تُنشر المقالة في كتاب الجلسة الحواريّة حول الرواية، ويصدر قريباً من مشروع “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي – سيدني
قصّة العمّ أحمد
1- النصّ من رواية “حدث في أيّام الجوع” للأديب المهجريّ د. جميل الدويهي:
كانت عندي تجارة في طرابلس، وكنت لا أشكو من أيّ ضيق، إلى أن حدث ما حدث، وأكل الجراد الزرع، وانهارت العملة، وكان عندي رصيد قليل في المصارف، استولى عليه أرباب الجشع… حدث ذلك بعدما انتشر الجراد والوباء في البلاد… وكأنّ المصائب حلّت علينا دفعة واحدة، فقد وقع انفجار هائل في المرفإ، قضى على المئات من الأبرياء، وهدم المباني والمتاجر… الحمد لله أنّنا أحياء ولو كنّا في الظلام… بينما الآلاف من البشر تلوّثت أرواحهم، وفقدوا البصر والبصيرة… ونزل غضب الله على الدنيا… هي مرحلة من أصعب المراحل في تاريخ البلاد… غراب حالك السواد نشر جناحيه على المدن والقرى، وما أصعب أن تطردَ الغربان الناعبة أهلَ البلاد، لكي تسكن في منازلهم!
كان عبدالله يراقب فُتات الخبز، وهي تندثر على أرضيّة الغرفة. ذهبٌ خالص يشتهيه الفقراء والصيارفة معاً… وجميعُهم مسؤولون عن انهيار البلاد، الأغنياء والمعدمون… لقد أفلح الحيتان الجشعون في تطويع الرعيّة، وابتزازها بالمال تارة، وبالدواء والوظيفة تارة أخرى. وكثيراً ما تعبّر الطبقة المسحوقة عن غضبها، فتنهال الشتائم على الوجوه الصفراء… ولكنْ عند الانتخاب، تتلاشى كلّ نقمة، وتضجّ الشوارع بالصوَر الخادعة، ويتسابق المواطنون إلى تقديم الطاعة لمَن يجلدونهم ولا يرحمون.
كلّ تعابير القنوط واللعنة تتلاشى كسحابة صيف، والذين يلعنون هم المسؤولون عن جَلْد أنفسهم… وبعضُهم يخاف أن تندلع الحرب لو أنّه فكّر في الثورة، فالبلادُ طوائف وأحزاب، وكلّ جماعة لها مرجع دينيّ، ورجال يستميتون في الدفاع عنها… وقلّما يعثر المرء على حزب لا طائفة له. والطائفة تسيّر الناس كما تشاء لا كما يشاؤون، لذلك يعيدون صياغة الواقع على طريقتها، مسلّمين أنفسهم للجزّارين مرّة تلو مرّة، فكأنّهم يرفضون أن يتعلّموا من تجربة الماضي الأليم، أو يغيّروا النهج الذي يتخبّط، ويعجز عن تخليص البلاد وأهلها.
إنسان يعمل ضدّ نفسه وأهله، ويتباهى بأنّه يسير وراء زعيم… وبينما هو ذاهب إلى صندوق الاقتراع، ينسى كلّ ما مرّ به من شظف وخوف وتشرُّد، فلا انهيار العملة، ولا انفجار مدمّر، ولا الحاجة إلى رغيف تعني له شيئاً… فكلّ ما يعني له أن يعود زعيمه الذي نهب البلاد وخزينتها إلى كرسيّ الحكم معزّزاً مكرّماً. وعندما هاجر كثيرون إلى بلاد الغرب، للنجاة بأرواحهم، ظلّوا هم أيضاً يعزفون على الوتر نفسه، فأسّسوا أحزاباً رديفة، وطوائف ومذاهب مصغّرة على غرار تلك التي في الوطن الأمّ… هذه التبعيّة العمياء هي مصيبة المصائب، في وطن أشرق منه النور وأطلّ على العالم حروفاً، وحضارة، وفتوحات بحريّة. فما هو الشعور الذي يجتاح المرء وهو يتبع إنساناً آخر، ويشبّهه بالمسيح والأنبياء؟! وما هي المتعة التي يحصل عليها عندما يحظى بصورة مع زعيم أو حاكم أو نائب، فيعرضها على أهله وأصدقائه، ويخبّئها في خزنة مقفلة، فكأنّه يخبّئ كنوز الملك سليمان، أو ذهب قارون؟! وكيف يرضى المتألّم المصلوب بأن يجدّد العهد لمَن أوجَعوه وصلبُوه على جلجلة؟!
***
2: قراءة الأستاذ جورج الكايد (سيدني)
هي قصّة وطن بأحداثه، ومعاناته، وآلامه… بحزنه وفرحه…
تبتدئ قصّة العمّ أحمد، التاجر البسيط، مثله كمثل أيّ مواطن شريف، هادئ، ووديع، يهمّه وطنه ومجتمعه، إلى أن تتغيّر الأحوال، وأوّل المصائب زحف الجراد، ليغزو الأراضي، ويأكل الأخضر واليابس، فيؤثّر على اقتصاد البلاد، وتتحوّل الحقول الزراعيّة إلى أرض قاحلة، ويدبّ الجوع، وينهار اقتصاد البلاد والعباد.
ويضيف الأديب -كما نقرأ في الرواية- نوعاً آخر من الجراد، هو البشريّ الذي التهم مقدّرات الوطن. وهذه اللوحة تمثّل على خشبة المسرح الواقع الجشع والطمع، وثقافة الحيتان.
يمتلك العمّ أحمد رصيداً بسيطاً في المصارف، يعلّل به نفسه خشية العوز،
وللأسف تعلن المصارف مصادرتها ودائع الناس، وتستولي على رصيد العمّ أحمد، على الرغم من أنّه مبلغ زهيد.
أليس هذا هو الواقع المرّ الذي حدث في لبنان، عندما أعلن بنك (أنترا) إفلاسه في عام 1966…؟ وهذا المشهد ما يزال مستمرّاً حتّى هذا اليوم، لكن بنهج آخر، فمن غير إفلاس المصارف، صودرت أرزاق الناس.
يعيش الكاتب الدويهي مع العمّ أحمد حدثاً هامّاً، هو انفجار المرفأ الذي أدّى إلى خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات. وغدت الهجرة هدفاً لكلّ شابّ طموح. والهجرة ظاهرة عُرفت في الماضي، لكنّها تسارعت في أيّامنا هذه. ويرسم الأديب صورة الغربان الناعبة التي تحلّ في المنازل، بعد أن خلت من أبنائها المهاجرين إلى بقاع العالم.
ويبرز هنا، وفي كلّ جوانب الرواية، أنّ الكاتب ابن بيئته، يتأثّر بها، ويعيش
واقعها، فكاتاباته مرآة لكلّ حدث… كيف لا؟ وهو ابن أرض جبران خليل جبران،
يشمّ نسائم الريحان والنرجس من حول داره، ويشارك أهله في أوجاعهم وهمومهم…
ولفتتني في النصّ صورة عبد الله، وهو يراقب فُتات الخبز يَندثر على أرضيّة الغرفة، في مفارقة بين الفقر والغنى، وأرى في صورة عبدالله وهو يفتّت الخبز، عمليّة انتقام، في عقله الباطنيّ، ممّن أكلوا رغيفه، وقتلوا شعبه، وألقوا به في ظلمة السجن الرهيب. وفي الكتاب المقدّس تطعم كسرات الخبز شعوباً، فهل تكون نثرات الخبز على أرض السجن بداية لإشباع الناس وخلاصهم؟
إنّ الجراد البشريّ المتمثّل في طبقة الحاكمين، يطوّع الرعيّة من خلال ابتزازها بالمال تارة وبالدواء والوظيفة تارة أخرى، فقد تثور الطبقة المسحوقة وتحمل اللافتات، وتطلق عبارات وشتائم كثيرة، ولكن عند الإنتخابات تتلاشى كلّ نقمة، وتعود الشخصيّات ذاتها إلى كراسيّها ومناصبها. فقانون الانتخابات طائفيّ، والأحزاب طائفيّة لها مرجعها الدينيّ، إلا ّما ندر منها. وصورة التبعيّة مستمرّة، حتّى في بلاد المهجر، حيث يحمل الكثيرون صور زعيمهم وأعلام أحزابهم.
إنّها مصيبة المصائب في وطن أشرق منه النور، وأطلّ على العالم حروفاً وحضارة… ومِن على منبر الحرّيّة، يعلو صوت الكاتب، وعيًا وإرشادًا للناس، فيوضح لهم الحقيقة، علّهم يدركونها، وبين الفينة والأخرى يطرح عليهم
مجموعة من التساؤلات المتكرّرة التي يقصد بها التأثير والتحفيز للانطلاق نحو التمرّد والخلاص… فكيف ترضى أيّها المواطن، وأنت المتألّم المصلوب، بأن تجدّد العهد لمن أوجعوك وصلبوك (كما المسيح على الجلجلة)؟
هذه قصّة العمّ أحمد، حكاية وطن نكبته الويلات منذ العام 1860 حتّى هذه الساعة…
كلّ الشكر للأديب الدكتور جميل ميلاد الدويهي، على ما يقدّمه من إبداع أدبيّ وإنسانيّ، في روايته “حدث في أيّام الجوع”، وفي أعماله الأدبيّة المتنوّعة.
***
*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي – 2022