مقعد على بحر النيل

 

  الكاتبة صفاء عبد المنعم  

 

(قاصة، وروائية. وباحثة بالأدب الشعبي، كاتبة أطفال. تقيم ورش حكي، وورشًا لتدريب الأطفال الموهوبين. ‎عضو اتحاد كتاب مصر‎)

 

كان تدفقا جميلا للغبطة التي أشعر بها، عندما سمعت صوت الموسيقى أتيا من بعيد من أحد المراكب السيارة على صفحة نهر النيل، وأم كلثوم تشدو برائعتها(شمس الأصيل) أنا وحبيبى يا نيل نولنا أمانينا، مطرح ما يسري الهوى، ترسى ما مراسينا.

شعرت بنشوة الوجد، وأنا في حضرة الموسيقى لا يسعني إلا أن أندمج كاملة معها، ولا أشعر إلا بروحي التواقة للحب والولع أن تستعيد تلك الأيام في وحدتها الدائمة، إنه الصمت سيد الكلام، يمكننى أن أظل صامتة لساعات طوال، وأنا أستعيد بداخلي حلاوة كل الأيام الماضية، والموسيقى الداخلية تتدفق فى عنفوان شديد، في هذا الحين تتولد اللذة والشقاء، والحب والبهجة، والحزن والفقد، وكل الغرائز الإنسانية الهاربة تأتي دفقة واحدة، وأنا فى حضرة النيل والسحر والموسيقى، وأشعر لحظتها أنني لم أحب الحياة بهذا القدر الكافي من العنفوان الداخلي

يتولد الفرح من رحم المعاناة، والسعادة تنبثق من قمّة الحزن.

يا إلهي، لا تجعلنى أحزن بشدة مرة أخرى، ولا تدخلني في أختبار لا أقدر عليه.

عندما أكون فى حالة نشوى منفردة، يندفع الحزن من داخلي متدفقا في حالة سعادة وفرح، كأنه يريد الخروج على دفعات متتالية وسريعة، إنه يتدفق تدفق الموسيقى، وأجدني أغني بصوت حنون مع الأغنية بشغف وغبطة متواصلة.

آه أيها الحب كم أنت متعب.

آه أيها الحزن كم أنت قاسٍ.

آه أيتها السعادة كم أنت هاربة وبعيدة.

وينبعث الحب الدفين من ذاتي، فأجدني بلا شعور أذرف دموعًا ساخنة على خدي وشديدة التدفق.

وأظل أزيحها بيديّ المرتعشتين بعيدا عن عيني حتى تكل يداى فأتركها تنزل على مهل كما تريد مثل ماء منهمر.

كل شىء يدفعنى في هذا الجو الشتوى الدافىء، وعلى صفحة هذا النهر العميق إلى الشعور بالمحبة المفرطة الدهشة.

إنها الموسيقى هى التي فعلت فعلتها بى.

إنها العزلة هي من عمقت شعورى بالحزن.

إنها الحياة الصاخبة والمؤلمة أحيانا هى التي تدفعني إلى سرقة بضع دقائق من الوقت لأعتزل العالم، وابقى هنا وحيدة وسط هذا الصخب الًهادئ والممتع من لذة الحياة.

هناك نغمات تتملكنى عند سماعها، مع سحر الصوت، وتدفق الموجات الصغيرة أمامى، تلهو فرحة خلف بعضها البعض بلذة تتجدد فى كل مرة أذهب فيها إلى هذا المكان المنعزل قليلا، لقد أصبح متعتي الفقيرة، والغير مكلفة في هذا الزمن الاستهلاكى الضحل.

إننى الآن أحب عمليات الإخراج والإدخال المدهشة من وإلى ذاتى.

إدخال البهجة والسرور، وإخراج الحزن الدفين المتنوع فى الروح.

يا إلهى لماذا جعلتنى أحب واتعلق بكل من حولى رغم قسوة الظروف؟

وأستدعاء الشخصيات التي دخلتني بحب في لحظة صفاء نادر، والغبطة بخروجهم أمامي الآن فرادى على صفحة هذا النهر العظيم، يرقصون ويبتهجون أمامي مع الموجات الصغيرة اللاهية والمداعبة لهم.

إنهم الآن يشبهون راقصات الباليه الصغيرات في بحيرة البجع فى انحناءات الجسد ونضارته، والتحليقات الرائعة، والموسيقى المأسوية المنبعثة من الداخل، يطفو على السطح في سرعة وتدفق.

إنه السحر الخاص بنا.

إنها النشوى العارمة التى تتدفق طازجة من داخلنا، إنها تغسلنا من الداخل بخروجها الفذ، مثلما يغسل المطر المنهمر أوراق الشجر من الغبار والأتربة.

إنه الحضور المتدفق، المهووس للأحباء والأصدقاء.

إنه الخروج الآمن للروح بالنسبة لهم في لحظة توجع الروح المحبة والمندهشة بوجودهم.

إنهم يخرجون فرادى وعلى دفعات متدفقين عبر الأفق الممتد، انها النشوى، إنه السحر.

إنها متعة الحرية، أن تكون وحيدا على متن باخرة تنقلك من مكان إلى مكان، ومن ضفة الى ضفة أخرى.

لقد أخترق أذنى الآن صوت نسائى قريب من الفتيات الواقفات خلفى يلتقطن بعض الصور، سمعت صوتا يخترق أذنى بحدة عندما قالت أحدهن(والله ممكن أمسح صورتك من على الأستجرام، وحط لك بدل منها صورة وأنت معفنة) ثم ضحكت الأخرى وقالت بصوت أكثر أنفعالا: لأ يا حبيبتى فوقى لنفسك أنا ممكن أحط لك صورة (خرة) على الفيس وأخلي كل الناس يشفوها، فوقي لنفسك ياروحى، وأعرفى أنت بتكلمى مين.

ثم فتحت ثالثة السبيكر وأخذت تتحدث مع صديقة لها في العمل لم تستطع حضور الحفل ثم أجتمعن جميعا حول الموبايل واخذن يتحدثن ويلوحن لها بقوة وسعادة.

كان هناك ثلاثة شباب يجلسون على المقعد الأخير في حالة من الاسترخاء واللامبلاة بعد أن قمعتهن البنات عندما أرادوا التطفل عليهن وفرض ذكورتهم الوقحة بالقوة.

ولكن عندما قالت أكبرهن سنا: نعم يا حيلتها أنت وهو، وكشرت لهم عن أنيابها بإشارة من يدها تجاه الحذاء الذي فى قدمها.

جلسوا، وأخذوا مواقع المتفرج للحفل، رغم تململهم احيانا بين كل ضحكة وضحكة تصدر عن البنات وهن يقمن بتصوير بعضهن البعض، إن المزاج الذكوري الذي يملك القوة التاريخية يريد إقحام نفسه عليهن عنوة.

وهن بحكم الآن يملكن القوة والغلبة واللسان السليط ايضا، فكان الاحتفال يتم اختراقه بالنظرات والحسرات بين لحظة وأخرى.

حتى أنا الجالسة منفردة على مقعد وحيد بعيدا عنهم جميعا، وبين لحظة واخرى أسرق بعض النظرات واضحك، وأحيانا أهمس همسا داخليا بكلمة أحسن، بما اننى امرأة كنت معجبة بالحرية التي تشعر بها البنات منفردات.

وتضامنهن مع بعضهن البعض.

وبين لحظة وأخرى، أنظر نحو الشباب، أتتبع تذمرهم وهزيمتهم واحباطهم وهم يجلسون خلف مقعد البنات.

يتربصون بهن، وينتظرون.

دائما ما أفعل هذا، منذ فقدت كثيرا من الاحبة والأصدقاء، أسافر كثيرا، أهيئ نفسى أننى في حالة فقد دائم، وترحال مستمر، أركب الباص أو القطار، أو حتى الأتوبيس النهري، وانتقل من مكان إلى مكان، فكرة الانتقال في حد ذاتها، تشعرنى بالاغتراب الدائم والحميمية المفرطة تجاه نفسى، أنظر من النوافذ المفتوحة على الدنيا، على السماء والأرض والناس، والخضرة والماء، أصادف وجوهًا جديدة في رحلتى العبثية، لأنها قد تكون لبضع ساعات، أجلس بجوار الباعة الجائلين على الأرصفة، وخاصة باعة الشاي والترمس وحمص الشام، يقوم البائع بتنظيف كرسي من البلاستيك. واطلب منه في سعادة بالغة كوبا من الشاي أو القهوة وأنا أضحك: معلقة سكر واحدة وحياتك.

أطيل النظر على المارة والنوافذ والبيوت.

 

اترك رد