سامي مظلوم  قارئًا رواية “حدثَ في أيام الجوع” للدكتور جميل الدويهي:  اللقاء الفكريّ المصيريّ والرسوليّ والإنسانيّ بين جبران والدويهي

 

سامي مظلوم  

ملبورن- أستراليا

“كانت القرية هادئة وليس فيها سوى قليل من الرؤوس التي تعلو وتتحرك. رؤوس لا يملك أصحابها شروى نقير، يبحثون عن شيء أضاعوه، وينبشون القمامة من أجل هدف عظيم هو الحياة… الحياة تطلع من القمامة … من رائحة الموت، والموتى كثيرون لكنهم ما زالوا يتنفّسون ويسيرون على أقدامهم ولا يعلمون متى تأتي الساعة” (من رواية الأديب جميل الدويهي)… ويصرخ جبران العظيم : “مات شعبي جوعاً، وأنتم يا سلاطين بني عثمان السبب والمُسبّب” (مات أهلي لجبران) .

جميل الدويهي ابن قصيدة منسوجة من خيوط الحياة، فيها أنين الذات وأحلامها، وفيها آلام شعبه ومعاناته… جميل دويهي شاعر  أبياته مُرصّعة بألوان الحبّ وأريج تلك الربوع النابضة بوجدانياته الرائعة… أسمعه يصرخ عندما تتألم الإنسانيّة ويبكي الأطفال في أسرّتهم وتخلو البيوت من الفرح… وقتها يجفّ حبر الكلمات وتتساقط الحروف ضحايا في أبراج مُشيّدة… حقاً إنه اللقاء الفكري المصيريّ والرسوليّ الإنسانيّ بين الرجلين، وإنه النبوغ المُشعّ من نفسيّة الإنسان – المجتمع، فنسمع صوت الوجدان مِن جبران ومع هذا الجميل… جبران من مُغتربه الأميركانيّ يصرخ : “كفى يا أبناء الأفاعي”، ونسمع صداه مع الدويهي من مُغتربه الأسترالي: “أصبحت لقمة العيش تُساوي الوجود”.

الدكتور جميل الدويهي، إنّي أقرأ جبران وأسمع صُراخه وعبقريّته في سطورك ومؤلّفاتك وأسفارك… أنت تدعو إلى التمرّد في رائعتك “حدث أيام الجوع”، وهي رواية تاريخيّة تنمّ عن جراح جديدة ومُتجدّدة، هي حكايات تؤكدّ صحّة ما تُدوّنه في عطائك الهادف… ومن خلال روايتك نرى التاريخ والأدب مِن سلالة واحدة، والشعر لا يفترق عن النثر بأيّ حال…

أنت يا صديقي تلتقي في كتاباتك مع عِلم التاريخ بمسؤوليّة ومعرفة وحكمة، لأنّ التاريخ هو المخزون التراكميّ للأمم والشعوب، وهو مُستودع الوعي واللاوعي الجماعيّ، وهو ديوان البشر بصعودهم وهبوطهم، بقيَمهم وسفاسف أفكارهم. يقول جبران: وتسألونني مَن نحن؟ نحن أمّة تحتضر ولا تموت، قد احتضرت ألف مرّة ولم تمت…

وأنا معك ومع جبران العظيم، معك أتّفق أنّ السنوات الماضية وحتّى الساعة، كانت الحياة فيها صعبة للغاية وشعبنا يُعاني الكثير… ونعم أصبحت لقمة العيش تُساوي الوجود… هذه الصورة الأدبيّة الرائعة عند الدكتور جميل الدويهي هي من فضائل المعرفة في وجدانه، فجّرت فيه معاناة عميقة ووضعته أمام تجربة نفسيّة وفكريّة أليمة، لكنّها ثريّة في الوقت نفسه… فهذا النوع من أدباء الحياة وبحُكم وعيهم، لا يحيد عن ثوابته مهما كانت الأثمان باهظة. ونرى من خلال هذه الرواية استنفاراً للوعي، لمجابهة المنافقين والمتزلّفين، بأساليب راقية، تقوم على مبدأ  الإستيعاب بعيداً عن معاني الخصام والحقد، لأنّ المعرفة ليست مُغلقة، بل هي انفتاح دائم ومستمرّ لا يُغلق إلاّ بانتهاء الحياة… ومن يؤمن بهذه الحقيقة يتقبّل ما تجرُّه عليه من هموم ومشاقّ، وهكذا يبقى موضع ثقة وصاحب رسالة وأنموذجاً راقياً في عالم الفكر والمعرفة… تلك هي قناعتي في أدب الدكتور جميل، وجدتُها في شعره، والشعر هو انعكاس الداخل، فيه روائح النفس، وثقوب الألم، وهو الحرارة المتصاعدة من المجامر الملتهبة في أعماقه، والمحمّلة بالرؤى والأحلام والأشواق والأماني والخيبة والغصّة والإنكسار… وفي نظرة الشاعر إلى الحياة والكون والفنّ والجمال، فعل رجاء وبشارة بزوغ الفجر من الظلام الدامس، وهي هي المسؤوليّة التاريخيّة لرسالة أدب الحياة… هذا الأدب هو كالحبّ الذي لا يغيب ولا يذبل، فيبقى متحركّاً في وجودنا، لأنّه زاد روحيّ – مادّيّ (مدرحيّ) يُفجّر في ذواتنا الينابيع التي تُرطّب الزمن القاحل، وتجعلنا نطرد الدجى بما نختزن من النور في ذكرياتنا الدافئة…

وتسألونني: مَن نحن؟ وفينا صدى الوجدان، وإنّه ألم ووجع وجوع وعذاب إنسانيّة حزينة… بكاء الأطفال في أسرّتهم ، ومتى يعود الفرح لتلك الديار؟ ومتى يعود السلام إلى عالمنا الغارق في النزوات وفوضى المفاهيم؟!

ومع الدكتور جميل الدويهي نحن متفائلون ومكافحون بسلاح الكلمة الواعية، وبالبطولة المؤمنة سندحرج الحجر ونخرج من الفوضى والشكّ إلى الثقة والوضوح… نحن نمشي في النور الذي أُعطيَ لنا… نشهد للحقّ حتى الرمق الأخير… أمّا إذا تفوّق علينا الباطل بشروره كما نُعاني هذه الأيام الصعبة، فإنّي أشهد وأقول: إنّه وإن لم يبقَ سوى رجل فرد وامرأة واحدة منّا، فذلك الرجل سيكون شاعراً نبيّاً ، وتلك الإمرأة ستكون أمّاً لشعب جديد… لأنّنا نحن القضاء ونحن القدر، وإنّ فينا قوّة… والسلام.

***

*من كتاب الجلسة الحواريّة حول رواية الأديب جميل الدويهي ” حدث في أيّام الجوع” – مشروع الأديب د. جميل الدويهي للأدب الراقي – سيدني النهضة الاغترابية الثانية – تعدد الأنواع.

اترك رد