يصدر قريبًا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ببيروت كتاب “الخطاب الشعري على الفيسبوك”، للباحث اليمني د. عبدالعزيز الزراعي، في ما يلي مقدمة الكتاب بقلم الدكتور عماد عبد اللطيف.
منذ كتب مارشال ماكلوهان في أواسط ستينيات القرن العشرين عبارة (الوسيط هو الرسالة) اهتم الباحثون بأثر وسائل تداول النصوص والخطابات في بناء هذه النصوص والخطابات، وتأثيرها، وأثرها. كانت عبارة ماكلوهان غامضة مبالِغة متحدية، أقرب إلى لغة الساسة منها إلى لغة العلماء. مع ذلك، وربما بسبب من ذلك، اكتسبت شهرة وأثرًا هائلين. وتراكمت ذخيرة من البحوث التي فحصت بأدوات متنوعة أثر الوسائط في النصوص والخطابات. لكن للأسف، فإن قليلا من هذه الدراسات أُنجز على نصوص وخطابات عربية، وأقل منها تلك التي عُنيت بدراسة أثر الوسائط الافتراضية في الخطابات الأدبية. ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب الرائد الذي يستقصي بدقة وإحاطة أثر واحد من الوسائط المعاصرة الأكثر شهرة في عالمنا الراهن هو الفيسبوك، على واحد من الأنواع الأدبية الرئيسة في عالمنا العربي هو الشعر، في بلد لا يدانيه في عظمة تاريخه القديم إلا عظمة مأساته الراهنة، هو اليمن.
يسعى كتاب ” الخطاب الشعري على فيسبوك: مقاربة لسانية رقمية في نماذج مختارة من الشعراء اليمنيين” إلى دراسة أثر اتخاذ الفيسبوك وسيطًا لتداول الشعر في بنية هذا الشعر، وتداوله، وقراءته، والاستجابة له. طوَّر المؤلِّف، الدكتور عبد العزيز الزراعي، منهجية خاصة لفحص هذا الأثر، ألَّف فيها بين إجراءات تحليل متنوعة، مأخوذة من حقول اللسانيات والسيميائيات، ودراسات الشعرية، وتحليل الخطاب، وبلاغة الجمهور، وغيرها. وتمكَّن من تشييد منهجية تتسم بالتماسك والفعالية، فحص بواسطتها الأبعاد المختلفة لما يمكن أن أسميه “فسبكة الشعر”. فسبكة الشعر مصطلح أقترح أن يُستعمل للإشارة إلى عملية تطويع الشعر ليتلاءم مع خصائص وسيط معين هو الفيسبوك. تزداد أهمية هذا الوسيط في حالة شعراء اليمن بالنظر إلى أنه أحد الوسائط القليلة المتاحة بسبب افتقاد وسائط تداول الشعر مثل الصحف والمجلات والقاعات والمجالس والتلفاز والإذاعة، وغيرها. وتشمل قائمة الظواهر الشعرية التي يمكن (وأحيانًا يجب) أن تخضع للتطويع في فضاء الفيسبوك ما يأتي:
-موضوعات القصيدة، وما يمكن أو لا يمكن لها أن تعالجه.
-لغة القصيدة.
-إيقاع القصيدة.
-توزيع أبيات القصيدة على فضاء الصفحة المرئية.
-طول القصيدة.
-التراكيب اللغوية للقصيدة.
-إحالات القصيدة إلى الواقع، والعلاقات المعقدة بين عالمها والحياة.
-التهجين العلاماتي للقصيدة بواسطة علاقات المصاحبة والدمج بينها وبين الصور والإشارات والمقاطع المصورة…إلخ.
-أثر القصيدة في قرائها، واستجابات المتلقين لها.
تمكن د. الزراعي من فحص أثر فيسبوك على معظم هذه الظواهر، موظِّفًا إطارًا تحليليًا أتوقع أن يكون ملهمًا للباحثين في هذا المجال. وفي الحقيقة، فإنني أتوقع أن يكون هذا الكتاب موجهًا لكثير من الدراسات بعده، بفضل جدَّة موضوعه، وراهنيته. علاوة على الكتاب يكشف عن تمكن الباحث من الأسس النظرية لبحثه، على نحو ما يتبدى في إحاطته بالأبعاد النظرية المتنوعة للبحث، ودقة استعماله للمصطلحات، وصياغته للمفاهيم، وإلمامه بالأدبيات ذات الصلة بموضوع بحثه. كما يكشف الكتاب عن خبرة متراكمة في تحليل الخطاب الشعري بأبعاده الجمالية المتنوعة، وعن حساسية تحليلية خاصة، ربما استمدها من طول خبرته بالنص الشعري. وأخيرًا، يكشف الكتاب عن عمق إحاطة مؤلِّفه بموضوع بحثه، وهو الشعر اليمني المنشور على الفيسبوك في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. وتتجاوز معرفة المؤلِّف الإحاطة بالنصوص وأصحابها إلى الإحاطة بظروف إنشادها وبواعثها، وآثارها، والعوامل غير الخطابية المؤثرة فيها. وكانت لغة الكاتب الرصينة الدقيقة خير أداة للتعبير عن أفكاره وأطروحاته.
يزداد تقديري لهذا الكتاب بالنظر إلى قدرته على دمج مقاربات تقليدية وأخرى معاصرة في دراسة الشعر العربي، دون أن يظهر أي تنافر أو اضطراب منهجي. فالمنهجية التي طورها د. الزراع لدراسة القصائد المختارة جمعت بين التحليل التركيبي والإيقاعي والمجازي والدلالي والتداولي للشعر من ناحية وتحليل أبعاده الرقمية وبلاغة جمهوره واستجاباتهم من ناحية أخرى. ويقدم الكتاب، من هذه الزاوية، درسًا مهمًا في كيفية دمج بلاغة الجمهور في أطر التحليل التقليدي للشعر العربي.
تعيش معظم بلادنا العربية مفارقة بين الواقع والإبداع. فالواقع بائس محبِط، يخنقه الاستبداد، والفساد، وتقطِّع أوصاله الصراعات والنزاعات. لكن من قلب هذا الواقع الرديء تطل علينا إبداعات مذهلة في روعتها وجمالها. هذه المفارقة بين الواقع والإبداع تطل برأسها على مدار صفحات هذا الكتاب، نراها في مدونة التحليل في شكل قصائد مفرطة الجمال تصوِّر واقعًا مفرط التشوه والقبح، ونراها في تحليلات تتسم بالانسجام الإجرائي والتماسك المنهجي والمحاجّة العقلانية الرشيدة، في مواجهة عالم يحكمه التشظي، واللاعقلانية، واليأس. وكأن قدرنا أن نحوِّل مأساة حياتنا العامة إلى ملحمة بحث وإبداع.
هذه مقدمة كتاب سعدتُ بكتابتها لكتاب “الخطاب الشعري على الفيسبوك”، للباحث اليمني المتمكن د. عبدالعزيز الزراعي، يصدر الكتاب خلال الأسابيع المقبلة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ببيروت.