د. حورية الخمليشي تبحث في “تواشجات الشعري والفني في الشعر العربي الحديث شربل داغر نموذجاً”

 

 

صدر عن منشورات ضفاف. بيروت،  ودار الأمان. الرباط، ومنشورات الاختلاف، الجزائر كتاب جديد للدكتورة  حورية الخمليشي في عنوان “تواشجات الشعري والفني في الشعر العربي الحديث. شربل داغر نموذجاً”.

يتضمن الكتاب أقسامًا أربعة:

-في القسم الأول “الشعرية الحديثة. توطئة نظرية”  أربعة فصول: اللغة الشعرية بين الشعر والنثر. أفق الفن الحديث في العالم العربي. جدلية العلاقة بين الشعر والفن. عناق الشعر والفن.

-في القسم الثاني “القصيدة الشعرية وبناء الرؤيا في شعر شربل داغر” أربعة فصول: اللغة في شعرية شربل داغر. شعرية المشي  والتعلق الفكري. تواشجات الشعري والفني في شعر شربل داغر. اختلاف القراءات والمزج بين الفنون في القصيدة الواحدة.

في القسم الثالث “الشعر نصًا بصريًا تشكيليًا” فصلان: قراءات بصرية لأعمال فنانين تشكيليين. البحث في المعنى حوارات مع أدباء  وشعراء.

في القسم الرابع “تفاعل الشعر والفن من منظور الفنانين” ثلاثة فصول: البحث عن المعنى حوارات مع فنانين تشكيليين. شعرية الرسم بين اللوحة والقصيدة. تداخل الشعر والموسيقى والمسرح والسينما.

في الكتاب أيضًا:

استنتاج

خاتمة

ملاحق: السيرة الذاتية لشربل داغر. ملحق الصور. ثبت المصادر والمراجع

المقدمة

قدمت د.حورية الخمليشي للكتاب بكلمة  تعريفية حول مضمون الكتاب والهدف من الدراسة نورد مختصرًا لها:

نسعى في هذا الكتاب إلى تقديم مشروع مقاربة جديدة لتلقي النص الشعري بشكل جديدٍ ومختلفٍ لإنتاج قراءة معرفيّة جديدة، لموضوع “تواشجات الشعري والفني في الشعر العربي الحديث”. فقد حملت الحداثة معنىً جديداً في تجديد الشعر وتطوُّره وانفتاحه على الفنون وعلى شعريّات العالم، زمن الانفتاح والتلاقح الثقافي بين الحضارات العالميّة، عبْر ثقافة شعريّة وفنيّة متفاعلة مع الشعر العالمي. وهذه الدراسة مغامرة قراءة جديدة موَسّعة للشعر العربي الحديث. مُغامرةٌ في المجهول لاكتشاف العوالم المتشابكة بين الشعر والفن، بين فنّيْن مختلفيْن متجاوريْن. فالشعر العربي الحديث نبعُ الفنون التشكيليّة، والمسرحيّة، والموسيقيّة، والسينمائيّة وغيرها.

لا نكاد نجد دراسة مستقلة شاملة لموضوع “تواشجات الشعري والفني في الشعر العربي الحديث”. فما يميّز هذه الدراسة هو تداخل الحقول المعرفيّة. لأنّ الخطاب الشعري الحديث ينهل من مختلف حقول المعرفة، ومنفتحٌ على مختلف أنماط الفنون المجاورة. وقد استثمرنا في هذه الدراسة المعطيات المعرفيّة الشعريّة، واللسانيّة، والبلاغيّة، والفلسفيّة. بالإضافة إلى المعطيات الفنيّة التشكيليّة، والموسيقيّة، والمسرحيّة، والسينمائيّة.

ونقترح أنموذجاً لقراءة شعريّة موَسّعة لا تقدّم الأجوبة ولكنها تثير العديد من الأسئلة والتساؤلات، بل وتِؤسّس لنوع من ثقافة التساؤل في الشعر العربي الحديث. فالتساؤل مفتاحٌ لفَتح آفاق جديدة في المعرفة. فقد أشرنا غير ما مرة في دراساتنا السابقة إلى أنّ الفرق بين “السؤال” و”التساؤل” هو أن السؤال يأتي رغبة في العلم، ويرد في صيغ استفهامية مختلفة ومتعلّقة بالبحث عن جوابٍ لمعلومة معينة، بينما التساؤل يتعلّق بقضية غير منتهية وتقتضي المزيد من البحث والدراسة. والتساؤل في حدّ ذاته قد تتولّد عنه تساؤلات جديدة. فهو يشمل كل المعارف الإنسانيّة بما فيها المعرفة الشعريّة. إنه سفرٌ في المجهول واللانهائي.

ودراسة تواشجات الشعري والفني أوّل دراسة موسّعة في الشعر العربي الحديث، تدعو الأدباء والفنّانين للجلوس حول طاولة واحدة جنباً إلى جنب، في لقاء يجمع بين الشعر، والكلمة، والتصوير، واللون لتتبُّع القصيدة في رحلاتها الشعريّة والفنّيّة عبر العالم، من خلال حوارات مع شعراء وأدباء، وفنّانين على مستوى التشكيل، والمسرح، والسينما، والموسيقى من مختلف الأقطار والبلدان، للنظر في مدى قدرة كلّ من الشعر والفن على التلاقي والتفاعل والحوار. هذا التفاعل الخلاّق بين اللغوي والبصري، موضوعٌ تشترك فيه عدة معارف وثقافات.

إنّ عِناق الشعر والفن مبنيٌّ على التواشج والتجاور لا التباعد في نطاق الانفتاح الشعري الثقافي، الذي تعرفه القصيدة في العصر الحديث، ضمن مشروعٍ ثقافيٍّ منفتحٍ على مشاريع اشتغال مستقبليّة، سعياً منّا إلى فتح النقد الشعري الحديث على آفاق جديدة في القراءة والتأويل. وقد انطلقنا في هذه الدراسة من سؤال معرفي هو: كيف نقرأ الشعر العربي الحديث من خلال أسئلة مختلفة والخروج من الدراسات المستهلَكة؟

إنّ تقديم قراءة مُنفتحة على الفنون وعل شعريّات العالمتسعى إلى تجديد الآليات المنهجيّة لتلقي النص الشعري وتحقيق تواصلٍ مختلفٍ بين المُبدع والمتلقي. فجمال الشعر لا يكتمل إلا في اختلافه وتنوّعه الخلاّق، لأن الشعر خلْقٌ وكشفٌ في كل حالات الاختلاف. ويكمُن سرّ النص الشعري في لغته وخصوصيتها وانزياحاتها. وفي ذلك تأسيسٌ للقراءات المتعددة للبحث عن المعنى.وهو ما يدعو القارئ إلى التأمل والاكتشاف.

إنّ القراءات تتنوّع وتختلف بتنوّع القُرّاء. فالقراءة الشعريّة معرفة وسفرٌ في الخيال. والقراءة المتجدّدة تتطلب الكثير من الصبر والاجتهاد. وتختلف أساليب المقرابة من متلقي لآخر.والنص الشعري يتجاوز مبدعه، كما يتجاوز قارئه، لأنه نصٌّ لازمني، يأتي من المستقبل.

ونظراً لشساعة الموضوع فقد عملنا على جمع مصادره ومراجعه على مدى سنوات. كما استغرق الكتاب سنوات وسنوات من العمل. فدراسة تواشجات الشعري والفني في الشعر العربي الحديث يقتضي ثقافة معرفيّة شعريّة وثقافة معرفيّة فنيّة، لذلك تطلّب منّا هذا العمل التعمّق في دراسة الفن لمدة سنتيْن. وقد استأنسنا بالعديد من المراجع، وهي مراجع لا تُلزمنا باتباع خُطة محددة في دراسة الشعر. وتبنّينا شعريّة الانفتاح في الشعر العربي الحديث بتقديم دراسة نسقيّة تنبني على نظريّة الأنساق كنظريّة متكاملة متناسقة. وقد تناولنا بعض المكتسبات المعرفيّة والمنهاجيّة بالاعتماد على نظريّة محمد مفتاح في كتابه “مفاهيم موسعة لنظرية شعرية. اللغة-الموسيقى-الحركة”. وخاصة التواشجات النسقيّة في تناول النص الشعري وعلاقته بالفنون المجاورة باستثمار المكتسبات المعرفيّة والمنهاجيّة، وتَناوُل النص الشعري بطريقة نسقيّة من خلال علاقة التجاور، والتواشج، والتداخل، والحوار أو “التفان” بتعبير محمد مفتاح. فهذه المصطلحات تنسجم والإطار المنهجي لهذه الدراسة.

ويأتي هذا الكتاب بعد خلاصة تجربة بالتحصيل والبحث لأكثر من عشرين سنة، وبعد أربعة كتبٍ معرفيّةٍ أكاديميّة في الشعر العربي:”الشعر المنثور والتحديث الشعري“،و”الكتابة والأجناس. شعريّة الانفتاح في الشعر العربي الحديث“، و”الشعر وأنسنة العالم“، و“الشعر والغناء وترسيخ الثقافة الكونيّة”. فقدتوصلنا إلى أنّبناء الخطاب الشعري الحديث يثير العديد من الأسئلة المعرفيّة، منها ما يتعلّق باللغة، ومنها ما يتعلّق بالمعارف النّظريّة وما تقتضيه مسألة التحديث الشعري. وقد عرف الشعر الحديث والمعاصر انفتاحاً على الفنون وعلى شعريّات العالم، لِما عرفته القصيدة العربيّة من التغيّرات والتّبدّلات الفنّيّة والجماليّة. فالكثير من الشعراء استوحوا أفكار لوحاتهم من الشعر، كما استوحى العديد من الفنانين قصائدهم من لوحات تشكيليّة. ما يعني أن هناك علاقة جدليّة تجاوريّة بين الشعر والفن. إنّ القراءة سفرٌ مع القصيدة إلى عوالمها اللانهائيّة. سفرٌ بين المبدع والقارئالذي يتفاعل مع النص، ويستقبل صوَره الشعريّة الفنيّة والذهنيّة. فعبْر القراءة تُواصل القصيدة حياتها، وسفرها،وعبورها إلى ضفاف الحوار الكوني. ما يستدعي وعياً نقدياً جديداً على مستوى التلقي، بعد أن أصبحت القصيدة في زمننا بصريّة تحلّ فيها العين أكثر من الأنا.

وتقتضي إشكاليّة البحث طرح حدود نظريّة للعلاقة بين الشعر والفن، بين الإبداع والإبداع، أي بين القصيدة والعمل الفنّي. وهو موضوعٌ لم يحقّق بعدُ الإشباع الجمالي المنشود للقُرّاء والمهتمّين. فالنص الشعري نصٌّ منفتحٌ، متعدّد القراءات. وأُفُق القراءات مفتوحٌ باختلاف السيّاقات التأويليّة ولانهائيّات الدلالة.

وقد آثرنا الاشتغال على شعر شربل داغر. فشربل داغر شاعرٌ ثقافي. شعره مُنفتحٌ على الفنون وعلى شعريّات العالم. وتجربة شعريّة متفرّدة مختلفة بمرجعياتها الثقاقيّة، الشعريّة، الفنيّة، والفلسفيّة.  لِما فيه من سؤال شعري مفتوح على مفاجآت الذات الشعريّة في تصوّره للعالم. فشعره شعر ثقافة، وشعر جماليّة. يمتاز بالقلق الوجودي والمعرفة الشعريّة المنفَتِحة على نتاج شعراء آخرين. إذ نجد أنّ المشي والسفر والعبور هو الحقل الدلالي الواسع في شعره. فهو ينسج دوماً مساراته الشعريّة والفكريّة في التّوق إلى المتعاليات. فشعر داغر متّصلٌ بشهوة المعرفة، وبشهوة البحث عن الحب والحريّة. فكان محطّ اهتمام العديد من الفنّانين وخاصة الفنانين التشكيليّين.

إنّ أشكالَ الكتابة تتعدد عند شربل داغر بين الوعي النظري وفعل الكتابة في إنتاجاته الشعريّة الغزيرة والمختلفة. فهو مُنشغلٌ دوماً بالكتابة وأسئلتها المتعدّدة.فبالإضافة إلى كون شربل داغر شاعراً ومنظّراً. فقد اهتمّ أيضاً بدراسة الفنّ، وفلسفته، وتاريخه. فهو منشغلٌ دائماً بعالم الفن وبناء اللوحة، في زمن يتجاهل فيه العديد من الأدباء العرب عالم الفنّ، ما جعل أشعاره تنفتح على هذه العوالم السحريّة في نطاق من التعايش والتفاعل بين الشعر والفنّ. فكثيراً ما يبني عوالمه الشعريّة بالاستفادة من الفن، وخاصة الفن التشكيلي. فهو من أهمّ الدارسين لتاريخ الفنّ العربي والإسلامي وبناء اللوحة، والصورة، والجسد. إنّ القصيدة عند شربل داغر هي قبل كل شيء ككلّ إنتاجٍ ثقافي وجمالي.

ونوَدُّ أن نشير إلى أنّ الدراسة لا تهتم بما كتبه شربل داغر في كتبه التنظيريّة عن الشعر العربي الحديث، ولا بمؤلفاته العديدة عن درس الفن العربي بقدر ما تهتم بكتابته الشعريّة وقصيدته التي تَعْبُر إلى المستقبل الشعري المفتوح والمتعدّد. فقد استأثرت قصيدته المفتوحة على الفنون بوعي حداثي ثقافي نابع من خبرته الشعريّة وخبرته الفنيّة.

وتظل قراءة الشعر دائماً غير مُكتمَلَة لشساعة التأويل وتدفّق الدلالات. فالقراءات تتنوّع وتختلف بتنوُّع القُرّاء. وقراءة الشعر، كما تقول خالدة سعيد، مثل الكتابة “مغامرة وخطرٌ، طريقٌ لا نعرف نهايته ولا نعرف إن كان منه وصول، طريقٌ يبدأ ولا نعرف أين ينتهي(…) رحلة تتخفّى فيها الحقائق وتباغتنا بكل الأقنعة أو تأخذنا في المتاهات. ما دام التعدّد هو من أسرار النصّ الإبداعي.”[1] فعبر القراءة تواصل القصيدة حياتها وسفرها وعبورها إلى ضفاف الحوار الكوني.

 ***

[1]خالدة سعيد، فيض المعنى، دار الساقي، ط. 1، بيروت، لبنان، 2014، ص. 39

اترك رد