عفيف قاووق-لبنان-
تغوص الكاتبة صفاء الحطّاب في بواطن تاريخ الحضارات لتحفر عميقاً بحثاً عن “النبطيّ المنشود” الذي سيعيد حضارة الأنباط ويبعث مجدها من ركام الفقد والضياع، بعد أن أمسَت حضارة منسيّة سواء عن سهوٍ أو قصد من قبل العديد من الباحثين.
على مدى ما يقارب المئة صفحة تنقلنا صفاء الحطّاب إلى أماكن متعدّدة بدءاً بعاصمة الأنباط مدينة البترا في الاردن إلى مصر، ومن ثم إلى تبوك في المملكة العربيّة السعوديّة وصولا إلى إيطاليا ومؤتمراتها العلميّة.
رواية حرِصت فيها الكاتبة على عدم تشتيت القارىء بكثرة الشخصيّات وتفرّع الأحداث، واقتصر الأمر على شخصين إثنين، مُعمّر الأردني والدكتورة سونيا إمام -الباحثة المصرية- واللذان قبل أن يجمعهما الحبّ والزواج، جمعهما الشغف بالبحث والتدقيق في الحضارة النبطيّة، وإماطة اللثام عن كل ما هو مندثر وملتبس في تلك الحضارة التي ساهمت في إغناء الحضارات المتعاقبة.
بدايةً لا بدّ من التوقّف أمام الإهداء الذي خُصَّ به الباحث الاردنيّ، “الذي أفنى سنوات عمره في جبال البترا بحثاً عن حقيقة المكان، إلى الملهَم الأستاذ مأمون على معمّر النوافلة” وكما تقول الكاتبة كانت له مساهمة أساسيّة في مراجعة الرواية ومادّتها العلميّة المبنية أساسا على نتائج أبحاثه الفلكية الآثارية في المكان وربّما نتيجة لمساهمته هذه اختارت الكاتبة لبطل روايتها اسم مُعمّر.
تبدأ حكاية معمّر أو ألنبطيّ المنشود، عندما تأخذه إغفاءة في كهف من كهوف البترا محتمياً من شدّة العاصفة، ليرى فيما يرى النائم، أميرة جميلة ترتدي رداءً نبطيّاً تقول له: “معمّر مرحباً بك في عالمنا، انتظرناك طويلا أيها النبطيّ القادم من المستقبل”(10).
ليبدأ في استرجاع واستذكار ما كانت عليه المدينة. وهنا يدخل المكان كعنصر أساسيّ في متن الرواية، حيث أسهبت الكاتبة في توصيف الأمكنة وما اختزنته من معلومات ومنحوتات أثرية، فتصف المدينة، كما تراءت لمعمّر، بأنّها: “مدينة تنبض بالحياة والتطوّر، ماء يتدفّق إلى البيوت الحجريّة من السدود الكبيرة، بساتين خضراء تعجّ بالمحاصيل، إضافة إلى المزاول الشمسيّة والمائيّة لقياس الوقت…” ، لينتقل بنا إلى الحديث عن الكهوف التي كان الأنباط يستخدمونها لأغراض البحث العلميّ وعلوم الفلك، أما الصناعة الرائجة عند الأنباط، فكانت استخراج القار وتحويل النحاس إلى أدوات علميّة وحياتيّة، إضافة إلى صناعة الزجاج وتصنيع الفخّار بأشكال وأحجام متنوعة (12). وأيضا مبنى الخزنة، الذي يحتوي على مئات المخطوطات، وكتب توثّق كلّ العلوم النبطيّة. لكن الآن “اختفى كلّ شيء وأصبح المكان يعجّ بالتماثيل، ويختفي العلماء ليحلّ مكانهم كهنة المعبد الذين حوّلوا مدارس العلماء إلى معابد للأصنام، ونتائج دراساتهم إلى تنجيم وشعوذة وتماثيل باهتة”.
إن تحوّل المكان من منارة سماويّة ترتقي بساكنيها نحو النجوم، إلى كهوف حجريّة تشكّل ملاذاً بدائيّاً لسكان المنطقة والعابرين بها (16)، دفعت معمّر ليقارن بين ما كانت عليه المدينة النبطيّة وما آلت إليه، وشكّلت لديه صرخة وإدانة ودليل صارخ على مدى التراخي في كيفيّة التعاطي وأهمية المواكبة الجدّيّة للتطوّر وحركة البحث العلميّ للمحافظة على هذا الإرث الحضاريّ العظيم.
وكما أسلفنا فقد اعتمدت الكاتبة في إيصال الرسالة المتوخاة من هذه الرواية، على معمّر والباحثة المصرية الدكتورة سونيا إمام، هذه الرسالة التي تراها سونيا رسالةً واحدة ومشتركة تقول لمعمّر ” رسالتنا واحدة في مواجهة الموروث الذي يسيء لنا ويهضم حقوقنا في إثبات ما وصل إليه الأجداد من علوم ومعارف أغنت الحضارة الإنسانيّة” (41). هذا التعاون فيما بين معمّر وسونيا ما هو سوى تأكيد على تكامل الحضارات وتلاقيها، فهي تقارب أبحاثاً متشابهة وإن بوسائط مختلفة. ومن أوجه التشابه هذه، ما نجده بين المنقلة الفلكيّة على رأس الهرم الأكبر في مصر وما بين الجداول الزمنيّة التي تسجلّ حركة النجوم والأجرام السماويّة، وهي المنقلة الفلكيّة النبطيّة. وأيضاً نجد تناغماً وتشابهاً ما بين معبد دندرة المصريّ والدائرة الفلكيّة فيه، وبين موقع قصر عمرة الأثريّ ودائرته الفلكيّة في صحراء الأردن الشماليّة، مع أوجه اختلاف بين الدائرتين، فالدائرة الفلكيّة النبطيّة تمثّل قبّة مقعّرة، وهي أوّل قبّة فلكيّة في العالم، تصوّر القبّة السماويّة والابراج الفلكيّة والمجموعات النّجميّة، أما الدائرة الفلكيّة المصريّة، فهي على شكل خريطة مسطّحة للسّماء.
لقد بيّنت الرواية أنّ مهمّة إعادة إحياء الإرث الحضاريّ وإثبات عظمته وجذوره، لم تكن بالمهمّة السهلة على معمّر والدكتورة سونيا، فقد اعترضتهما العديد من الصعوبات، ومن هذه المعوقات ما واجهته الدكتورة سونيا التي تؤمن بأن “الحضارة المصريّة لا يُمكن أن تكون حضارة جنائزيّة فقط، ولا يُمكن أن تقوم دون الإعتماد على علوم هندسيّة وفيزيائيّة وكيميائيّة متطوّرة “. إلا أنها قُوبلت بمعارضة شديدة من قبل زملائها علماء الآثار الذين رغبوا بالإبقاء على ما هو قائم على انبهار السائح وانجذابه إلى كل ما هو غامض. ولم يكتفوا بهذا، بل عمِد بعض معارضيها إلى مسح ورقتها البحثيّة من على جهاز اللابتوب الخاص بها، حتى لا تتمكن من تقديم نظريّتها ومقترحاتها العلميّة حول الطبّ في الحضارة المصريّة القديمة.
لم يكن الحال مع معمّر في الرواية بأفضل مما تعرّضت له الدكتورة سونيا، لقد كان هاجسه أن يتمكّن من إعادة موقع مدينة البترا كموقع أبحاث فلكيّ، فهو لا يريد أن تبقى المدينة (البترا) صامتة بعد اليوم، لا بدّ أن تنطلق وتبوح بما تملكه من عظمة وسحر. ولذا قام باستحداث مرصداً فلكياًّ في منطقة البيضا لمراقبة النجوم، كما كان يحدث أيّام الأنباط، ليفاجأ في أحد الأيّام بأنّ هذا المرصد قد دُمّر بالكامل، ظاهريّاً بفعل انهيار صخريّ دون أمطار أو سيول، ولكنّ الشكّ كبير في أنّ عنصراً خارجيّاً متضرر مما ينوي معمّر القيام به، كان وراء عمليّة التدمير هذه، لأنّه يريد الإبقاء على طمس هذه الحضارة، وعلّق معمّرعلى تدمير المرصد بالقول “من يمكن أن يستفيد من بقاء هذه المدينة العلميّة صامتة إلى الأبد؟، من يمكنه تحطيم فكرة علميّة بدافع سخيف؟ وهل السائد والمعروف أفضل من العلم والحقيقة؟” (81).
كلّ هذه المعوّقات التي واجهت معمّر وزميلته سونيا، لم تثنيهما عن المضيّ قدما في التعريف بالحضارة النبطيّة، وذلك من خلال المشاركة في المؤتمرات العلميّة والبحثيّة في الخارج، ومنها مؤتمر روما، حيث قدّم معمّر ورقته البحثيّة مدعّمةً بأدلّة وإثباتات علميّة معلناً ” أنّ مجد الحضارة النبطيّة وإرثها الحضاريّ ظاهر بوضوح لا يحتمل الشكّ أو اللبس، وموثّق بمنجزات ماديّة ملموسة ومعلومات مستمدّة من تفاصيل مدينة البترا (32).
.. الجدير ذكره، أن الكاتبة أشارت إلى عمليّات سرقة القطع الأثريّة من قبل الغير ومن هذه القطع المفقودة البوصلة النبطيّة التي تستعمل لمعرفة الاتجاهات براً وبحراً وكانت تملأ بالماء ويوضع بها إبرة مغناطيسية حرة الحركة ، ولم يكتفوا بسرقة القطع الأثرية بل وصل بهم الأمر لسرقة العلوم البحثيّة ونسبها لهم، لذا كان لا بدّ من تسليط الضوء على الإرث الحضاريّ والثقافيّ الذي تمثّله حضارة الأنباط، والتي كانت مدينة البترا الأردنيّة مسرحاً ومنطلقاً لها، وتعلن أن الأنباط أصحاب حضارة علميّة يُعتدّ بها، وقد اتّخذها العديد من الباحثين والعلماء قديما مرتكزاً لأبحاثهم واكتشافاتهم لكن وللأسف أغفل هؤلاء أصل وجذور تلك الاكتشافات، ونسبوها إلى بلدانهم وحضارتهم، وتناسَوا ما قدّم لهم الأنباط من معلومات واكتشافات. وإن “معظم الأصول النبطية قد ذابت وتوزّعت في المؤلّفات العلميّة اليونانيّة القديمة” (63) حتى أن بعض المراجع العلميّة في العالم تروّج لفكرة أنّ الأنباط قد أخذوا العلوم عن غيرهم (45).
نهاية جميلة ومشرقة انتهت إليها الرواية بأن توجت جهود معمَر “النبطيّ” كما تخيلتها الكاتبة ونتمناه جميعا بمنحه العديد من الشهادات العالمية التي تثبت للعرب الأنباط سَبقَهُم الحضاريّ في علم الفلك، وما يرتبط به من علوم أخرى. ومن بين هذه التكريمات منحه الميداليّةَ الذَهبيّةَ للجمعيّة الفلكيّة الملكيّة في بريطانيا.
ختاما شكرا للكاتبة صفاء الحطّاب على هذه الرواية الماتعة التي سمحت للقارىء بالتعرف ولو بالنذر اليسير على تلك الحضارة التي ستبقى مدينة البترا شاهدة على عظمتها، وبالمناسبة ولكوني من سكان مدينة في جنوب لبنان تدعى “النبَطيّة” فلا ضَير من أن أشير الى بعض ما ذُكر عنها، حيث تذكر كتب التاريخ أن قوافل الأنباط التجارية – والتي كان مركزها مدينة بترا الأثرية في الأردن – أخذت تغدو وتعود بين مناطق الداخل وساحل صيدا ومرفأها البحري، وأقاموا في المكان الذي حمل اسم النبطية محطّة قوافل تجاريّة، ثم أماكن للسكن بصورة مؤقّتة، ثم استوطنوا بصورة نهائيّة في المكان فأطلق على المنطقة التي استوطنوا فيها بالنبطية فيما بعد.