا أنّ بأنّ لا فائدة منه، أداروا وجوههم إلى الشرق، في غمضة عين، لعلّهم يصيبون منه فائدة… حكّامنا المتسلّطون أرادوا أن يدخلوا التاريخ، وأن يُذكروا مع الأبطال الخالدين، فإذا بنا ندخل معهم في ظلام دامس. فيا لتلك الوعود التي أغدقوها علينا! وعود فضفاضة وفارغة، سرعان ما تناثرت هباء، وحصدنا منها المصائب!…
هزّت أمّ عبدالله برأسها موافقة، وقالت: إنّ التاريخ سيذكر عنهم، أنّهم كانوا جائعين وشبعوا… وكانوا يستميتون من أجل السلطة، وكأنّ السلطة وليمة شهيّة، وهي مسؤوليّة ورسالة وخدمة… فسقطوا من عيون الناس، وها هم يشتمونهم في الشوارع، ويلعنون الساعة التي صدّقوا فيها كلامهم المعسول، ويصوّرونهم بأبشع الصور… لم نرَ في أيّامنا قادة مثلهم في أيّ بلاد… ولم نسمع بمثل هذا التردّي، حتّى في أوطان يحكمها المستبدّون..
***
رؤية الكاتبة م . إلهام سلطان
هو عالم الدويهي، في مقطع من القصّة (البيع والشراء)، ومن العتبة النصّيّة الأولى – العنوان، يخطر في بالك أيّ شيء له علاقة بالبيع والشراء ، بالتجارة، الذهب، الفضّة، الأرض، البيت، العقار… كلّ شيء إلاّ الانسان…
عندما بدأت الكتابة، منذ أكثر من عشرين عاماً، كان موضوعي آنذاك عن مشهد لا أنساه في حياتي أبداً، هزّ مشاعري وأنا في طريقي إلى عملي.
كنت أقود سيّارتي، فشاهدت طفلة بعمر الورود، شعرها الأشقر المبعثر الطويل، المتناثر على كتفيها يسرد قصّة البؤس والخذلان والحزن التي تعيشها، ووجهها لوّحته الشمس من كثرة السير في الطرقات والشوارع والوقوف أمام السيارات لبيع المحارم، وكانت أمّها تقف بقربها، تحمل رضيعها…
كانت تلك الطفلة تحدّث شابًّا في مقتبل العمر، وتتوسّل إليه، لشراء المناديل الورقيّه التي تحملها، وتمدّ يدها لتأخذ منه النقود، فيما هو ينظر إليها بنظرات خبيثه فيكاد يلتهمها، ويقترب من أذنيها فيوشوشها وضحكتها تتعالى في الشارع.
يوم لا أنساه في حياتي… تابعت في سيارتي مسرعة… وفعلاً كتبت عن هذا المشهد في الجريدة…
مرّت الأيّام وصورة تلك الفتاة لا تفارقني. تومض في مخيّلتي من فترة إلى أخرى، مع أنّني أحاول نسيان هذا المنظر… إلى أن قرأت مقطع (البيع والشراء) من رواية الأديب د. جميل الدويهي “حدث في أيّام الجوع”، وهو نصّ يُشرذم روحك إلى فضاءات رماديّة لا ينتهي أنينها.
قصّة للدكتور جميل ميلاد الدويهي الذي يدخلك إلى عالم الروح. عالم المكنونات النفسيّة… الإنسان هو هاجسه، الإنسان الذي تطغى شهواته الحيوانيّة على إنسانيّته ليصبح كالبهيمة. كما يعرّي أديبنا المجتمع، والحكّام، البعيدين عن هموم الناس ومعاناتهم…
قصّة معمّدة بالبؤس والألم والقهر والذلّ… تأخذك في البداية وبأسطرها الأولى إلى العالم الورديّ الذي تعبث به يد الاشرار والظُّلام: “فتيات في عمر الورود… خلقهنّ الله آيات في الجمال، وسمعتُ أيضاً عن بيع الأولاد والفتيات الصغيرات”…
هذه هي الكلمات الأولى في نصّ (البيع والشراء) للأديب الدويهي، تأخذك إلى عالم السحر، والجمال، والبراءة… إلى عالم الضوء الذي يفتحه من أوسع أبوابه… لتقرأ بعدها: “تُباع الواحدة منهنّ بدراهم قليلة… ألم تسمعي بذلك يا أمّ سليمان؟”
لندخل إلى متن الموضوع. إلى العالم الموحش، حيث تشويه الجمال، ووأده في مستنقعات آسنة، إلى المدار الأسود الذي لا يمتّ للبشريّة بصلة، وإنّما إلى الوجود البهائميّ.
وبعد ذلك، تتابع النصّ بالأسلوب السلس، الشيّق، الممتع، المبنيّ على التكثيف والاختزال: “وروى بعض الناس أنّ امرأة أرادت أن تبيع واحدة من بناتها، فاستهجن المارّة فعلتها، وعرضت على أحد الأغنياء أن يأخذ الابنة هديّة لكي ينقذها من ذلّ المجاعة”.
وهنا يقحمنا الأديب في عالم المجتمع الفقير، المنكوب، المذلول الذي يبحث عن لقمة عيشه ليسدّ رمقه. وينقلنا السياق الأدبيّ من واقع الضوء إلى واقع الظلمة، والانحطاط والمجاعه، والفقر المدقع… فكلّ شيء مباح، حتّى بيع قطعة من الروح، وهنّ البنات، لأنّ لا طريق آخر لسد رمق الحياة…
“مسكينة تلك الفتاة… واقفة مع أمّها وهي ترتعب. الدمعة يابسة على وجهها، وأمّها لا يرفّ لها جفن. تقودها رغماً عنها إلى السوق لتعرضها على الشارين. والشارون رجال لا يرحمون”…
سمعت سلمى هذا الحديث الذي دار بين أمّها وجارتها، فأيقظ في روحها القلق والحيرة وعدم الأمان. هذه الطفلة التي أخذتها أمّها لتعرضها في سوق البيع لا تغيب عن مخيّلتها، والأسوأ أنّها تشعر بالخوف، إذ يمكن أن يكون مصيرها هي مماثلاً في لحظة ما…
الأديب الدويهي سرد قصّته بشكل ممتع وبإحساس عال، مستخدماً المفردة التي تعبّر بشكل عميق عن رسالته، وعن الموقف الدراميّ في اللحظة المحزنة، فعندما يصف الفتاة بأنّها “واقفة مع أمّها ترتعب، والدمعة يابسة على وجهها”، يضعنا أمام لوحة تنطق، وأمام مشهد واقعيّ لا يغيب عن الذاكرة. وفي الوقت نفسه، يشير إلى نقطه هامّة، وهي أنّ المشكله التي يطرقها في النصّ هي مشكلة المجتمع الأوسع، حيث تنتشر حالة الهلع، والقلق، وعدم الأمان. وبمعنى آخر، فإنّ هذا المجتمع ذاهب نحو الانحلال…
وتتطابق هذه الأفكار وشخصيّات الدويهي على ما عبّر عنه دوستويفسكي في “يوميات كاتب”، عندما تحدّث عن تخلّي بعض البشر عن كلّ قيمهم الإنسانيّة ليتحوّلوا إلى بهائم: “الصورة الإنسانيّة قد اختفت، وحلّت محلّها صورة العبد البهيمة… مع فارق واحد هو أنّ البهيمة لا تعرف أنّها بهيمة، أمّا الإنسان فسيعرف أنّه أصبح بهيمة.”
وما هي الأسباب التي توصل الإنسان إلى هذا النفق المظلم، وإلى حظيرة السائمة؟
هز ما يشرحه الأديب الجميل، عندما يتناول الواقع البائس المزري: “قالت أمّ عبدالله للمرأة الزائرة: كلّ ما أصابنا من شرور وراءه الحكّام.”
هنا الكاتب يحمّل المسؤوليّة للحكّام في وطنه، على لسان أمّ عبدالله، باعتبار الحاكم هو رأس الهرم في السلطه، وفي الدولة،. والمسؤول عن استتباب الأمن والسلامة والعيش الكريم. وفي الرواية كلّها يصبَ الدويهي جام غضبه على المسؤولين في بلاده، الذين لا همّ لهم إلاّ جمع الثروة، وهم بعيدون كلّ البعد عن المجتمع ومشاكله، ومعاناته…
وننهي بقول لدوستويفسكي في قصّة “المراهق”: “إعملوا من أجل الانسانيّة، وانسوا كلّ ما عدا ذلك! ثمّة أعمال لا يكفيها العمر”… وكأنّ الدويهي في قصّته يترجم هذه الدعوة الإنسانيّة، ويبشّر بها.
كما نلمح في رؤية الدويهي العميقة صدى ميخائيل نعيمة بسحر أسلوبه، وعمق جبران خليل جبران في أفكاره.
وأمام عالم الدويهي النابض بالفكر والإنسانيّة والروحانيّة، نكتشف أنّ همّ الأديب الأسمى، وشغفه الأغلى هو الإنسان الذي خلقه الله على صورته، ونفخ فيه من روحه ليكون سيّداً على هذه الأرض، ولكنّ المجتمع والنفوس الضعيفه تأخذه إلى مهاوي الردى، وقاع المأساة.
***
*من كتاب الجلسة الحواريّة حول رواية الأديب جميل الدويهي ” حدث في أيّام الجوع” – مشروع الأديب د. جميل الدويهي للأدب الراقي – سيدني النهضة الاغترابية الثانية – تعدد الأنواع.